28/08/2010 - 12:26

الاحتماء بجيش المواطنين ومقاومتهم../ عصام نعمان

الاحتماء بجيش المواطنين ومقاومتهم../ عصام نعمان
قيل في وصف الاضطراب الأمني الذي عمّ قسماً من غرب بيروت مساء الثلاثاء 24/8/2010 بأنه الأول من نوعه منذ أحداث 7/5/2008 . قد يكون الوصف صحيحاً وقد لا يكون، إنما الأكيد أن لبنان كان وما زال في حال اضطراب سياسي وأمني منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري حتى الساعة . هذه الحال ستدوم، بشكل أو بآخر، إلى حين ظهور الحقيقة.

الحقيقة ليست، كما قد يتبادر إلى الذهن، معرفة من خطط ونفذ جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق، بل معرفة دور الولايات المتحدة، ومن ورائها “إسرائيل”، في افتعال جميع الحوادث والأحداث التي عاناها لبنان منذ اضطرار “الجيش “الإسرائيلي” الذي لا يقهر” الى الهرب من الشريط الحدودي المحتل في شهر مايو/أيار عام ،2000 تحت وطأة هجمات المقاومة اللبنانية.

منذ ذلك التاريخ تحاول الولايات المتحدة و”إسرائيل” ميدانياً وسياسياً ودبلوماسياً، من خلال افتعال الاغتيالات (2005) وصدامات وفتن طائفية ومذهبية، واشتباكات وحروب (2006)، وقرارت لمجلس الأمن الدولي (1559 و 1701)، تجريد حزب الله من السلاح وإخراجه من دائرة الصراع في المنطقة. ولعلهما ستثابران على انتهاج هذه السياسة الى أن يحدث واحد من امرين: أن تنجحا، لا سمح الله، في مخططاتهما الشريرة أو أن يتمكن حزب الله وسائر قوى المقاومة من تفشيلهما ودحرهما نهائياً.

غير أن استمرار حال الاضطراب في لبنان يطرح سؤالاً ملحاحاً: كيف يمكن مواجهة الأحداث مع وجود هذا التشتت والتشرذم والتناحر المجتمعي والمذهبي والسياسي في البلد؟

لا غلوّ في القول إن ما من شيء في لبنان بقي لبنانياً، بمعنى ذا صفة وطنية غير فئوية، إلاّ الجيش ونصف دزينة من الأحزاب العلمانية، بمعنى غير الطائفية، التي لا تشارك في السلطة. القيادات والتنظيمات والمؤسسات الباقية أضحت، في معظمها، طائفية ومذهبية وفئوية وتفتقر، في تركيبتها كما في توجهاتها، الى الصفة والممارسة الوطنيتين. لهذه الظاهرة استثناء وحيد يتمثّل في المقاومة. فهي وإن كانت إسلامية في توجهها وذات غالبية شيعية في تركيبتها التنظيمية، فإنها قومية ووطنية في أهدافها وممارستها الميدانية والسياسية وملتزمة دائما سياسة تعزيز الوحدة الوطنية وتجميع القدرات وتعبئتها في وجه العدو الصهيوني.

في غمرة هذا الشتات والفوضى والعلاقات التناحرية، تتقلص حتى حدود التلاشي فعالية قوى الأمن الداخلي، فلا يبقى إلاّ الجيش ملاذ حماية وأداة فرض أمن واستقرار . فالجيش، بتركيبته المختلطة (العابرة للطوائف) وقيادته ذات التوجّه الاستراتيجي العربي، وعقيدته القتالية الوطنية واعتباره “إسرائيل” العدو القومي، هو المؤسسة الرسمية الوحيدة ذات المقبولية الشعبية والصدقية اللازمة، لتكون مؤتمنة على الأمن وقادرة على فرضه دونما عوائق أو تحفظات فئوية ذات شأن.

الى الأحزاب العلمانية، يبدو الجيش المعقل الأبرز للمواطنية. ذلك أن جنوده، بفضل التربية العسكرية الصارمة والمساواة أمام القانون وفي المعاملة، يتصرفون نسبياً بوصفهم مواطنين متساوين في الحقوق. أما الموظفون والعاملون في الادارات والمؤسسات الرسمية والخاصة فيتصرفون، في معظمهم، بوصفهم أبناء طوائف، حتى لا نقول رعايا، بالدرجة الأولى ويلوذون بمرجعياتهم الطائفية.

