07/10/2010 - 13:02

تفاصيل علاقة بين أمة وماسح أحذية../ جميل مطر

-

تفاصيل علاقة بين أمة وماسح أحذية../ جميل مطر

أذهلني قدر الاهتمام الذي أولته أجهزة الإعلام العالمية للانتخابات الرئاسية التي جرت في البرازيل يوم الأحد الماضي. لم نكن، في الماضي، نحفل كثيرا بانتخابات نيابية أو رئاسية تجري في دولة من دول أميركا اللاتينية. لم نحفل لأننا لم نكن نصدق أنها ستكون نزيهة، ولأنها كانت تجري تحت ضغوط واشنطن وتدخلاتها. كنا نعرف أنه سواء جرت انتخابات أو لم تجر، فلا أحد ينتظر تغييرا يذكر في قارة خضعت قرونا طويلة لاستعمار اسباني وبرتغالي بغيض، وقرنين آخرين لهيمنة أميركية يصفها أكاديميون في الولايات المتحدة، وآخرها الأسبوع الماضي، بأنها كانت «امبريالية» الهوى والأساليب.


انتظرت أن تحظى هذه الانتخابات بالاهتمام لأسباب من بينها:
أولا: أذكر جيدا عبارة نطق بها الرئيس الأميركي باراك أوباما عندما أراد الإشادة بالرئيس البرازيلي قال فيها، ان لولا دا سيلفا هو «السياسي الأكثر شعبية على وجه الأرض». نعرف عن أوباما كرمه في إطلاق أوصاف طيبة على بعض أقرانه من رؤساء الدول، وكان يمكن أن يخرج من يتهم أوباما بأن إشادة من هذا النوع تجاوزت المتعارف عليه سواء كان مصدرها أوباما أو غيره، لولا أنها كانت بالفعل تعبيرا عن موقف عالمي عام. فالزعيم البرازيلي سوف يترك منصبه في ظل شعبية وصلت إلى 80%، وهي نسبة في حد ذاتها غير مسبوقة في دول مؤتمنة على إحصاءاتها واستطلاعات الرأي فيها.


من ناحية أخرى، وبالصدفة أو بغيرها، ارتبطت شخصية لولا دا سيلفا بشخصية نيلسون مانديلا. ففي مناسبات عديدة كان يتردد أن الاثنين، لولا دا سيلفا ونيلسون مانديلا، كلاهما عانى وتعذب وضحى، واستطاع أن يربط قصته بقصة بلاده ومستقبلها، ونجح في تحقيق تحول جذري في مسيرة الوطن، إلى حد أن في الحالتين، حالة البرازيل وحالة أفريقيا، كاد الماضي ينفصل تماما عن الحاضر والمستقبل.
 

من ناحية ثالثة وبدرجة ما وبشكل ما تكونت للرئيس البرازيلي سيرة حياة كالأسطورة. الطفل الذي كان يعيش مع ثمانية أطفال آخرين وأب وأم في كوخ في منطقة نائية من البرازيل، وصار يعيش في قصر الرئاسة بالعاصمة. هذا الشاب بدأ ماسحا للأحذية، بعد أن ترك الدراسة ليسهم في إعاشة عائلته، ثم عمل خراطا وناشطا في الحركة النقابية العمالية. تعذب وعانى الأمرين وماتت زوجته وهي حامل، ودخل المعتقلات التي أقامها الحكام من الجنرالات لإيواء أمثاله من الناشطين سياسيا واجتماعيا. هذا الرجل الذي اشتهر بذقنه المدببة وابتسامته الوديعة وطباعه الرقيقة حملته شعبيته إلى منصب الرئاسة في انتخابات عامة لم يتدخل فيها الجيش ولا قوى الأمن الداخلي، كما كانت العادة في البرازيل قبل عشرين عاما. لذلك لم يفاجئني اقتراح صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية بأن يتقدم أحد كبار المخرجين ليخرج سيرة دا سيلفا في فيلم سينمائي.


