16/08/2010 - 13:05

مراجعة صارمة تنهي الواقعية المزورة../ كلوفيس مقصود

مراجعة صارمة تنهي الواقعية المزورة../ كلوفيس مقصود
وتبقى فلسطين نقطة الارتكاز للتعامل مع مستلزمات الاستقرار والسلام في المنطقة العربية، برغم تخلي النظام العربي القائم من خلال لجنة المتابعة العربية بالإجازة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الدخول بتجربة المفاوضات غير المباشرة لمدة أربعة أشهر، ريثما تتوافر قواعد ومرجعيات لاستئناف “مفاوضات مباشرة”، ثم يزور نتنياهو واشنطن في يوليو/تموز الماضي فتحصر المدة بضرورة الدخول فوراً بالمفاوضات المباشرة، وترافق هذا الاتفاق “الإسرائيلي” الأمريكي مع مطالبة لجنة المتابعة في الجامعة العربية بـ“تغطية” الموضوع، بمعنى تبني المطلب “الإسرائيلي” الدخول فوراً في مفاوضات مباشرة، ويتذمر أبو مازن بشكل علني من ضغوط غير مسبوقة كي يبادر إلى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين أوباما ونتنياهو، وعندما نقول “ضغط غير مسبوق” يكفي ما ورد من إملاءات سميت تهذيباً “ضغوط” ما دفع الرئيس عباس إلى إعلان “.. إن الضغط الذي يمارس الآن لا يحتمل”. ويتابع “.. لا يوجد بشر يمكن أن يتحملوا الضغط الذي نتعرض له”.

صحيح أن كل هذه المعلومات والضغوط التي “لا تحتمل” صارت مؤكدة وبالتالي معروفة، وخسارة إذا لم يتمكن العربي بشكل أو بآخر من ردع تمادي هذا التعامل المجهض لأية فرصة لإنجاز أي من حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية أو الإنسانية والمؤدي إلى مزيد من التفكيك بين أقطار الأمة العربية والتفتيت داخل مجتمعاتها، كما نشاهد بأم العين ما هو حاصل في العراق واليمن والصومال والسودان وما هو أقل في عدد آخر من أقطار الأمة.

وتبقى فلسطين نقطة ارتكاز، معنى ومسؤوليات، باعتبار أنه لا يمكن سلخها من تاريخ وجغرافية وتراث وعضوية الانتماء ووحدة المصير، في ظل تلقائية شعور الجماهير العربية بأن المشروع الصهيوني سعى ويسعى ماضياً وحاضراً إلى إلغاء فلسطين من ذاكرة ووجدان الأمة وشعوبها، وبالتالي لا يمكن مجابهته وردع تماديه إلا من خلال مشروع قومي عربي نهضوي، إنجازاً لصيغة الاستقواء المتبادل وفرض الاستجابة لأولوية وأحقية إخراجنا من التردي والإحباط والتسليم بالوقيعة التي تسمى “الواقعية” السائدة.

***
يجب التعامل مع فلسطين باعتبارها أولوية مصيرية، وعاملاً تحريضياً لإسقاط خيار الاستقالة من الحق في صناعة مستقبل الأمة.

نؤكد هذا لأن ما قامت به لجنة المتابعة العربية من إجازة للمفاوضات غير المباشرة ومن ثم المباشرة من دون وضوح أسبابها هي، ومن ثم اختزال الشهور الأربعة إلى شهرين من دون أي إعلان للرأي العربي والدولي عن الأسباب الموجبة، يظهر اللجنة كأنها وحدها المسؤولة، وهي التي تختزل المسؤولية القومية أوطاناً وشعوباً في التعامل مع فلسطين ومصيرها. لكن يبدو أن لجنة المتابعة العربية، والتي استولدها نظام رسمي سائد، تتجاهل أن “إسرائيل” ما زالت متمردة على القانون الدولي وعلى كل القرارات الدولية، وتمكنت من إخراج المجتمع الدولي من أي مشاركة في أية مباحثات أو مفاوضات وحصر حق التداول عملياً في ما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني بالإدارات الأمريكية المتلاحقة التي أثبتت كل منها، وبدرجات متفاوتة، التحيز الأعمى لما تسعى إليه “إسرائيل”، خاصة عضوية العلاقة بين “إسرائيل” والطاقم السياسي الأمريكي، وهكذا تمكنت من إعادة تموضع إدارة الرئيس أوباما بعيداً من ملامح سياساته الواعدة نسبياً كما تصورنا وتحمسنا عند انتخاب أوباما.

