31/10/2010 - 11:02

أهم من تقرير بيكر- هاملتون وأبعد../ الياس سحّاب

أهم من تقرير بيكر- هاملتون وأبعد../  الياس سحّاب
إذا كان تقرير بيكر- هاملتون الذي كشف بالوقائع والتحليل فشل الحملة العسكرية الأمريكية في العراق، قد دق المسمار الأول في نعش سيطرة المحافظين الجدد على مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن التقرير الأخير الذي أصدرته وكالة الاستخبارات الأمريكية (.C.I.A) عن فشل المعركة الأمريكية ضد الإرهاب مجسداً في منظمة القاعدة، سيدق حتماً المسمار الأخير، أو قبل الأخير، في هذا النعش.

هنالك فوارق اساسية بين التقريرين، أهمها أن تقرير بيكر- هاملتون يبدي حكماً بالفشل على مهمة جزئية من المهمات التي اندفعت اليها الولايات المتحدة في عصر المحافظين الجدد: مهمة غزو العراق. أما التقرير الثاني فيبدي حكماً بالفشل على المهمة العامة التي أقحمت فيها الولايات المتحدة في عهد المحافظين الجدد، بل فشل جوهر الفلسفة العامة للحكم في عهدهم: مكافحة الإرهاب أينما وجد، ومطاردته عسكرياً وإعلامياً وسياسياً، إلى آخر موقع ممكن في الكرة الأرضية.

وقبل الاسترسال في التحليل، لنقتطف من التقرير المقاطع الأساسية، التي تقوم فيها وكالة الاستخبارات بمهمة بسيطة في شكلها، هي مهمة سرد الوقائع كما هي، لكنها مهمة جوهرية في الواقع عندما تتحول إلى إصدار حكم نهائي بالفشل العام والشامل للفلسفة العامة لعهد المحافظين الجدد، وللمهمة الرئيسية لعهدهم، التي تفرعت عنها كل المهمات السياسية التي أقحموا فيها الولايات المتحدة، وكل حلفائها في أوروبا، وسائر أنحاء العالم.

جاء في مقطع أول:

حذرت وكالات الاستخبارات الأمريكية في “تقدير للتهديدات الإرهابية للأراضي الأمريكية” من أن تنظيم القاعدة أصبح حالياً أقوى من اي عهد مضى، وبات يملك القدرة على شن هجمات جديدة ضد الولايات المتحدة. مشيرة بالوقت ذاته إلى أن “حزب الله” قد يفكر في شن هجمات داخل الولايات المتحدة أيضاً، في حال شعر بأن واشنطن تهدده، أو تهدد ايران بشكل مباشر.

وفي استعادة سريعة لسيناريو الهجمة الأمريكية على العالم التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول (تفجير برجي نيويورك)، فبالإمكان تقسيم هذا السيناريو إلى مرحلتين أساسيتين:

- مرحلة الهجوم على أفغانستان، للاطاحة بنظام طالبان.
-مرحلة الهجوم على العراق، للاطاحة بنظام صدام حسين.

وإذا راجعنا خزانة الشعارات التعبوية التي اطلقت لتغطية كل من الغزوتين (داخلياً في الولايات المتحدة، وخارجياً في شتى ارجاء العالم)، فإننا نلاحظ انواعاً مختلفة من الشعارات، مثل شعار اقامة الأنظمة الديمقراطية، محل الأنظمة الشمولية، ومنح شعوب العالم حريتها. لكن هذه الشعارات التي كانت تتفاوت في وتيرة ظهورها واختفائها، كانت تقع كلها تحت عنوان اساسي، كان يوجه دائماً إلى الناخب الأمريكي في الداخل، لضمان حماسه المستمر لخطط الغزو، وموافقته المستمرة على تخصيص الميزانيات الحربية التي تجاوزت مئات المليارات من الدولارات، هذا العنوان الأساسي هو “محاربة الإرهاب في منابعه”. وكانت الشروحات المستفيضة للترويج لهذا الشعار وإدخاله في وجدان المواطن الأمريكي العادي، تؤكد أن الإرهاب مصمم حتماً على اقتحام الولايات المتحدة وضربها في كل مواقعها الداخلية الحساسة، وان انتظار هذا الخطر حتى وقوعه مسألة غير مأمونة، اضافة إلى كونها مسألة مكلفة جداً، وان القرار الحكيم يتلخص في ضربات استباقية للإرهاب، حيثما وجد، وأينما وجد، وان الكلفة المالية لمطاردة الإرهاب في شتى أرجاء العالم، تظل أدنى من الكلفة المالية للتصدي للإرهاب إذا سمح له باقتحام الحدود الأمريكية.

