31/10/2010 - 11:02

أسباب تفسر الجرأة الروسية../ عبد الإله بلقزيز

أسباب تفسر الجرأة الروسية../ عبد الإله بلقزيز

بدأت روسيا تستفيق من صدمة انهيار الاتحاد السوفييتي وتتعافى من الشعور بالهزيمة القاسية في الحرب الباردة أمام الولايات المتحدة ومعسكرها الغربي. منذ انتخاب بوتين رئيساً ويقظتها من كابوس الانهيار تنمو بإيقاع متصاعد. زادت وتيرة الصعود في العامين الأخيرين أكثر.

أشعلها الاندفاع الأمريكي الشره، والذي ما توقف منذ العام ،1990 إلى الإطباق على ما تبقى من مركز نفوذ لروسيا في العالم، بل إلى مد اليد إلى الفناء الخلفي الأقرب لبلاد القياصرة والبلاشفة وتهديد أمنها القومي من أقرب نقطة جغرافية على الحدود.

خسرت نفوذها العالمي وهيبتها الاستراتيجية في عهد جورباتشوف، فانسحبت مهيضة الجناح من شرق أوروبا إلى حدودها القومية، وخسرت استقلال قرارها القومي وكرامتها السياسية في عهد بوريس يلتسين، وباتت تحت رحمة إملاءات الغرب وشروطه التعجيزية، ثم ما لبثت أن شاهدت منطقة نفوذها السابق في شرق أوروبا تنتقل اقتصادياً إلى غرب أوروبا وعسكرياً إلى النفوذ الأمريكي.

تمدد “حلف شمال الأطلسي” شرقاً فقضم دولاً على حدودها واستدمجها في منظومته، وهو يسعى إلى استكمال التمدد في أوكرانيا وجورجيا. وانتقل النفوذ السياسي إلى جورجيا وأوكرانيا، وتكرس بقيام سلطة موالية لواشنطن في البلدين، ثم جرى استكمال معاقبة صربيا بمنح إقليم كوسوفو استقلالاً تاماً، وها هو نشر الدرع الصاروخية في بولونيا وغداً في تشيكيا يمعن في التطويق والتهديد بإطاحة روسيا.

كم هائل من المخاطر يحدق بروسيا اليوم ويحملها على الانتقال من التردد إلى الرد في شكل من الدفاع عن النفس مشروع. بدأ الرد كلامياً بإعلان عزم روسيا على الرد على ما يتهددها من أخطار جراء منظومة الدفاع الصاروخي الأطلسية.

ثم تدرج إلى إرسال الطائرات القاذفة إلى الأجواء المحاذية لكندا لإبداء الحزم، وإلى زيادة الإنفاق العسكري بأضعاف أضعاف ما كان عليه، وصولاً إلى تأديب أمريكا في جورجيا.

وفي سائر أحوال هذا التحول الطارئ على سياسة روسيا في عهد بوتين وميدفيديف، لم يكن منزعها إلى رفع التحدي بسبب وجود رئيس قوي هو بوتين - على الرغم من أهمية هذا العامل - وإنما بسبب جشع السياسة الأمريكية الذي جاوز كل الحدود فما ترك لروسيا من خيار سوى ممارسة الحق الشرعي في الدفاع عن النفس.

ليس من شك في أن صحوة روسيا السياسية في مواجهة السياسة الأمريكية استفادت - إلى جانب وجود قيادة سياسية قوية محنكة مثلها بوتين ثم ميدفيديف - من ارتفاع أسعار الطاقة في السوق العالمية (وروسيا من المنتجين الكبار لها وخصوصاً الغاز)، وما دره عليها ذلك الارتفاع من موارد مالية ضخمة ساعدتها على تخطي حالة الانهيار الاقتصادي والإفلاس التام التي خلفتها حقبة يلتسين الفاسدة، وليس من شك في أنه لولا تعافي حالتها الاقتصادية لما كان في وسعها أن تتحرر من القيود والابتزازات والإملاءات السياسية الغربية المهينة لكرامتها القومية والعابثة بقرارها السياسي، لكن ذلك كله - على أهميته - كان يتيح لها في أفضل الأحوال أن تتفرغ لبناء داخلها الاقتصادي والتنموي وأن تتفادى الصدام مع الغرب، كما تفعل الصين منذ زمان، لكنه لا يفسر لماذا عادت سريعاً إلى تحدي الغرب والولايات المتحدة وتنفيذ تهديداتها السابقة بالرد، إن هذا الأمر الأخير ليس يقبل التفسير إلا بذلك الاندفاع الأمريكي الجشع إلى المزيد من الإمعان في اضعاف نفوذ روسيا في جوارها المباشر، وافتعال مشكلات لها تزيد استنزاف قوتها، وهو اندفاع لا تملك روسيا ترف تجاهل مخاطره عليها، ولا يبقي لها من الخيارات غير خيار الرد عليه.

