16/07/2010 - 16:59

الأدب والحرب الدائمة../ الفضل شلق

الأدب والحرب الدائمة../ الفضل شلق
على رغم مرور أكثر من 60 عاماً على قيام دولة اسرائيل، وأكثر من ثلاثين عاماً على اتفاقية كامب دايفيد، وتسعين عاماً عاما على مؤتمر فرساي للسلام، وأكثر من تسعين عاماً على وعد بلفور، وأكثر من تسعين عاما على معاهدة سايس بيكو، وأكثر من 115 عاماً على مؤتمر الصهيونية اليهودية العالمي، وأكثر من ذلك بخمس سنوات على مؤتمر البروتستانتية العالمية الصهيونية، ورغم الحرب الدائمة المتقطعة التي تلفّ المنطقة بتهديدات الحرب، أو التحضيرات للحرب، (حين لا تكون الحرب واقعة حقيقية)، رغم كل ذلك ما زالت اسرائيل بحاجة في علاقتها مع العرب إلى التطبيع؛ ورغم ذلك ما زال العرب أنفسهم بحاجة إلى التأديب. تعرف اسرائيل والمجموعة الدولية الداعمة لها أن التطبيع الحقيقي لن يحدث دون تأديب العرب.

على العرب أن يتأدبوا بالقوة او بالاقناع، غالباً ما يكون الاقناع بالحرب، لذلك تحتاج المنطقة الى حرب، بل الى مزيد من الحروب، بل الى حرب دائمة وإن تكن متقطعة. تحتاج اسرائيل ومن يدعمونها من العرب أن يقولوا ويعلنوا صراحة قبولهم باسرائيل بالعمل والقول؛ يحتاجون إلى أن يعلن العرب أدبهم المتعلق باسرائيل فعلاً وقولاً.

على العرب كأفراد ومجتمعات أن يتأدبوا بالعمل؛ ويكون التأدب بالعمل اقتناعا بقواعد السلوك ولو كانت هذه القواعد يضعها الغير. المعروف أنك عندما تتقيد بقواعد يضعها الغير فإنك تفقد حريتك. ليس المطلوب من العرب حريتهم. المطلوب منهم القبول والخضوع والبرهان على ذلك. دون ذلك لن تُقبل منهم كل أنواع السلوك الأخرى. والمطلوب أن يقبلوا باسرائيل ويخضعوا لها، ويبرهنوا عن قناعة أو اقتناع بذلك.

المطلوب أن يعبّر القبول والخضوع عن معتقدات النفس الداخلية، وأن لا يخفوا شيئاً، أن لا يخفوا مشاعرهم. ما دام العرب لا يفبركون مشاعر جديدة مفعمة بالحب للصهاينة والصهيونية وللغرب والامبريالية فإن خضوعهم واستسلامهم وكل التسويات التي يعلنونها لن تكون مقبولة، وسيبقون معرضين للحرب الاسرائيلية والغربية. مشكلة العرب الآن، بعد مبادرة قمة بيروت العربية في عام 2002، هي انهم ليسوا مؤدبين كفاية. اسرائيل تعرف ذلك؛ الغرب يدرك ذلك؛ كلاهما على قدر كبير من الذكاء.

عندما يصير المرء مؤدبا، سواء كفرد أو مجتمع فانه يخضع لقواعد يضعها الغرب؛ ومن يخضع لقواعد سلوكية يضعها غيره يفقد حريته. للأدب وجه آخر، لا يقل اهمية، والأرجح أنه فائق الاهمية، هو أدب الكلام واللغة والمجاز والخطابة. هو الأدب الذي يُكتب، أو الذي يحمل امكانية أن يُكتب، حتى ولو بقي شفهياً.

يحتاج هذا الادب الى قواعد توضع للغة؛ يضعها أهل اللغة. يضع أهل اللغة قواعد تفيد أصحابها. مهمة الأدب الأولى هي أن يُفصِحَ؛ لكي يُنصِحَ الأدب، يتطلب الأمر ان يكون في النفس ما هو محجوب. إذن، مهمة الادب ان يكشف ويحجب، أو فلنقل أن مهمة الأدب ان يكشف ما يتيسّر الافصاح عنه مما هو محجوب ومستور.

يعرف خبراء التحليل النفسي أن النصوص المكتوبة تفصح وتحجب، وأن المحجوب هو الذات الخفية التي تقرّر ما يُكشف عنه؛ وأن ما يكشف عنه هو نسبة ضئيلة من المحجوب. كشف المحجوب يتطلب التدخل الالهي أحيانا لأنه على قدر كبير من الأهمية والضخامة.

تريد اسرائيل والغرب، الذي يدعمها، الوصول إلى المحجوب العربي، تريد ان تلعب دور الآلهة وهذا مستحيل. هذا هو في الحقيقة مأزق اسرائيل ومن وراءها. اسرائيل والقوى الداعمة لها هم الذين يحكمون هذا العالم. هم حكومة هذا العالم بالمؤسسات العالمية التي يديرونها من مجلس الأمن الى الامم المتحدة إلى البنك الدولي إلى صندوق النقد الدولي إلى منظمة التجارة الدولية.

