21/10/2010 - 11:56

الطلقات الأولى في حرب التجارة العالمية../ جميل مطر

-

الطلقات الأولى في حرب التجارة العالمية../ جميل مطر

نسمع بين الحين والآخر طلقات تحذيرية يطلقها الطرفان الكبيران في النظام الاقتصادي العالمي، توحي بأن حرباً تجارية بين الغرب والصين على وشك أن تنشب، وتؤكد في الوقت نفسه أن كل الأطراف تتمنى تفادي نشوبها، أو تأجيله. سمعنا عن مشروع قانون وافق عليه النواب الأميركيون منذ أيام يقضي بفرض ضرائب جمركية على السلع المنتجة في بلاد «تتلاعب» بقيمة عملاتها، والمقصود بطبيعة الحال الصين، المتهمة بأنها تتعمد تقويم عملتها بسعر أقل من قيمتها الفعلية. ويتوقع خبراء أميركيون أن تتثاقل خطى مجلس الشيوخ قبل مناقشة مشروع القانون، لإعطاء الفرصة لحلول أخرى.

سمعنا أيضا طلقات دبلوماسية عديدة، أكثرها لم يصب هدفه، أو لعله لم يقصد تماما إصابة الهدف. من هذه الطلقات الموقف المتشدد الذي اتخذته واشنطن في مساندة اليابان ضد الصين حول الجزيرة الجرداء المتنازع عليها في البحر الأصفر . أما أخطر الطلقات أو أعلاها صوتا فكانت منح جائزة نوبل للسلام لأحد المنشقين الصينيين والمعتقل بسبب مواقفه المؤيدة للديموقراطية. كانت الجائزة رسالة واضحة من دول الغرب إلى بكين بأن الغرب يستطيع إزعاج الصين، كما سبق وأزعج الاتحاد السوفياتي، حين منح الجائزة للكاتب سولزينيتشين أيام الحرب الباردة.

هذه الطلقات، حسب تعبير تردد الأسبوع الماضي في أروقة صندوق النقد الدولي ونقله مراسل صحيفة فاينانشيال تايمز، تظل أقرب ما تكون إلى حرب خنادق تجارية أو حرب عملات منها إلى حرب تجارية. ويدلل المراسل على ذلك بأن الصندوق من ناحية، ودولا أعضاء من ناحية أخرى يحاولون في جو من التوتر والقلق وقف التصعيد خوفا من أن انتصار الصين بحرب، أو بدون حرب، سوف يعني نهاية النظام الاقتصادي العالمي الذي دشنته اتفاقيات بريتون وودز بقيادة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ويعني أيضا بداية نظام اقتصادي عالمي جديد يدشنه واقع جديد بقيادة الصين.

***
توقع عديد الاقتصاديين الأميركيين في عام 2008 نشوب حرب تجارية عالمية، حين كان الغرب خارجا لتوه من الأزمة الاقتصادية العالمية منكسرا. ولم تقع الحرب. يبدو أنهم عادوا من جديد إلى الحديث عن قرب نشوبها. واضح لنا ولهم، وللصينيين أيضا، أن الأمل في انتعاش الاقتصاد الأميركي في تراجع مستمر. كتب كلايف كروك في مقال نشرته له فاينانشال تايمز تحت عنوان «حان وقت الصرامة مع الصين»، يقول إن الولايات المتحدة «دخلت مرحلة نمو متباطئ وبطالة عالية متواصلة وعجز تجاري يتوسع، عاما بعد عام، ومزاج شعبي سيئ، وانتخابات على الأبواب». أزعجني العنوان بقدر ما أزعجني توصيف حال أميركا. فالتجارب تقول لنا إن الدول التي تصاب بمثل هذه الحال، يلجأ حكامها أول ما يلجأون إلى إشعال جذوة الشعور القومي ضد «الآخر»، كما حدث ويحدث مع الإسلام والمسلمين. و في هذه الظروف، لن يجدوا أفضل من الصين «آخرَ» ينصب عليه الغضب وتشحن من أجل مواجهته الأقلام وتشرع أسلحة التجارة.


كان اثنان من كبار الاقتصاديين الأميركيين قد اتخذا موقفا مماثلا، وإن اختلفت المداخل والأساليب. يذكرنا روبرت صامويلسون الكاتب الشهير في واشنطن بوست بالكساد العظيم الذي ضرب النظام الرأسمالي في الثلاثينيات من القرن العشرين، ويذكرنا تحديدا بقانون سموت ـ هاولي Smoot- Howley الصادر عام 1930 الذي رفع التعريفة الجمركية على عديد السلع المستوردة، بهدف تشجيع الصناعة المحلية، وكيف أن القانون، وإن لم يكن سبباً مباشراً في نشوب الكساد العظيم، كان بالتأكيد وراء اندفاع معظم الدول للانتقام من الولايات المتحدة. ويحمل صامويلسون على الصين بشدة، فينقل عن روبرت سكوت، الباحث في معهد السياسات الاقتصادية الليبرالية في واشنطن قوله، إن التجارة مع الصين كلفت أميركا أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون وظيفة عمل. ويعلق بأن الصين إذا رفعت قيمة عملتها بنسبة 20% سيزداد عدد الوظائف في أميركا بما لا يقل عن 300,000 إلى 700,000 وظيفة على امتداد ثلاث سنوات. يلفت النظر أن الكاتب الشهير لم يشر إلى الوظائف التي خسرتها أميركا ولم تكن من مسؤولية الصين، فالمعروف أن الولايات المتحدة فقدت أكثر من 8,4 ملايين وظيفة بسبب انهيار المؤسسات المالية الذي أشعل الأزمة الاقتصادية في أواخر العام 2007، وهي الوظائف التي لم تفلح حكومة باراك في استعادتها حتى الآن.


