31/10/2010 - 11:02

إلى العقل .. مرة أخرى../ فادي العلي*

إلى العقل .. مرة أخرى../ فادي العلي*
لا يندرج مضمون هذه المفردات في زخم الجدل الدائر حول مخاطر اجتماع الخريف، ونية السلطة الفلسطينية حضوره، كما لا تتعلق بالجدوى السياسية التي ينتظرها من يقومون بالتحضير لمؤتمر دمشق.. وعلى الرغم من أهمية هذه المرحلة وتداعيات أحداثها على المشهد الفلسطيني والعربي، فلا بد من تناول قضية لا تقل أهمية عن صخب هذه المؤتمرات، بل تقع في صلبها، ولو كان الواقع الداخلي الفلسطيني على حال مختلفة عما هو طارئ الآن من انقسام وتفكك للحالة السياسية، لكانت هذه القضية كفيلة بأن تضع حملها على سلم الأولويات الوطنية، على الرغم من دخول هذا السلم وأرقامه في دهاليز السراب وأحلام الدولة منذ سنوات طويلة..

إنه حصار غزة، مدينة بأكملها مهددة بقطع شرايين الحياة عنها، فالماء والكهرباء والوقود وعبور البشر والبضائع، قد تدخل في قائمة الأحلام والطموحات الفلسطينية، وقد تصبح رقماً ضمن جداول دائرة المفاوضات والتي وصفها رئيسها السيد صائب عريقات بأنها( المدرسة التفاوضية الأفضل في منطقة الشرق الأوسط)، والأغرب أيضا..

وعلى الرغم من التهديدات الإسرائيلية وعلى مدى الشهور السابقة بقطع الحياة عن القطاع والتلويح بها، أو استخدامها لفترات وجيزة، إلا أن القرار بات جدياً هذه المرة من حيث الاستمرارية، في ظل مناخ سياسي إسرائيلي وعربي ودولي مهيأ لفرض هذه العقوبات الجماعية.. فموعد قطاف ثمار الإنقسام الفلسطيني قد حان..

وفي استعراضٍ سريع لردود الفعل على هذه القرارات، سنجد أن هناك سلسلة باتت روتينية واعتيادية، تبدأ بقلق المنظمة الأممية، وبتنديد أوروبي جزئي و خجول، وخداع أمريكي لم يعد ينطلي على أحد إذا ما استثنينا النظام الرسمي العربي المعتدل، الباقي على نهج الصمت، وقد يقوم بعضهم بتقريع بعض الفلسطينيين وتحميلهم مسؤولية(الغضب ) الإسرائيلي الذي يشهد مسرحه السياسي جدلاً حول جدوى قيام حكومتهم بفرض هذه العقوبات والخوف من تأثير تداعياتها سلباً على المصالح الإسرائيلية، وقد نجد أصواتاً ضمن هذا المشهد تأبه للنتائج الإنسانية الكارثية لهذا الحصار.. لكنها تبقى خافتة وغير مؤثرة.

لكن ما كان مستغرباً ضمن هذه السلسلة من الردود، هو إدانة فصائل فلسطينية لهذا الإجراءات، وما يثير الدهشة هنا بأن هذه الفصائل وجدت نفسها بحاجة للتنديد وإلى إصدارها موقفاً رسمياً بذلك، متجاهلة عدم أهمية هذا التنديد من جانبها، فرفض هذه الفصائل لمجمل ممارسات العدو مسألة حتمية وتلقائية يفرضها العقل البشري، فالتنديد وطقوس بياناته قد يكون كافياً لو صدر من قِبل بعض الدول المترامية على أطراف آسيا و إفريقيا، لكن ما هو مطلوب من هذه الفصائل حالة أشد قسوة ًمن صياغة البيانات..

فإذا كانت هذه الفصائل متفقة فيما بينها على مقاومة هذا الإحتلال، وتؤكد رفضها وبشكل مستمر من الدخول في أي تسويةً سياسيةً معه، فعليها أيضا أن لا تتجاهل مسؤولياتها وواجباتها تجاه ما يحدث على الأرض، فحصار غزة وتجويع أهلنا فيها، وإلحاق الشلل بكل قطاعاتها الإقتصادية وماينتج عن هذا من كوارث اجتماعية وإنسانية، وعلى الرغم من أن الممارسات الوحشية الإسرائيلية ليست بطارئة لإنها تأتي ضمن خط استراتيجي في التعاطي مع الهوية الفلسطينية، إلا أن قسوة الحصار الكامل هذه المرة وخطورة أبعاده السياسية تجعل منه استثنائياً وبامتياز.. مما يتطلب من جميع الأطراف الفلسطينية وقفة استثنائية أيضا وممنهجة لمواجهة هذا الموت القادم.. برغم جفاء السياسة الفلسطينية سواء الرسمية أو الفصائلية للعمل الممنهج، فقد دلت التجارب السابقة بأن الفساد والتناحر الداخلي هما العملين الوحيدين الممنهجين ضمن المشهد الفلسطيني ..

