18/01/2010 - 07:11

مراجعة المراجعة../ زكريا محمد

مراجعة المراجعة../ زكريا محمد
بدأت الصورة تتضح تدريجيا.
وهي صورة تقول لنا بوضوح ما يلي: إن الرئيس المسالم محمود عباس، يحصل على ما حصل عليه الرئيس المشاغب ياسر عرفات تماما.

أي أننا انتهينا إلى عكس ما افترض الرئيس عباس. فقد جاء بفرضية رئيسية تقول: عرفات وأفعاله الطائشة هي المسؤولة عن الخراب، وعن ضياع فرصة الحصول على دولة. وأنا جئتكم كي أراجع عرفات، كي أصححه، وأغير سياسته، وكي أحصل على دولة بعد ذلك.

وللحق أن الرئيس عباس راجع وصحح وغيّر بدرجة لم يتوقعها أحد.
لكنه، للأسف، وصل إلى ما وصل إليه عرفات: أي الحصول على لا شيء.
لا شيء بالمرة..

أكثر من ذلك، فهو المسالم بشكل يصدم الكثيرين منا، صار مهددا بالموت. الموت ذاته الذي دُبّر لعرفات! وقد أعلن هو ذاته،عن حضور التهديد الإسرائيلي له بالموت، رغم المحاولات اللاحقة لتخفيف هذا الإعلان. قال بعظمة لسانه انه لا يستبعد أن يقتله الإسرائيليون كما قتلوا عرفات!

إذا، الرئيس المسالم ذاته، الذي لا يريد لأحد أن يرمي حتى حصاة على الإسرائيليين ولا حتى ان يرمي وردة عليهم، مهدد بالموت!
تخيلوا؟!
أليس هذا إعلان لبراءة لعرفات، أولا وقبل كل شيء.
إعلان بأن المشكلة لم تكن عند عرفات، بل عند إسرائيل.

نحن نصدّق، ونصدّق جدا، أن ثمة تهديدات بالقتل والإزاحة تصل إلى الرئيس، منذ اللحظة التي قرر فيها أن يربط العودة إلى مائدة المفاوضات بوقف الاستيطان. وقد سمعنا مثل هذا التهديد علنًا قبل أسبوعين من رئيس موساد سابق. إذ هدد بحل السلطة كما حلت روابط القرى، وهدد بالتفاوض مع حماس بدلا عن السلطة.

ويبدو أن مثل هذه التهديدات هي التي أدت إلى قرار سحب تقرير غولدستون من أمام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. الرئيس ينكر ذلك علنا، لكن شهادة الدكتور عزمي الشعيبي عضو لجنة التحقيق في المسألة توحي به: (أشار الشعيبي إلى ان الرئيس أوضح للجنة التحقيق أنه تعرض لضغوطات كبيرة أثناء عرض تقرير غولدستون ولكن تلك الضغوطات لم تكن هي السبب وراء قرار تأجيل التصويت).

صحيح أن الأمر يتعلق هنا بضغوطات أمريكية، لكن الجديد أن صحيفة هآرتس كشفت لنا أن التهديد الأساسي كان إسرائيليًا وليس أمريكا، وأنه جاء مباشرة، وبلا لف ولا دوران. فقد أكدت الصحيفة: "أن طلب الرئيس الفلسطيني محمود عباس من لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة تأجيل التصويت على تقرير غولدستون جاء بعد لقاء متوتر مع رئيس الشاباك. في ذلك اللقاء في أكتوبر برام الله قال رئيس الشاباك يوفال ديسكين لعباس بأنه إذا لم يوقف التصويت على التقرير الخطر، فإن إسرائيل ستحول الضفة الغربية إلى "غزة ثانية" "!! (هآرتس: 17-1-2010).

تضيف الصحيفة أن ديسكين هدد بالتخلي عن إجراءات تسهيل حركة الناس على الحواجز، وسحب ترخيص شركة الوطنية للهواتف النقالة، بما يؤدي إلى خسارة السلطة لعشرات الملايين.

غزة ثانية في الضفة! هذا ما يحصل عليه الرئيس المسالم!
يعني، لم نكن بحاجة إلى صواريخ حماس "العبثية" كي تصبح الضفة مهددة بمصير غزة. فقد كان يكفي أن نوافق على تقرير من الأمم المتحدة وأن نطالب بمتابعته. فالموافق على تقرير غولدستون صاروخ عبثي أيضا. كل فعل مقاومة، مهما كان مقداره، هو صاروخ عبثي.

وهكذا، فالمسالم يهدد بمصير مطلق الصواريخ العبثية في غزة. والمفاوض الأبدي عباس يحظى بما حظي به مفجر الانتفاضات والفوضى عرفات. لا فرق هنا.

وقد استجاب الرئيس للتهديد ديسكين، من دون أن يخبرنا بوجود هذا التهديد، وطلب تأجيل التصويت على تقرير غولدستون. لكن رد فعل الناس أثبت له ولهم أن الأمر ليس بهذه البساطة. إذ يوجد هناك شعب، وهو يتدخل في بعض اللحظات. وقد أدى هذا التدخل إلى إرباك شامل للرئيس ولإدارته. هذا الإرباك جعلهم بحاجة إلى شيء ما لاستعادة الثقة التي ضربت، لذا تمسكوا بشرط وقف الاستيطان، ولو لبضعة أشهر.

لكن هذا الشرط أدى إلى تهديدات جديدة، ومن كل صوب: أنتم هنا لتفاوضوا، وعليكم أن تفاوضوا، بغض النظر عن نتيجة المفاوضات. لا تسألوا عن نتيجة المفاوضات، ولا تتساءلوا عن نهايتها. فاوضوا فقط. ومن يحرد وينزل عن الطاولة، فالويل والثبور له.

والتهديدات بالويل والثبور تتوالى. فنتنياهو يقول في مجالسه عن الرئيس إنه أكثر تطرّفًا من عرفات، في لهجة لا تحاول أن تخفي التهديد بمصير عرفات. أما واشنطن فتقول: انسوا حكاية الضمانات. لا يوجد ضمانات. عليكم أن تفاوضوا فقط. أن تضعوا رؤوسكم في المخلاة وأن ترمّوا من تبن المفاوضات
.
أما أبو الغيط العظيم، الأعظم في تاريخ هذه المنطقة، فينكر حتى ان العرب طالبوا بضمانات. فالضمانات ستطيل أمد الأزمة، وستعكر صفو خطة توريث جمال مبارك. فعلى الفلسطينيين أن يفاوضوا لا من أجل الحصول على شيء، بل من أجل توريث جمال مبارك، بعد أن أكد لنا مصطفى الفقي أن أي رئيس مقبل لمصر لن يأتي دون موافقة إسرائيل!!

وهكذا وصلنا إلى هنا. علينا ان نفاوض من أجل التفاوض، أو أن نفاوض حتى لا تتوقف المساعدات المالية للسلطة، أو أن نفاوض من أجل المحروس جمال مبارك.

هذه نتيجة مراجعة سياسة عرفات من قبل الرئيس!
ألم يحن، إذن، لنا أن نراجع المراجعة؟
ألم يحن للرئيس أن يعيد النظر بالطريق الذي سار عليه؟
ألم يحن لنا أن نتوقف قليلا من أجل مراجعة المراجعة؟

التعليقات