لقد كان هذا هو الوهم الكبير الذي نجح المحافظون الجدد في تسويقه داخليا، ولم تعوزهم أبداً أساليب العثور، بقوة الإقناع التحايلية، على أدلة عملية مزيفة، توهم المواطن الأمريكي بصحة هذه الحملة الدعائية، فأصبح كافياً بعد ذلك وصم أي اعتراض على السياسة الأمريكية، في أي مكان من العالم، ومهما كانت درجة هذا الاعتراض وأساليبه، بدمغة “الإرهاب” الذي يشكل تهديداً مباشراً لأمن المواطن الأمريكي واستقراره وهناءة عيشه في عقر داره، الأمر الذي أسبغ الشرعية والوطنية والحكمة وبعد النظر والقوة الأخلاقية، على أي تصرف أخرق يواصل المحافظون الجدد ارتكابه في أي موقع في العالم، احتلالاً وتخريباً ونهباً وتدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية لأي بلد في العالم يدخل في منطقة العمليات الأمريكية.

هكذا ظلت الأمور تسير من دون حسيب أو رقيب، سنوات طويلة منذ انطلاق حملة الغزو الأمريكي لأفغانستان، وحملة غزو العراق.

لكننا سنلاحظ ونحن نستعيد هذا السيناريو الحافل للغزو الامبراطوري الأمريكي للعالم، من خلال غزو أفغانستان وغزو العراق، إن الحملة الدعاوية المساندة لهذا الغزو الأمريكي لم تبق على حالها الأول من النجاح المنقطع النظير، والإقناع الشامل، فقد بدأت استطلاعات الرأي منذ مدة غير قصيرة، تشير إلى تدنّ مستمر في شعبية الرئيس بوش. وبدأت الضغوط الناجمة عن اكتشاف أسباب الفشل العملي في كل من أفغانستان والعراق، تطيح بصقور المحافظين الجدد واحداً تلو الآخر (على الأخص رامسفيلد وولفوفيتز). وظهر تقرير لجنة بيكر- هاملتون المشكلة من ديمقراطيين وجمهوريين، يؤكد فشل الخطة الأمريكية في العراق فشلاً كاملاً، متزامناً مع فشل الحزب الجمهوري الحاكم في الاحتفاظ بسيطرته على الأكثرية في مجلسي الشيوخ والنواب.

لكن أفصح الأجوبة جاء على لسان وكالات الاستخبارات الأمريكية “عندما أرادت المقارنة بين وضع الإرهاب، وتنظيم القاعدة بالذات، عندما انطلقت الغزوات الامبراطورية الأمريكية، ووضعهما اليوم، ونحن في منتصف العام السابع من القرن الجديد. وإذا بالتقارير العملية الأمريكية تؤكد ان القاعدة (اي الإرهاب) لم تكن يوماً بالقوة التي هي عليها الآن، وتؤكد قدرتها على تهديد الداخل الأمريكي.

لكن ليس المهم فقط هذا الاستنتاج العام، فالتقرير يشير إلى فشلين مدووين في هذا الموضوع في كل من أفغانستان والعراق:

ففي أفغانستان، ورغم إسقاط نظام طالبان، يؤكد التقرير على وجود ممر آمن لقيادات القاعدة وطالبان على طول الحدود الباكستانية- الأفغانية.

وفي العراق، وبينما يعلم الجميع أن القاعدة لم يكن لها أدنى وجود في ظل نظام صدام الدكتاتوري الحديدي، فقد تحول البلد، في ظل الاحتلال الأمريكي، إلى أحد أغنى مواقع القاعدة في العالم بساحات القتال والتدريب والحشد والاستقطاب والانطلاق والتسلح.

فأي فشل ذريع هذا، في المهمة الامبراطورية الكبرى، والفلسفة الإمبراطورية العظمى (مكافحة الإرهاب في منابعه) هو الذي سيحاسب عليه الناخب الأمريكي الحزب الجمهوري، وقياداته العليا من ساسة المحافظين الجدد، وأي وهم جديد ستعمل أجهزة الدعاية الأمريكية الحاكمة على استنباطه لاستمرار تخدير المواطن الأمريكي الفرد، ومؤسسات المجتمع المدني الأمريكي، فيما تبقى من ولاية حكم الرئيس بوش؟

هذا في المدى القريب المباشر، لكن يبقى التساؤل الأهم والأعمق، في المدى البعيد:

ماذا سيفعل المجتمع الدولي، للملمة الآثار المدمرة، والمنتشرة عالمياً، لتلك المواجهة الحمقاء بين جنون التمدد الامبراطوري الأمريكي، وتنظيم القاعدة، الذي ولد وترعرع في حضنه في أفغانستان أثناء مقارعة النفوذ السوفييتي، ثم انقلب يقارعه فيها، وفي شتى أرجاء العالم؟

"الخليج"

التعليقات