من ناحية رابعة، قضى لولا في منصب الرئاسة ثماني سنوات، أي دورتي رئاسة وكان يستطيع لشعبيته الفائقة وإنجازاته الخارقة للعادة، أن يعدل الدستور ليستمر لمدة ثالثة في الحكم، إلا أنه اختار ما سبق أن اختاره نيلسون مانديلا و السيدة باتشيليت في شيلي والرئيس كيرتشنر في الأرجنتين. هكذا يكون قد رسخ في العقل السياسي لأميركا اللاتينية مبدأ احترام الدستور وتعددية السياسة وضرورة دوران النخب الحاكمة.


من ناحية خامسة، لم تتوقف صحف أوروبا الغربية وأميركا اللاتينية خلال الأيام الماضية عن الإشادة بالزعيم الذي قاد بلاده بنجاح نحو شرف استضافة الألعاب الأولمبية ومباريات كأس العالم لكرة القدم. إنه الشرف الذي يكاد لا يعلو عليه شرف آخر في أميركا اللاتينية.


ثانيا: من الأسباب التي أثارت عندي والعديد من المعلقين الرغبة في الاهتمام بالانتخابات الرئاسية في البرازيل، هو أن سيدة بمواصفات معينة تأهلت للترشيح فيها، واثقة من فوزها ومعتمدة على ولائها لزعيم هو الأكثر شعبية في تاريخ البرازيل. إنها السيدة ديلما روسوف الوزيرة في حكومة الرئيس لولا دا سيلفا ومساعدته الأقرب والإدارية التي أثبتت نجاحها في إدارة واحدة من اكبر شركات النفط في العالم فاستحقت بجدارة لقب «السيدة الحديدية».


إن وصول سيدة لأعلى منصب في الدولة بالطرق الديموقراطية السليمة رصيد لهذه الدولة وفخر للأمة التي ساعدتها في تحقيق هذا الحلم. وفي أميركا اللاتينية بالذات، يعتبر وصول السيدة روسوف إلى منصب الرئاسة في البرازيل شرفا لشعوب القارة التي أصبحت الأولى بين القارات في حصيلة السيدات «الحكام». أذكر جيدا ما أسر به أحد الأصدقاء الشيليين خلال زيارتي الأخيرة لسانتياغو، قال «الناس في أميركا اللاتينية يرتاحون لوجود سيدة في الحكم، لأنها في كل الأحوال دليل على انها وصلت بالطرق الديموقراطية، وليس على ظهر دبابة عسكرية».


ثالثا: ما أروع شعور أمة حققت الانتقال من دولة كانت في مؤخرة الدول الفقيرة، إلى دولة تشق طريقها بحزم وإصرار لتكون ضمن دول الصف الأول، وما أبدع شعور أمة حققت هذا الانتقال خلال جيل واحد، جيل عاش مهانة القمع السياسي والفقر والتخلف الاجتماعي، ويعيش الآن في كبرياء واعتزاز بما حقق من مكانة ونفوذ في الخارج وديموقراطية ورخاء في الداخل.


تفخر البرازيل الآن بأن لديها احتياطي عملات أجنبية تجاوز مبلغ 250 مليار دولار، ويفخر أهلها وقادتها بأن وطنهم حلقة رئيسة في سلسلة حلقات متناغمة في العالم النامي، وأن الحرف الأول في اسم البرازيل صار هو نفسه حرفا أول في منظومة «بريك» نسبة إلى البرازيل وروسيا والهند والصين، هذه المنظومة التي جسدت تحقيق أحد الأحلام العظيمة لمجموعة دول عدم الانحياز والسبع والسبعين، حلم أن يقود العالم النامي ذات يوم مسيرة بناء نظام عالمي جديد.


الحلم يتحقق؛ فالمنظومة الرباعية، بروسيا أو بدونها، فرضت على مجموعة السبعة، أي مجموعة الأغنياء، وضعا دوليا جديدا وقررت أن تكون دولها أطرافا مؤسسة في بناء نظام عالمي جديد، يقوم على تعددية الأقطاب، وبذلك يكون قد قضي بشكل حاسم على فكرة النظام العالمي الجديد التي حلم بها الرئيس بوش وذهب إلى حد إعلانها وسط سخرية عديد من السياسيين وعلماء السياسة. سقطت الفكرة وأجهض هدف إقامة نظام دولي أحادي القطبية تحتل فيه الولايات المتحدة موقع القيادة منفردة ومهيمنة.


