31/10/2010 - 11:02

إيديولوجيا الخضوع../ الفضل شلق

إيديولوجيا الخضوع../ الفضل شلق
غابت السيطرة السياسية الامبريالية منذ استقلال الأقطار العربية. لكن البنى الثقافية للسيطرة بقيت. عاد الاستعمار المباشر مؤخراً. كثير من المناضلين السابقين ضد الامبريالية تحوّلوا إلى مرحبين بالاحتلال رجاء الخلاص من الديكتاتور المحلي. رحبت النخبة الثقافية ـ السياسية بالاستعمار المباشر، بالاحتلال. سكتت عن القواعد، صمتت عن القواعد المتخفية في السفارات، فلسفت الانتخابات المزورة في ظل الاحتلال، قبلت وهلّلت لحداثة الغرب رغم وحشيتها، قبلت بكل بساطةٍ الادعاء بأن شعوبنا هي مجرد طوائف وقبائل وإثنيات ومذاهب متناحرة، وبأنها مجرد مكوِّنات لا وقت لديها إلا للاقتتال في ما بينها وإنتاج الحروب الأهلية. ارتعبت النخبة الثقافية عندنا من إمكان انسحاب جيوش الاحتلال. هي على يقين بأن الانسحاب سيكون كارثة على مجتمعاتنا وأن بقاء جيوش الاحتلال يحفظ هذه المجتمعات من القيام بما خُلقت من أجل القيام به، أي الغزو والغزو المضاد.

في اعتبار هذه النخب أن مجتمعاتنا «بدائية» لا تعرف التعامل في ما بينها إلا بالعنف والنهب المتبادل وبغض الجار المغاير. في نظرها يكره أعضاء مجتمعاتنا الجار القريب ويفضلون الأجنبي الآتي مما وراء البحار ليعلمنا الحداثة والتعامل المدني، واستخدام الشوكة والسكينة في الطعام، والتهذيب، واللياقة، وعدم البصق في الشارع، وعدم رمي الخرق البالية في الآنية المخصصة للقمامة.

الغرب بنظرهم رسالة. الرسالة تمدينية. لبنان رسالة. لبنان جزء من هذه الرسالة. لبنان جزء من الغرب. وجوده في الشرق منَّة منحنا إياها التاريخ. تاريخنا مظلم لكنه أعطانا هذه المنحة. قبل 1975 كان لبنان سويسرا الشرق وكان له دور. الآن له دور آخر.

لكل قطر عربي دور هو أن يؤدّي الرسالة التمدينية للغرب. رسالة الحضارة والتقدم. الرسالة التي تُعلِّمنا كيف نصير بشراً أسوياء. لسنا أسوياء بنظر نخبتنا الثقافية، نحتاج إلى هداية؛ كما تقول الأصول الدينية إننا بحاجة إلى هداية دينية، تقول أصولية الرسالة الغربية إننا بحاجة إلى هداية حداثية.

كل منهما تريد أن تغيّرنا. نقتل، ننهب، نستباح إلى أن نستوفي شروط الغرب ونصير على مستوى من اللياقة الثقافية التي تؤهلنا لشهادة حسن السلوك. يبدو أننا لا نتعلم بسهولة، لذلك تستمر عندنا الاحتلالات وتفكيك دولنا، وتستمر النخب الثقافية في عملها من أجل زرع الدونية الثقافية في قلوبنا وعقولنا، ومن أجل أن نصبح كالعبيد الذين يدافعون عن سادتهم. يريدوننا مماليك جدداً.

تمارس الامبريالية سياسة الإخضاع، وتمارس النخبة الثقافية عندنا إيديولوجيا الخضوع. نفتن بتركيا سليلة الإمبراطورية العثمانية المجيدة. نرتعب من إيران سليلة العجم أعداء العرب. نرحب بالاحتلال الإمبراطوري الغربي. المطلوب واحد هو أن نتخلى عن عروبتنا؛ أن يتخلى الجمهور العربي عما يجعله وجوداً ذا معنى ومغزى في نظره. تخلي الناس العرب عن وجدانهم هو الشرط الأساسي ليصيروا مقبولين بنظر الغرب وبنظر النخبة الثقافية العربية. لن تتوقف المجازر في الأنحاء العربية، بين المحيطين الأطلسي والهندي إلا عندما يتخلى الناس عن وجدانهم العربي.

