31/10/2010 - 11:02

إذا الكرامة أومضت../ جميل مطر*

إذا الكرامة أومضت../ جميل مطر*
لم أتعود القراءة لعالم سياسي أمريكي أو إعلامي كبير في الغرب كلاماً عن الكرامة. فجأة، وجدت كلمة كرامة تطل بغزارة من بين سطور في مقالات وكتب عديدة يكتبها أمريكيون وتنشر في الولايات المتحدة. الكلمة التي كانت إحدى مفردات قاموسنا الفكري والسياسي منذ عقود، وكانت نغمة ثابتة في الأناشيد الوطنية والكتب المدرسية ومحل سخرية أو إعجاب عدد من الذين تخصصوا في تاريخ المنطقة وواقعها وقتذاك، أصبحت فجأة اقتناعاً يفسرون به بعض ما يحدث في بلادهم وكثيراً مما يحدث في الخارج.

يبدو لي أن أزمة أمريكا الراهنة، وهي أزمة متعددة الجوانب، وراء هذا الاكتشاف المتأخر للدور الذي يقوم به مفهوم الكبرياء في إدارة العلاقات الدولية وتفسير كوامن قضاياها. لقد استعصى العراق على فهم علماء السياسة في أمريكا منذ أن قرر الرئيس بوش لسبب لا نعرفه غزو العراق واحتلاله. كتبوا كثيراً وقدموا تحليلات وتفسيرات عديدة لظاهرة المقاومة العراقية التي لم تنشب فور الغزو أو ضده، وإنما نشبت ضد الاحتلال وبعد الغزو بفترة، ثم استمرت وتصاعدت وتعددت أشكالها وأوقعت بالمحتل خسائر مادية وبشرية لم تدخل في حسابه عند وضع خطط الغزو، ولم ينتبه لها في ذلك الحين المستشارون، وبعضهم عراقي متأمرك منذ عقود أو تأمرك خلال سنوات الإعداد للغزو والاحتلال.

وجاء يوم، بعد ما يقرب من أربع سنوات، خرج علينا فيه David Killcullen وهو عقيد سابق بالجيش الاسترالي اشترك في التخطيط لحرب العراق ومساعد راهن لكوندوليزا رايس، بمحاضرة أحدثت صدى قال فيها “إن أمريكا تتحدث، ويتحدث الأمريكيون في العراق عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما يتحدث العراقيون عن العدل والكرامة. لم يعرف الأمريكيون الذين خططوا لحرب العراق وقبلها لحروب كثيرة أنهم أسقطوا شيئاً مهماً من حسابات الحرب والغزو والاحتلال، ركزوا على العقيدة والطائفة والأرض والديمقراطية والحرية والنفط وأمور أخرى، ولكنهم أغفلوا الكرامة. ويكتشفون الآن أن هذه الكرامة أهم من كل ما ركزوا عليه وبنوا عليه خططهم”.

وبسبب ورطة أمريكا في العراق يحاول محللون أمريكيون النظر إلى مشكلات العالم بطريقة مختلفة. يفهمون الآن مثلاً حدة انفعال الأتراك، حكومة وجيشاً وشعباً، على مشروع قرار الكونجرس في شأن مذبحة الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، واعتبارها حرب إبادة. لا شيء يفسر هذا الانفعال واستعداد الأتراك للتخلي عن صداقة أمريكا ودعمها إن استمر الكونجرس في نياته تجاه هذه القضية. سوى تمسك الأكراد حكومة وشعباً بالكرامة.