منذ 1952، تاريخ استقالة رئيس الجمهورية بشارة الخوري نتيجةَ أزمة دستورية وسياسية عاصفة، جرى اللجوء الى الجيش بشخص قائده اللواء فؤاد شهاب بتعيينه رئيساً لمجلس الوزراء من أجل سد الفراغ الدستوري لغاية انتخاب رئيس جديد للجمهورية. استقامة شهاب ومسلكه العسكري الوطني وطموحاته الإصلاحية مكّنته من الوصول الى سدة الرئاسة عام 1958 ومباشرة عملية إصلاح واسعة في الإدارات العامة الرسمية.

بعد تفكك الجيش عشية الحرب “الإسرائيلية” العدوانية الأولى على لبنان عام 1982 وبعده، وإعلان اتفاق الوفاق الوطني في الطائف عام 1989، جرت عملية إعادة توحيد البلد من خلال عملية إعادة دمج ألوية الجيش وتوحيدها باشراف قائده الجديد العماد إميل لحود. وقد نجح لحود في اعادة بناء الجيش على أسس وطنية، وفي نسج علاقة تعاون وتكامل أمني مع المقاومة، الأمر الذي عزز انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1998 لمدة ست سنوات والتمديد له عام 2004 لثلاث سنوات اضافية.

عصفت بالبلد، بعد اغتيال الحريري، أزمة شديدة حالت على مدى عشرة أشهر دون انتخاب خلف للحود في رئاسة الجمهورية، إلى أن انعقد مؤتمر الدوحة (قطر) ربيع عام 2008 ووجد المؤتمرون أن رجل التوافق الوطني الوحيد المؤهل لتولي رئاسة الجمهورية هو قائد الجيش العماد ميشال سليمان. ولعل من أبرز مزايا العماد سليمان أنه، كلحود، حافظ على العقيدة القتالية الوطنية للجيش وعلى علاقة عملانية جيدة مع المقاومة.

بعد الاشتباك الذي وقع بين الجيش اللبناني والجيش “الإسرائيلي” في بلدة العديسة على الحدود مطلعَ الشهر الجاري، أثيرت مجدداً مسألة تسليح الجيش ولاسيما بعد صدور أصوات في الكونغرس الأمريكي تطالب بوقف تسليحه، بدعوى أنه يستخدم أسلحته الأمريكية ضد “إسرائيل”.

الواقع إن الولايات المتحدة لم تزوّد الجيش إلاّ معدات وسيارات وأسلحة خفيفية لا تصلح في أي اشتباك مع العدو . وإذ تشتد الحاجة هذه الايام إلى ضرورة الإسراع في تسليح الجيش، تنهض أسئلة مشروعة حول أي جيش لأي مهمة نريد؟ ومن أين نأتي له بالسلاح؟ ومن أين نأتي بالمال لنشتريه؟

هذه الأسئلة تتطلب وقتاً طويلاً للإجابة عنها لأنها تتصل بقضايا اخرى مفتاحية بل مصيرية: بناء الدولة (غير الموجودة حالياً) وتحديد دورها القومي والإقليمي، وبناء الأمن الوطني بتكامل دوريّ الجيش والمقاومة في وجه “إسرائيل”، ومعالجة مشكلة الدين العام المتفاقم مع مراعاة متطلبات المعيشة اللائقة، ومواجهة البطالة والفقر، ومستلزمات الصحة العامة، وتأمين الكهرباء والماء، وتوفير الاعتمادات اللازمة للتنمية.

غير أن تسليح الجيش لا يمكن ان ينتظر طويلاً حل المشكلات المشار اليها . ثمة حاجة ماسة الى تعظيم قوته ليتمكن من مواجهة متطلبات مؤازرة قوى الأمن الداخلي من جهة ومتطلبات بناء قوة ردع وطنية ضد “إسرائيل” بالتعاون مع المقاومة من جهة اخرى . لعل الحل يكمن في اللجوء إلى مصادر السلاح العربية والصديقة التي لا تمانع في توفير الأسلحة المناسبة للجيش بلا شروط وبلا مقابل، أو لقاء ثمن زهيد.

الجيش اللبناني هو جيش المواطنين لا جيش أبناء الطوائف ولا متزعميها المتناحرين . إنه درع الاحتماء من المتلاعبين بأمن الناس وضمانة ردع “إسرائيل” العدوانية بالتعاون والتكامل مع المقاومة الساهرة على أمن البلاد القومي.
"الخليج"

التعليقات