31/10/2010 - 11:02

أنقره والأزمة الجورجية: تركيا وخياراتها السياسية الكبرى../ د.بشير موسى نافع*

أنقره والأزمة الجورجية: تركيا وخياراتها السياسية الكبرى../ د.بشير موسى نافع*
يغلب على الناظرين لتركيا ما بعد العثمانية رؤية الحقبة الجمهورية وكأنها كتلة تاريخية مصمتة من السياق الأتاتوركي المتصل. أحد المسؤولين عن هذه الرؤية هو كتاب برنارد لويس بالغ النفوذ: 'بروز تركيا الحديثة'، الذي نشر قبل زهاء الخمسين عاماً. لم يؤسس لويس في كتابه لفكرة القطيعة الكاملة بين تركيا الجمهورية وتركيا العثمانية وحسب، بل وقدم الحقبة الجمهورية وكأنها سياق من الثوابت التي لم تتغير في جوهرها إلا قليلاً.

الحقيقة أن تركيا الجمهورية لم تتوقف عن التغير، ليس في الفترة الأخيرة وحسب، بل ومنذ عقود تكوينها الأولى. كانت القناعة التي أخذت في التبلور خلال أيام مصطفى كمال الأخيرة، وبالتأكيد بعد وفاته، في أن الدولة قد أصبحت عبئاً ثقيلاً على المجتمع، وأن إطلاق قوى النهوض لدى الأتراك يتطلب التخفيف من قبضة الدولة على الحياة العامة وأنماط الاجتماع والعقائد، إحدى أهم المنعطفات في تاريخ تركيا الجمهورية. هذه القناعة هي التي أطلقت التعددية التركية السياسية قبل قليل من نهاية الحرب العالمية الثانية.

وبالرغم من التدخلات العسكرية المستمرة، ومن ثلاثة انقلابات سافرة خلال نصف قرن، فقد حافظت تركيا على مسار ديمقراطي تعددي، على هذا النحو أو ذاك. على مستوى موقع تركيا ودورها وعلاقاتها بالعالم، لم يكن خيار تركيا الأربعينات أقل أثراً، إن لم يزد. خلال معظم سنوات الحرب، حافظت تركيا على الحياد بين دول الحلفاء ودول المحور، مسكونة بما اعتبره السياسيون الأتراك خطأ الحرب العالمية الأولى الأكبر، عندما قرر قادة الاتحاد والترقي الزج بالدولة العثمانية في غمار الحرب إلى جانب ألمانيا والإمبراطورية النمساوية الهنغارية، وهو القرار الذي أدى إلى الهزيمة والاحتلال والنهاية العثمانية. ولكن الحياد لم يكن انعكاساً لهواجس الماضي وحسب، بل ونتاجا أيضاً للنزعة الكمالية المعادية للإمبريالية (بالرغم من تبني التحديث الغربي).

رأى السياسيون الأتراك في الحرب بين ألمانيا وخصومها صراعاً إمبريالياً غربياً على القوة والسيطرة والنفوذ، لا ناقة لهم فيه ولا جمل. بيد أن خشية أكبر أخذت في التسلل إلى دوائر صناع السياسة الأتراك، عندما بدا أن الحرب تتجه نحو هزيمة المانيا وانتصار الحلفاء. وما أن أخذ الحلفاء في التحضير لعالم ما بعد الحرب، رأى القادة الأتراك أن من الأفضل أن يكونوا شركاء على المائدة، ولو حتى بمقعد صغير.

أعلنت تركيا الحرب على دول المحور في اللحظات الأخيرة من الحرب الثانية، وأخذت قرارها بأن تكون طرفاً في التحالف الغربي، الذي بات واضحاً أن الولايات المتحدة ستتسلم قياده؛ كما أن تركيا وقعت على البيان التأسيسي للأمم المتحدة. وبانتقال العالم من الحرب الساخنة إلى الحرب الباردة، وتبلورت سياسة التحالفات باعتبارها إحدى أدوات المعسكر الغربي الرئيسية في محاصرة الاتحاد السوفييتي، حتى انضمت تركيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في 1952، ولحلف بغداد بعد ذلك بعامين.