***
ما قامت به لجنة المتابعة من ترخيص متتابع، أو تغطية للرئيس محمود عباس، وبالتالي الحق في توقيت استئناف المفاوضات المباشرة، يعني واقعياً أن سلوك اللجنة لم يكن مدروساً بما فيه الكفاية، ولم يكن سليماً بما فيه الكفاية، وبالمعنى القومي كان قراراً قصير النظر منقوص الاستقامة وهذا ما أدى إلى التداعيات المجحفة، كما أن تجاهلها للمركزية القومية لفلسطين القضية يشكل انحرافاً عن بديهيات المسؤولية التي أنيطت بها (اللجنة)، رغم التحفظات التي عبر عنها على استحياء بعض من حاولوا تفسير بياناتها المنقوصة، بكون من تكلموا باسمها لم يكونوا بدورهم مقتنعين بجدواها، ولكنها الواقعية السائدة أو الطاغية في ما يسمى “محور الاعتدال” الذي أراد تفعيل أن منظمة التحرير الفلسطينية هي “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني” كما في قرار قمة الرباط، وبالتالي فإن المستجدات الطارئة على الشأن الفلسطيني إجمالاً، وخاصة تسارع التآكل في قدرة تأمين هذه الحقوق بعد اتفاقيات أوسلو إلى يومنا هذا، واكبه تنامي الوحش الاستيطاني في الضفة الغربية والإمعان في تهويد القدس والحصار الخانق على قطاع غزة.

الغطاء الذي وفرته لجنة المتابعة استوجب “ترحيباً” من نتنياهو كما وفر ترخيصاً لرئيس السلطة الوطنية للمباشرة في الدخول في مفاوضات مباشرة، الأمر الذي هدّأ من انزعاج الرئيس الأمريكي تجاه تردد عباس في عدم الاستجابة الفورية لإملاءاته، إضافة إلى الترحيب الغربي بذلك، وثمة من يؤكد أننا بتنا في مواجهة استحقاقات خطرة آلت إليها غطاءات لجنة المتابعة العربية التي تشير إلى الأخطاء أو الخطايا التي ارتكبتها بتوفير غطاء له مترتبات خطرة.

أولاً: الإجازة للرئيس محمود عباس الانفراد بالتفاوض المباشر (طبعاً بموافقة السلطة) من شأنها أن توفر لنتنياهو، وبدعم أمريكي واضح، الاستفراد بالرئيس الفلسطيني، وهو إذا حاول الانعتاق من الاستمرار في “المفاوضات” فهذا يعني تنفيذ ما يمكن وصفه بعقوبات أشار إلى البعض منها الرئيس أوباما في رسالة التهديد المرسلة إلى عباس.

ثانياً: استمرار تجميد المستوطنات غير مضمون مطلقاً، حتى لو أقنع الرئيس الأمريكي ومن معه في ما يسمى “الرباعية” بتجديد “التجميد”، فطلب التجميد نفسه هو خطأ فادح كونه يؤكد حق الاستيطان، وإن التزمت “إسرائيل” بتمديده فهذا بدوره يحول دون حاجة المفاوض الفلسطيني إلى المطالبة بتفكيك المستوطنات، وأن يتم هذا بتأييد قاطع للرئيس أوباما، وهذا الأمر في المرحلة الراهنة غير وارد إن لم يكن مستحيلاً.