وكان زبيغينو برجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كارتر قد نشر كتاباً منذ شهور بعنوان الفرصة الثانية أشار فيه، وإن من دون تفصيل، إلى الكرامة حين دعا حكومة الولايات المتحدة إلى “انتهاز فرصة الصحوة السياسية العالمية لنشر مفهوم الكرامة الإنسانية العالمية”. وفي رأيه أن هذه الكرامة “العالمية” تتضمن الديمقراطية والحرية واحترام ثقافات الشعوب وخصوصياتها وآمالها. وظهرت كتابات أخرى تؤكد أن الشعور الوطني الجارف ضد الأجنبي يشتعل غالباً بسبب إحساس غاضب بكرامة مجروحة ورغبة جارفة في كسب الاعتراف بالحقوق وأحياناً بالوجود، والغريب أن برجنسكي، ولعله أحد القلائل الذين فهموا أفغانستان وحرب شعبها ضد السوفييت فهماً جيداً، لم يكتب حينذاك عن الكرامة المجروحة للشعب الأفغاني.

آخرون بعضهم محللون عرب وجدوا في الكرامة تفسيراً، ربما أوحد، لهذا الصمود الغريب لشعب قبلي مفتت ومتعدد المذاهب واللغات في وجه الإمبراطورية البريطانية ثم في وجه الإمبراطورية السوفييتية، والآن يصمد في وجه الإمبراطورية الأمريكية والقوات المساعدة لها في حلف الأطلسي. لم ينتبه علماء الغرب إلى أهمية الكبرياء في السياسة وفي العقل الشرقي، بل رفضوا التعامل معها بحجة أنها تعصى على القياس الكمي والعلمي.

ولم يستثنوا الفلسطينيين، حتى بعد أن تجاوزت مأساتهم كل الحدود الإنسانية والسياسية، وارتفع صراخ آلامهم يصرخ في وجوه البشر، عرباً كانوا أم غير عرب، هؤلاء الفلسطينيون يشعرون، وربما عن حق، أن أقرب الناس إليهم جغرافياً على الأقل الذين لا يمدون إليهم يد الإنقاذ، ولا يساعدون مقاومتهم المساعدة الواجبة يرتكبون ما هو أسوأ، هؤلاء الجيران لا يعترفون بأن للكرامة دوراً في احتدام هذا الصراع، ومع ذلك بقي الفلسطينيون صامدين، وأكثر من الصمود أنهم مستمرون في المقاومة بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى. لا شيء، في رأيي، ينشط هذه المقاومة ويشحذ قواها أكثر من الكرامة، فالأرض الشحيحة تضيع والفقر المدقع يزداد والفساد الخائن ينتشر ويسمم والعائلات انقسمت بين جنوبيين وشماليين أو غربيين وشرقيين والتعليم المتدهور أصلاً ينهار، ولم يبق لهم غير الكرامة واعتراف الآخرين بها.

وفي أنحاء أخرى من العالم، في أمريكا اللاتينية وفي إفريقيا وفي الشرق الأوسط، أشعلت سلبيات العولمة والهيمنة الإمبراطورية غريزة الكرامة عند شعوب كثيرة. يشكو الأمريكيون من كراهية متصاعدة ضد قادة بلادهم وسياساتها ويلقون بالمسؤولية عن الكراهية وعدم الاستقرار وأعمال العنف، أياً كان حجمها ونوعها، على ما يسمى الإرهاب، ولكن ظهر منهم الآن من يعترف صراحة وبكل عزم وقوة أن العاطلين عن العمل من مزارعي إفريقيا والمكسيك وغيرها من دول أمريكا اللاتينية والعاطلين في بقية دول العالم ومعهم ملايين البشر الذين يشكون من الفقر المؤلم الذي غزا حياتهم وقراهم وأوطانهم، كل هؤلاء لم يعد لديهم ما يخشون عليه بعد أن توحش اقتصاد السوق البريطانية، حسب تعبير الاقتصادية نعومي كلاين والاقتصادي الأمريكي روبرت رايش، هؤلاء العاطلون والفقراء ومعهم شعوب كثيرة تشعر أن الأوطان فقدت حريتها تحت ضغط السوق وضغوط أمريكا، بمعنى آخر، صار الوطن غير وطن الكرامة والعزة، أو صار وطناً لعدد قليل فقط من الناس لا تدخل الكرامة في حساباتهم، هذا العدد القليل لا يعتبر حملة الرئيس بوش لنشر الديمقراطية أوامر إمبراطورية، أي لا يعتبرونها انتقاصاً من كرامتهم أو اعتداء عليها، رغم أن الديمقراطية بالنسبة لهم كانت حلماً قديماً وبقيت أملاً كبيراً.

هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء وملايين أخرى ينتفضون الآن، وأعتقد أن ما نراه ماثلاً أمام أعيننا امتداداً من الحدود الباكستانية في الشمال الشرقي والجنوب الشرقي إلى سهول السند والبنجاب وما نراه من انفعالات في إيران والعراق وفي كينيا والصومال والسودان وفي مصر وفلسطين وتركيا وأوكرانيا وجورجيا وفي أحياء المهاجرين في دول غرب أوروبا وفي فنزويلا والعديد من دول أمريكا اللاتينية، يعكس حال أزمة عالمية تعددت أسبابها، ومن بينها هذه الأسباب أو في صدارتها، إنكار كرامة الشعوب أو تجاهلها.

إن أشد وأكثر ما تعرضت له الفتيات اللاتي تمسكن بغطاء الرأس في فرنسا أو في بريطانيا كان المسّ بكرامتهن وليس العداء لعقيدتهن، وكانت شياطين صدام الأديان والحضارات في الانتظار لاستغلال هذا الشعور بالإهانة وتحويله إلى حرب دينية، حدث شيء مماثل في أمريكا إذ يكتشف الأمريكيون السود أنهم أخطأوا خطأ كبيراً عندما انساقوا وراء الدعوة المشبوهة إلى لعب دور الضحية، فالضحية لا تثور ولا تنتقم، والضحية في معظم الأحوال إما فاقدة لروحها أو فاقدة كرامتها. ولا يخفى أن “إسرائيل” تحاول فرض الشعور على الفلسطينيين بأنهم ضحايا بهدف أن يفقد الفرد كرامته بعد أرضه ووطنه وقومه.

منذ أسابيع قليلة صدر كتاب ل “ويليام بولك”، الأستاذ المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط، والأكثر قرباً بين المؤرخين الأمريكيين إلى أحوالنا. ناقش بولك في كتابه بعنوان “سياسات عنيفة” التناقض بين “الضحاوية” إن صح التعبير، أي شعور الإنسان أو الشعب بأنه ضحية وبين الكرامة، ويقول إن الناس لا يحبون أن يقول لهم الأجانب ماذا يجب عليهم أن يفعلوا أو يعيشوا. إن الوجود الأجنبي في حد ذاته يثير الشعور بالتفرد وفي النهاية يدفع إلى تآلف الجماعة وتضامنها، تماماً كالتدخل الأجنبي الذي يجرح كرامة الشعوب. ويخلص بولك إلى النتيجة التي يراها منطقية وموثقة تاريخياً وهي أن المقاومة ضد الأجنبي المحتل لا تنهزم بسهولة.

وفي محاولة جادة لإقناع علماء السياسة والعاملين فيها برأيه في محورية الكرامة وأهميتها في دراسة تاريخ الشعوب وقراءة حاضرها كتب بذكاء وعن خبرة محللاً تجارب إحدى عشرة حالة مقاومة ضد محتل أجنبي أو ضد غاصب أو ظالم، كتب عن حرب المقاومة الأمريكية ضد المحتل البريطاني ماراً بحروب المقاومة الفلسطينية والصينية والجزائرية وغيرها منتهياً إلى حرب المقاومة في العراق. وفي كتابه لمحات تستحق الكتابة عنها في فرصة أخرى، خاصة أن “ومضات كرامة” عادت تبرق في بلدنا وإن بين الحين والحين.
"الخليج"

التعليقات