والأهم من كل ذلك الجيوش التي يملكونها وينشرونها وينشرون قواعدها حول العالم. لديهم أيضاً حلف الاطلسي، والتحالفات العسكرية الأمنية التي يقيمونها لكل مهمة. والمهام يمكن أن تصل إلى الاحتلال وتفكيك الدول التي لا تتأدب. أما الافراد الذين لا يتأدبون فهم يحرمون من أشياء كثيرة، خاصة الحجز على أموال من لديه منها الكثير.

إشكالية الأدب أنه لغة، اللغة تواصل، التواصل يكشف أقل مما يحجب. هذه اشكالية عامة لدى كل البشر والمجتمعات. يريدون الوصول إلى المكنون العربي وتغييره او تدجينه، وهذه مهمة مستحيلة، أو شبه مستحيلة. لذلك يتجهون إلى تغيير الخطاب بهذه اللغة، وربما الى تغيير اللغة نفسها، او تغيير البرامج التي تدرّس بهذه اللغة. يسمون الخطاب الجديد عقلانية أو حداثة؛ ينشئون منظمات مجتمع مدني للقيام بذلك. على هذه المجتمعات أن تتكلم بلغة مختلفة، ربما اختلفت الحروف كما في تركيا منذ 90 عاماً، أو فالحروب التي تشن من اجل ذلك. الخطاب كجبل الثلج؛ يبدو فوق السطح القليل منه، ومن الواجب إعادة تشكيل جبل الثلج كله، ما بدا منه، وما هو غارق تحت سطح البحر وإلا فالحرب.

إشكالية اللغة أنها صدرت بواسطتها المقدسات والكتب السماوية، وما يُعتبر أهم من الحياة، وما يُعتبر لدى الشعوب المحلية سبباً للحياة؛ او ما يعتبر سبباً للمعنى والمغزى لدى هذه الشعوب. المطلوب أن يحل المقدس الاسرائيلي، وهو المقدس الوحيد في أميركا، محل المقدسات العربية وإلا الحرب: لفرض مقدسات جديدة بالقوة.

أرعبتهم هيلين توماس وهي خدمت في الأبيض 50 عاماً لجملة قالتها فعوقبت بالقسر والطرد. أرعبتهم اوكتافيا نصر وهي خدمت في سي ان ان 20 سنة لجملة قالتها فعوقبت بالقسر والطرد. أرعبهم بترايوس لأسباب أخرى ربما فعوقب بوسائل اخرى وخفض مستوى مهامه لشيء قاله ضباطه عنه. أرعبتهم فرانسيس غاي لشيء قالته في العزاء بفضل الله فعوقبت بالتوبيخ. أرعبهم مواطنوهم بما قالوه في جمل قصيرة عن قصد أو غير قصد. فكيف بالعرب وهم مئات الملايين ويحجبون أكثر مما يكشفون، كما هي طبيعة الأمور؟ يتطلب العرب اجراءات أكبر بكثير من الحرب إلى الاحتلال الى تغيير المناهج إلى تغيير اللغة إلى الحرب ووسائلها.

يرعبهم العرب حتى ولو لم يفعلوا شيئاً، حتى ولو لم يقولوا شيئا. يرعبونهم لأن المكنون، وغير المعلن، أكثر بكثير من المكشوف الذي يُعلن. المحجوب يطغى على المكشوف ويقرر غيره، عند الضرورة، أو عندما تتغير موازين القوى.

يحتاج العرب في نظرهم إلى أدب من نوع جديد، إلى خطاب جديد، الى لغة جديدة. هذه أمور يصعب تغييرها. غيرها أتاتورك قسراً بعد أن أصبح بطلاً قومياً. الحكام العرب لا يقلون استبدادية عن اتاتورك لكنهم ليسوا أبطالاً قوميين. ليسوا أبطالا من أي نوع . هؤلاء لا يستطيعون شيئاً ويعجزون، مع جميع القوى التي تدعمهم عن تأديب العرب؟ وهنا تكمن مشكلة اسرائيل والغرب الكبرى. مهما شنوا من الحروب وحروب الإبادة فإنهم لن يستطيعوا تغيير المكنون والمحجوب. مهما انشأوا من منظمات غير حكومية تدعو للحداثة والتغيير فإنها لن تستطيع ان تفعل شيئا سوى أن تضب في جيوب اصحابها ما يدفع لها من تمويل.

سيبقى العرب خاضعين لموازين قوى أقوى منهم لكنهم سيبقون على تمسكهم بما تُضمره النفوس مهما كانت الحروب التي تُشن ضدهم، وسيزدادون تمسكاً بما لديهم. هم قانعون بما لديهم؛ اما الغرب وإسرائيل فهما غير قانعين بما يريان. هذه مشكلتهما. أما مشكلتنا فهي على طرفي نقيض من ذلك. لا نربح شيئاً اذا كسبنا رضى اسرائيل والغرب وخسرنا أنفسنا، أي إذا خسرنا المكنون لدينا. وهذا ما يحصل.
"السفير"

التعليقات