أحد أهم أسباب انحياز أنقرة الكلي للغرب هو بالطبع الخوف التركي التاريخي والمتأصل من روسيا، التي لعبت طموحاتها التوسعية منذ نهاية القرن الثامن عشر دوراً رئيساً في دفع الحدود العثمانية في القرم والقوقاز والبلقان إلى الخلف. ولم يكن من الصعب على الأتراك أن يروا في الاتحاد السوفييتي، جارهم اللصيق في القوقاز والبحر الأسود، خليفة للإمبراطورية الروسية القيصرية. وقد كان التمرد الشيوعي الذي شهدته اليونان بعد نهاية الحرب الثانية، ومطالبة ستالين تركيا بقواعد سوفييتية عسكرية في مضيقي البوسفور والدردنيل، الباعث الرئيسي على إعلان 'مبدأ ترومان' الذي كفل أمن تركيا واليونان. استفادت تركيا من المساعدات الأمريكية لأوروبا تحت راية مشروع مارشال، وشاركت قواتها في الحرب الكورية تحت راية الأمم المتحدة.

بالرغم من تغير الأنظمة والحكومات، حافظت تركيا بلا تعثرات تذكر على علاقاتها التحالفية الغربية. وبعد أن خسرت كل من بريطانيا وفرنسا أغلب ممتلكاتهما الإمبراطورية، أصبح الجيش التركي ثاني قوة عسكرية في الناتو من حيث الحجم، بعد الجيش الأمريكي. وحتى ذهاب ضباط انقلاب 1960 نحو تعزيز التوجه الاجتماعي ودور الدولة، أو تطور توجهات بولنت إيجيفيت الاشتراكية في السبعينات، لم تعكر صفو التحالف التركي الغربي. الإنزال التركي العسكري في شمال قبرص في 1974، الذي كان مؤشر تصعيد في الصراع قديم العهد بين تركيا وعضو الحلف الآخر، اليونان، لم يترك أثراً ملموساً على التزامات تركيا تجاه تحالفاتها الغربية؛ بل أن ثمة اعتقاداً بأن واشنطن لم تكن بعيدة تماماً عن القرار التركي في قبرص.

قبل قليل من غزو العراق، وفي الرد على الطلب الأمريكي بالسماح باستخدام ممر تركي للقوات الأمريكية المتوجهة نحو شمال العراق، صوت البرلمان التركي برفض الطلب الأمريكي. ولأن حزب العدالة والتنمية تمتع بأكثرية برلمانية منذ انتخابات نهاية 2002، فقد تسبب القرار البرلماني في توتر العلاقات بين واشنطن وحكومة العدالة والتنمية، وقيل يومها أن وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد كان مصمماً على الانتقام من العدالة والتنمية. ولكن ما إن وقع العراق تحت الاحتلال، حتى سمحت حكومة اردوغان بتمرير الإمدادات الأمريكية لقوات الاحتلال في شمالي العراق، بدون العودة إلى البرلمان مرة أخرى.

في النهاية، وبالرغم من الخلافات التركية مع السياسة الأمريكية تجاه سنة العراق، وحول تحول المنطقة العراقية التركية الحدودية إلى مرتكز آمن لحزب العمال الكردستاني، فإن حكومة العدالة والتنمية لم تمس علاقات التحالف الغربية، سيما مع الولايات المتحدة. بيد أن الأزمة الجورجية أظهرت ملامح تفكير جديد لدى القادة الأتراك الحاليين، كما تستدعي تفكيراً أكثر شجاعة خلال السنوات القليلة القادمة. أول المؤشرات على ما يجول في خلد القيادة التركية برز خلال رحلة اردوغان الاستطلاعية والتوسطية لتهدئة الوضع المشتعل في جنوب القوقاز. في موسكو، صدرت عن اردوغان تصريحات تشي بتفهمه للموقف الروسي، وتحميله القيادة الجورجية مسؤولية الأزمة.

لم يختلف موقف اردوغان كثيراً عن موقف فرنسا، التي تعتبر عضواً أهم من تركيا بكثير في حلف الأطلسي؛ ولكن اردوغان سارع في المؤتمر الصحافي الذي عقده في تبليسي إلى طرح اقتراح لمنظمة إقليمية في القوقاز تنظم العلاقات بين دوله المختلفة، تعزز التعاون، وتعالج الأزمات. هذا بالطبع حل بعيد المدى، ويحتاج سنوات قبل أن يتبلور، إن قبلت موسكو يوماً بالجلوس إلى طاولة يجلس عليها أمثال ساكشفيلي. ولكن الاقتراح يستبطن توجهاً لإبعاد الأمريكيين عن شؤون القوقاز، وتأمين دور تركي إلى جانب الدور الروسي.