من يقول إن الإدارة الأمريكية فوجئت بالرد الروسي الحازم والحاسم في جورجيا على نحو لم تتوقعه لا يقول شيئاً آخر سوى أن هذه الإدارة لا تقرأ السياسة الدولية جيداً، ولا تدري أن من يضع مقدمات ما، عليه أن يقبل نتائجها.

والإدارة الجمهورية المحافظة وضعت مقدمات لما يجري اليوم ما كان لها أن تقود إلا إلى هذا الذي يجري. إن إدارة بوش - والآنسة رايس التي ترسم لها سياستها تجاه روسيا - تعلم جيداً أنها سلكت نهجاً كانت غايته معلومة لديها منذ البداية: امتصاص النهوض الاقتصادي لروسيا وتبديده في اتجاهات لا تستفيد منها التنمية القومية في روسيا.

ماذا يعني مشروع الدرع الصاروخية في شرق أوروبا وتمديد مساحة عمل “الأطلسي” إلى الحدود الترابية لروسيا، غير إجبار الأخيرة على المزيد من الانفاق العسكري لحماية أمنها القومي والدخول مجدداً في سباق تسلح يرهقها اقتصادياً ويمتص كل ما لديها من فوائض مالية؟ السيناريو الريجاني نفسه في الثمانينات (وكان بوش الأب من صنّاعه إبان تقلده مسؤولية نائب الرئيس) يتكرر اليوم، ولكن مع فارق ليس قليل الشأن: أن صاحب القرار في موسكو اليوم ليس ميخائيل جورباتشوف الضعيف وعديم الخبرة، وإنما بوتين وميدفيديف القويان اللذان عركتهما محنة روسيا وتعلما كيف يستفيدان من خطايا من كانوا قبلهم: جورباتشوف، يلتسين، شيفرنادزه.. الخ.

ومن أهم ما تعلمه بوتين - ابن الكي جي بي الذكي - من أين تؤكل كتف الولايات المتحدة، ووافقه عليه رفيقه السابق ورئيسه الحالي ميدفيديف فبدأ - مع بوتين - في النيل من أمريكا في نقاط ضعفها وفي توقيت ضعفها المثالي، كانا يدركان أنها لا تقوى على الرد على ما سيفعلانه في جورجيا، بل هي أعجز حتى عن التفكير في الرد، وأنه كلما أمكن فضح عجزها أمام العالم كان ذلك مفيداً في تشجيع المتضررين منها على الرد، لقد خرجت مهزومة من لبنان مرتين: في صيف العام 2006 حين لقنتها المقاومة اللبنانية درساً في مواجهة “إسرائيل” وجيشها وقرار أمريكا معها، ثم في ربيع العام 2008 حين فرضت المعارضة اللبنانية وسوريا شروطهما في “اتفاق الدوحة” وطويت حقبة الإدارة الأمريكية للشأن اللبناني، ثم إن أمريكا غارقة في مستنقع العراق وأفغانستان، وتتعرض فيهما إلى نزيف بشري واقتصادي غير مسبوق منذ حربها في فيتنام، وهي تقف عاجزة أمام ايران وبرنامجها النووي فلا تستطيع الرد ولا تأذن لحليفها “الاسرائيلي” بذلك مخافة إشعال المنطقة في وجه أمريكا ومصالحها، ثم إنها - أخيراً - بلعت مشروعها الإمبراطوري لبناء “الشرق الأوسط الكبير” وبلعت مشروع “نشر الديمقراطية” الذي بدأ يأتيها بأعدائها الاسلاميين إلى السلطة. أينما دخلت أمريكا معركة خسرتها، ومن مجموع هذه الخسارات ينمو خيار الرد الروسي.

تتقن روسيا كيف ترد ومتى ترد انتقاماً لكرامتها وتكريساً لهيبتها، ولكن الاعتراف من روسيا واجب عليها تجاه من هيأ لها أسباب وقفتها الشجاعة في وجه أمريكا، فما أحد غير العرب والمسلمين في العالم قلم مخالب أمريكا وأجرأ عليها روسيا.
"الخليج"

التعليقات