ولا يخفى، على كل حال، أن دولا عديدة استخدمت بالفعل أسلحة الحرب التجارية، ولكن ليس ضد الصين، بل استخدمتها في محاولة لتخفيف وقع الأزمة الاقتصادية العالمية على شعوبها وصناعاتها ومزارعها. حول هذا الموضوع يقول جوزيف ستيغليتز، الاقتصادي الشهير الحائز جائزة نوبل إن سبع عشرة دولة أدخلت تشريعات حماية في عام 2008، بل إن أميركا نفسها، وهي المبشرة بمبادئ حرية التجارة، أصدرت قانونا يحث المستهلكين الأميركيين على شراء المنتجات الأميركية وتفضيلها على منتجات الدول الأجنبية. ويتنبأ ستيغليتز بأن ضعف مسيرة الانتعاش في الاقتصاد الأميركي، كفيلة وحدها بأن تدفع المشرع الأميركي إلى إصدار قوانين جديدة.

*** 

على الناحية الأخرى، يقول الصينيون ضمن القليل الذي يصرحون به، ويردده المدافعون عنهم، إن الصين إذا استجابت ورفعت قيمة اليوان (الرينمينبي) فسيكون الفلاحون الصينيون الخاسر الأكبر، وعددهم كما نعرف هائل. ويتساءلون لماذا يخسر الفلاحون الصينيون من أجل أن يكسب المزارعون الأميركيون المدعومون دعما كبيرا من الحكومة الفدرالية؟ وتعتقد الصين ومعها كثير من الاقتصاديين الغربيين ومنهم ستيغليتز، أن المشكلة تعود في أساسها إلى ضعف معدل النمو في الولايات المتحدة ودول الغرب وليس قوة النمو في الصين، وتحذر دول العالم من إغراق الأسواق المالية الخارجية بتدفقات رأسمالية أميركية غير منضبطة وغير محسوبة.


ويعتقد الصينيون أنه ليس من حق الغرب التهديد باتخاذ إجراءات عقابية ضد تجارة الصين واستثماراتها في الخارج وحرمان الداخل من الاستثمار الغربي في الصين، وهي بالتأكيد لا تريد حرباً تجارية لأن العالم أجمع سيخرج منها خاسراً. لقد اختارت الصين طريق النمو والتوسع الاقتصادي وهي تعلم حجم المشكلات التي تنتظرها في الخارج كما في الداخل. كثيرون بين مفكري العالم النامي يناقشون الآن جوهر التوسع الاقتصادي الصيني في أفريقيا وأميركا اللاتينية وبعض دول آسيا، وما إذا كانت تنطبق عليه مفاهيم تقليدية، ويبرزون الجوانب غير الطيبة. بعض آخر يناقش الجوانب الطيبة، وربما غير المقصودة، المترتبة عن إغراق الأسواق بسلع رخيصة الثمن. نعرف من تجربتنا المصرية مع المنتجات الصينية الرخيصة أن بلايين الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى يستمتعون الآن باستهلاك سلع لم يدر بخلد أكثرهم أنها كانت ستصل ذات يوم إلى أيديهم في ظل هيمنة الرأسمالية الغربية التي تجاهلت حاجة الفقراء. نعرف أن عشرات بل مئات السلع ما كانت لتدخل بيوت الفقراء المصريين وذوي الدخل المحدود لو لم تهتم الصين بإنتاجها وتصديرها وتوفيرها رخيصة.

*** 

الخيارات في المرحلة المقبلة محدودة. أمام أميركا مثلا خياران، إما مقاومة طموحات الصين والمخاطرة بحرب تجارية، الكل سيخسر فيها، أو الامتناع عن اتخاذ أي إجراء فتواصل الصين نموها وتوسعها وينتهي الأمر بأن تضع الصين للعالم نظاما تجاريا جديدا على قياسها وحاجاتها، تماما كما فعلت أميركا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.


في هذا السياق تستعد دول لحماية اقتصادها، كل منها حسب ظروفه وعلاقاته الدولية، يقول جيدو مانتيغا وزير مالية البرازيل إن العالم مشتبك الآن في حرب تجارية، ولذلك قررت بلاده فرض ضريبة على كل التدفقات المالية الواردة من الخارج، باعتبار أنها الخطر الأساسي الذي يهدد الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن. ويقول برافين غاردهان وزير مالية جنوب أفريقيا إن العلاج لا يكون بترقيع الحائط أو إعادة دهانه قبل تغيير مواسير المياه المثقوبة والمنتهية صلاحيتها ويقصد إصلاح النظام المالي العالمي.

*** 

حتى الآن ليس هناك ما يشير إلى أن الدول الغربية المشاركة في قمة العشرين المقبلة ستفلح في كبح جماح الصين ودول ناهضة أخرى، ففي ظل استمرار تباطؤ الانتعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة تصبح كل الخيارات محفوفة بأخطار شديدة.

"السفير"

التعليقات