ثالثاً: لا يمكن أن تكون مفاوضات بين الطرف “الإسرائيلي” والمفاوض الفلسطيني إذا لم يتم اتفاق مسبق على النتيجة المتوخاة من عملية المفاوضات، وكما أشرنا في عجالة سابقة فإن المفاوضات ليست عملية تفتيش عما إذا كانت للطرف الفلسطيني حقوق وطنية غير قابلة للتصرف، بمعنى دولة ذات سيادة كاملة على أرضها وأجوائها، ومياهها، وحدودها، وبالتالي مستكملة عناصر السيادة غير المنقوصة بما فيها القدس، وتفعيل جميع القرارات الدولية ذات الصلة.. تحديد أفق للمفاوضات، أفق واضح وملزم يجعل المفاوضات هادفة.

رابعاً: إن أي استئناف للتفاوض، غير مجد، في ظل الانشقاق بين سلطتي رام الله وغزة، أي أن المرجعية الفلسطينية غير موحدة، في وقت يجب إنجاز الوحدة بسرعة فائقة، وهذا يمنع استفراد عباس وجره إلى المصيدة الخانقة، كون الاستفراد برئيس السلطة الوطنية هو ترجمة لميزان قوى مختل. ومن دون وحدة مرجعية الفصائل الفلسطينية كلها، وعلى الأخص فتح وحماس لن تكون لأية مفاوضات نجاعة، وإذا بوشر بها من دون المرجعية الواجبة فلن يكون لنتائجها أي إلزام قانوني أو شرعية معترف بها.

خامساً: المرجعية الموحدة مطالبة بدورها، بعد تأمينها، أن تدرك خطيئة إسقاط خيار المقاومة كالتزام بالسلام، خاصة أن “إسرائيل” لم تسقط التمرد الاستيطاني وممارسات القمع والاغتيالات والحصار وغيرها من الإجراءات المحرمة المدانة دولياً، علماً أن تعزيز حق المقاومة يجعل التفاوض أحد عناصر ثقافة المقاومة الرئيسة، إضافة إلى كونه يعزز ميزان القوى، مع تفعيل الرأي العام العالمي الذي يدين “إسرائيل” وما تسببه من معاناة للشعب الفلسطيني وسلب لحقوقه.

سادساً: استقامة معادلة موازين القوة بين “إسرائيل” والمفاوض الفلسطيني الموحدة مرجعيته لا تكفي، إن لم يرافقها استرجاع المخزون القومي التزامه التاريخي، وتفعيل إجراءات عقابية مكلفة ل”إسرائيل” وهذا يعني أن على لجنة المتابعة العربية أن تكون حاضرة لتفعيل عقوبات ضد “إسرائيل” من خلال خرق “الواقعية المزورة” الساعية لقمع المخاض والحيوية الكامنة، وتوفير بوصلة قومية تدير المواجهة المصيرية مع المشروع الصهيوني، باعتبار أن فلسطين نقطة الارتكاز لاستعادة الأمة العربية مشروعها النهضوي.

فلنجعل من إخفاقاتنا الراهنة والتداعيات التي استولدتها درساً قاسياً يؤهلنا لعملية مراجعة نقدية صارمة عاجلة تؤهلنا للخروج من حالة التردد واللاحسم، وكسر ما تحاول الواقعية المزورة ترسيخه في قناعاتنا وجعله مستحيلاً، وبالتالي تحويل فلسطين القضية إلى نقطة ارتكاز لجعل التوق العربي إلى الكرامة فعلاً وواقعاً ومشروعاً يفتح آفاقاً أمام شعوبنا، آفاقاً تستعيد ثوابت وقيم ثقافتنا وتؤكد وحدة مصيرنا، والتكيف مع المستجدات بما يمكّنها من صناعة مستقبلها، مثلما في ماضي الزمان صنعت تاريخها.
"الخليج"

التعليقات