وعليه، فقد بات على كل القوى الحية الفلسطينية بأن تدرك بأن موقفها من العناوين السياسية الكبرى، لا يعطيها مبرراً لكي تنأى بنفسها عن الشأن المعيشي للمواطن الفلسطيني، فحق العودة، وتهويد القدس ، وغموض الحدود، وسرطان الاستيطان، وصراع المياه، وغيرها من القضايا، لن تستطيع هذه القوى الوقوف أمامها بواقع سياسي منقسم، وشعبي مستنزف لدرجة العتمة والجوع..

فالرغبة في فك الحصار الكبير القادم عن غزة، وإفشال المخطط والذي بدأ الاحتلال بتطبيقه الآن مستهدفاً مستقبل غزة سياسياً وإدارياً، مجرد رغبات لن تتحقق إلا بإرادة تجمع أطراف الإنقسام.

لذا بات مطلوباً من هذه الفصائل ومجموع الهيئات والشخصيات المستقلة وغيرها من الطاقات الفلسطينية أن تبادر إلى رأب التصدع القائم، وأن تحاول البحث عما هو مشترك، وعن قواسم تجمع المكونات السياسية والإجتماعية الفلسطينية، فالدعوة إلى مؤتمر يأخذ من مقاومة حصار غزة عنواناً لانعقاده قد يجد آذاناً صاغية كثيرة، وقبولاً لدى أطرافاً قد ترفض الحضور تحت عناوين أخرى، وقد يشكل مدخلاً للتلاقي حول قضايا متعددة، فحصار غزة.. قد يكون فرصةً تاريخيةً أمام الفلسطينيين للعودة إلى إطار يجمعهم، ونقطة بداية لرسم سياسة نضالية لمقاومة ما يتهدد غزة بالمقام الأول.

إن التاريخ سوف يسجل موقفاً كبيراً لهذه الفصائل إذا قامت بصياغة مبادرة وخطة وطنية لمواجهة الحصار، وعليها أن تكون متكاملة بجوانبها السياسية و الإعلامية والشعبية والمالية وأن لا تقتصر على الأراضي المحتلة وبعض العواصم العربية، بل عليها أن تتوجه إلى عواصم صنع القرار في هذا العالم، فعلى الفلسطينيون أن يدركوا بأن لمطالبهم هذه المرة جانباً إنسانياً فاقعاً، لن يجد مناهضوه ذرائع كبيرة لمنع المطالبة به، فالمطالبة بحماية مدينة آهلة بالسكان يتهددهم المرض والجوع والإبادة الجماعية، مطالب إنسانية بحتة لايمكن لأحدٍ على وجه هذه الأرض أن يجادل بعدالتها، شرط أن يتأمن الجهد والضغط السياسي و الشعبي الكافي على مراكز صنع القرار في الدول المؤثرة، وهذا لن يتم دون توافق فلسطيني كامل، لذا فإن الشارع الفلسطيني ينتظر من هذه الفصائل كما ينتطر من السلطة الوطنية بأن يتقدموا جميعاً إلى خطوات عملية جامعة، وسيرفض أي خطوة تعزز القطيعة والتناحر من أي طرف كان.

ولأننا نحيا ضمن حقبةٍ زمنية متسارعة الأحداث، بات على بعض النخب السياسية الفلسطينية أن تدرك بأن اقترابها من الواقع يجعلها أكثر قدرةً على المقاومة والممانعة، كما عليها أن لا تبقى أسيرةً لأنماط عملٍ تقليدية باتت أقرب إلى الرمزية، فهذا لم يعد يجدي في مواجهة عدوٍ يقوم باستثمار كل طاقاته في سياق صراعه مع حقوقنا..
فمن قال إن الثورة تولد من رحمِ الأحزان، كان محقاً، و لكنها لا تولد من قلب الموت أبداً..

التعليقات