بعد أيام قليلة، نشرت الغارديان البريطانية مقابلة هامة مع الرئيس التركي عبد الله غول، شريك اردوغان في تأسيس العدالة والتنمية وحليفه الأهم في مؤسسة الدولة التركية. قال غول في مقابلته إن الولايات المتحدة لابد أن تعترف بأن العالم لا يمكن إدارته من مركز قوة واحد، داعياً إلى شراكة متعددة في صناعة القرارالعالمي. وأشار إلى أن عالم اليوم يضم أمماً كبرى، كتلاً سكانية هائلة، ومناطق تشهد نمواً اقتصادياً غير مسبوق، لا يمكن أن تستمر واشنطن في تجاهلها. ما توحي به تصريحات غول أن أنقره ترى أن واشنطن هي المسؤولة عن التوتر العالمي الناجم عن الأزمة الجورجية، وهي مسؤولية لا تتعلق بسياسات تفصيلية، ولكن بأسس النظام الدولي.

مثل هذا الموقف يعني بالضرورة أن تركيا، على الأقل تركيا العدالة والتنمية، لا ترى نفسها ملزمة بتبني الموقف الأمريكي من الحرب الروسية الارتدادية على جورجيا، ولا هي ترى في روسيا الحالية الخطر الذي رأته طوال القرون والعقود الماضية. تركيا بالطبع لم تعد تعاني من ثورات بلقانية تشجعها روسيا كما كان وضع الدولة العثمانية، ولا هي تضم أقلية أرمنية كبيرة موالية لروسيا، تهدد أمن البلاد الداخلي. كما أن روسيا الحالية لم تعد إمبراطورية توسعية، لا بالمفهوم القيصري ولا بالمفهوم السوفييتي.

إمكانية بناء علاقات تركية صحية مع روسيا تبدو في أفضل حالاتها منذ بدأ التوسع الروسي باتجاه الجنوب في نهاية القرن الثامن عشر. من ناحية أخرى، بالنظر إلى أن المسؤولين الأتراك يرون أن العالم يمضي نحو نظام تعددي، تحتل فيه الولايات المتحدة موقع الصدارة، فالواضح أنهم يبحثون لبلادهم عن دور لا يضعهم بالضرورة في المعسكر الأمريكي، كما كان عليه الأمر خلال الحرب الباردة.

بالرغم من أن الانضواء في التحالف الغربي وضع تركيا في صدام مع حركات التحرر الوطني في المشرق العربي الإسلامي خلال حقبة الحرب الباردة، يرى قطاع واسع من الأتراك أن هذا التحالف وفر لبلادهم الحماية من النزعات التوسعية السوفييتية. ولكن الالتزام بهذا التحالف بات يشكل قيداً ثقيل الوطأة على موقع تركيا، على دورها الإقليمي، وعلى رؤية الإقليم لها. إن كان النظام الدولي يمضي نحو تعددية ما، وإن كانت تركيا ترغب في، وتعمل على أن تكون قوة إقليمية مؤثرة، فهي لا تستطيع تحمل أعباء التحالف الغربي. فبينما تسعى تركيا لعلاقات أوثق مع جوارها، يثير الموقف التركي من المسألة الفلسطينية تساؤلات عديدة في الشارع العربي. وفي حين تتعرض المصالح الروسية للحصار في البلقان والقوقاز، سيقف التزام تركيا بالتحالف الغربي حجر عثرة في طريق بناء علاقات جوار مع روسيا. وبالرغم من المحاولات التركية الحثيثة لتجنيب المنطقة حرباً أخرى، فإن أحداً لا يعرف كيف سيكون موقف أنقرة في حال تعرضت إيران لضربة أمريكية أو إسرائيلية. بل إن نزعة التفرد الأمريكية خلال السنوات القليلة الماضية تركت أثرها حتى على الأمن التركي المباشر. تعزيز الاستقلال الكردي في شمال العراق، وتحول منطقة الحدود العراقية - التركية إلى مقر لقواعد حزب العمال الكردستاني، كانا نتاجاً طبيعياً للاحتلال الأمريكي للعراق، ولفقدان تركيا أي تأثير يذكر في الساحة العراقي طوال سنوات الاحتلال الأولى.

قد يكون من الصعب توقع قرار انسحاب من حلف الأطلسي، سيما أن الوضع التركي الداخلي ليس موحداً بالضرورة. ولكن على تركيا، كما على الدول العربية الرئيسية، أن تبحث بجدية طرق تخفيف أعباء التحالف الغربي. في عالم يسرع الخطى نحو بنية جديدة للعلاقات الدولية، لا يمكن العيش على أساس من قواعد بنيت في الخمسينات من القرن الماضي.
"القدس العربي"

التعليقات