وفي داخل مجموعة «بريك» الصاعدة، تبدو البرازيل في وضع «معنوي» أفضل من غيرها، فهي دولة أقل تهديدا للمجتمع الدولي لأنها ليست بضخامة الصين مثلا، وهي دولة أقل استعدادا للفوضى لأن مشكلاتها العرقية والطائفية ليست بحجم مشكلات الهند مثلا، وهي دولة أقل حاجة لاستخدام القمع والدكتاتورية لأن ديموقراطيتها أشد رسوخا من تجربة روسيا مثلا. ويذكر للبرازيل أيضا أنها انتهجت سياسة خارجية تتميز بالجرأة والمبادرة، واستطاعت أن تقود أميركا اللاتينية دفاعا عن نظام حكم هوغو تشافيز وعن سيادة فنزويلا ضد التدخل الأميركي، واحترمت مكانة كوبا في شخص فيدل كاسترو باعتباره زعامة من الزعامات التاريخية القديرة في العالم النامي، واقتربت من إيران وأقامت معها علاقات اقتصادية هامة متجاوزة قرارات العقوبات الاقتصادية. ويعترف اقتصاديون بأن البرازيل كانت إحدى الدول القليلة التي واجهت العولمة وانتصرت على تحدياتها مع الاستفادة من إيجابياتها.
 

في حديث له مع صحيفة بريطانية، قال لولا: إنه لمن سخرية الأقدار أن العامل النقابي الذي قاد في شبابه مظاهرات ضد صندوق النقد الدولي، وطالب بطرد الصندوق من البرازيل وإغلاق مكاتبه ووقف التعامل معه ورفض سياساته، هو الشخص الذي قام بتسديد جميع ديون البرازيل إلى الصندوق، وانتهى الأمر إلى أن أصبحت البرازيل دائنة للصندوق الدولي بمبلغ 14 مليار دولار.


إذا كان لنا ولغيرنا أن نقيم فترة حكم الرئيس لولا دا سيلفا، الذي يغادر بعد أقل من مئة يوم منصبه سعيدا، لأنه ترك بلاده في حال تحسدها عليها دول كثيرة، فعلينا أن نراه بعيون محللين يعيشون في العالم النامي ويعرفون مشكلاته. هؤلاء سيعترفون حتما بقدرة هذا الرجل على مقاومة إغراءات السلطة وضغوط جماعات الفساد والمافيات المحلية وبطانات السوء والمصالح الخاصة. هؤلاء سيحسبون له أيضا انه استطاع أن يتخلص من عقدة الدونية ومركب النقص، ويخلص بلاده منهما.


لا يعني هذا أن البرازيل تجاوزت بغير رجعة حدود العودة إلى الوراء. ما زالت هناك جماعات من كافة الأنواع تفضل لو عادت سنوات الظلام والتعتيم، وجار أعظم قد لا يستسيغ طويلا صعود جار شب عن الطوق ويفضل الانتماء إلى «إجماع بكين» على عضوية إجبارية في «إجماع واشنطن» الذي ثبت فشله.


حين نتحدث عن البرازيل. نتحدث عن «شعب سعيد»، يقدس الحياة الناعمة. يرقص ويغني ويلعب ويرتدي من الملابس أقلها وأخفها ويحتفي بالجمال أكثر من احتفائه بالنظام والانضباط. صحيح أن الرخاء وزيادة الإنتاجية والتوظيف الكثيف والتقدم التكنولوجي والتعليم الجيد انجازات مادية عظيمة تتوق لتحقيقها كل الشعوب، لكن الصحيح أيضا أن هذه الإنجازات لم تحتل يوما مكانة الصدارة في أولويات معظم فئات الشعب البرازيلي .

"السفير"
قال أحدهم.. صحيح أننا نتقدم، وبمرور الوقت قد نصبح مثل سويسرا، لكن من قال اننا نريد أن نكون شيئا آخر غير البرازيل

التعليقات