هيّأتنا الأنظمة العربية لهذه المهمة، عبر عقود من القمع والاستبداد. عوّدتنا هذه الأنظمة على أن نقمع أنفسنا. عودتنا على قمع الذات، أو ما يمكن تسميته الانقماع الذاتي. في الانقماع الذاتي يعرف كل «مواطن» مهمته سلفاً. لا لزوم للأوامر من فوق. يتجاوب المواطن مع السلطة ومتطلباتها بما في ذلك متطلباتها المعرفية. أهم المتطلبات المعرفية لدى سلطاتنا هي أن لا تعرف، هي أن تتخلى النخبة الثقافية نفسها عن مهمة المعرفة؛ المهمة الوحيدة التي تجعل منها نخبة. في غياب المعرفة، نجهل طبيعة أنظمتنا. نجهل طبيعة النظام العالمي، نجهل ماهية الامبريالية، نجهل ارتباط الأنظمة لدينا بالامبريالية العالمية، نجهل ارتباط السلطة المحلية بالسلطة العالمية، نجهل أن السلطة العالمية هي الأقوى، وهي التي تدير العالم، وهي التي تديرنا وتتحكم بنا. هيأتنا أنظمتنا لاحتفالية رفع قناع الامبريالية عن وجهها فاستقبلنا الاحتلالات بالتصفيق والتهليل. واخترعنا المبررات للقبول بالاحتلالات، مارسنا ايديولوجيا الخضوع بكفاءة عالية.

ما نناقشه هنا ليس المعرفة الضرورية لاستنتاج الآراء والمواقف. تخلو البلدان العربية تقريباً من مراكز البحوث. إنتاج المعرفة يبدو شبه مستحيل. لم يعد ممكناً في الزمن المعاصر إلا اعتماد الدول على مراكز البحوث. انعدام البحوث عندنا سياسة مقصودة. النتيجة هي أن رجال السياسة يستأثرون بالرأي والموقف دون الاستعانة بخبراء المعرفة.

خبراء المعرفة قليلون على أي حال، وهم لا لزوم لهم في جميع الأحوال. يحتكر الساسة العرب الرأي دون تأسيس الرأي على معرفة. وهناك قلة من النخبة الثقافية ممّن تتمرّد وتستطيع فرض رأيها على الحكام. يُسرُّ الحكام والساسة بذلك و يسرحون ويمرحون في دنيا الرأي ويأخذون مواقف عشوائية دون حساب أو رقابة، أو حتى دون اعتماد على قاعدة معرفية. المعرفة تنتج تمرداً، وفي أسوأ الأحوال يمكن ترويضها. وقد أفلح الحكام والسياسيون في ذلك. تدجن وسائل القمع النخبة الثقافية وتروضها إذ لا مراكز بحثية تحميها.

يحتكر السياسيون الرأي، فتأتي المواقف عشوائية متقلبة. لا في التكتيكات والاستراتيجيات وحسب، بل في القضايا المصيرية ايضاً. كان توقيع اتفاق أوسلو دون علم المؤسسات الفلسطينية المعرفية؛ كانت معظم الوفود العربية المفاوضة دون ما يكفيها من الوثائق والخرائط التي تشكل أساسا للمفاوضات.

وفي لبنان، تطرح شعارات من قبل فئات سياسية دون أن يدرك أصحابها أنها في حدها الأسوأ عنصرية، وفي حدها الأفضل تجهل أو تتجاهل ملامح الصراع في المنطقة، وتنكر القضايا الأساسية التي يعتبرها شعبنا او شعوبنا حيوية بالنسبة لها، من مثل شعار العروبة الحضارية.

يتجاهل أصحاب هذه الشعارات أن تقسيم العروبة إلى حضارية وغير حضارية يعني، من ضمن ما يعني، أن هناك عرباً غير حضاريين، برابرة، متخلفين، خانعين، كسالى، يحتاجون إلى مَن يأخذ بيدهم من الأجانب أو المحليين لاستكمال مهمة التمدين الامبريالية. ويتجاهل من يقسم العروبة إلى فريقين انه يقسمها إلى طائفتين، ونحن بغنى عن الطوائف. مفاهيم تُنتج محلياً، شعارات كان الاستعمار يعمل على نشرها في القرنين السابقين.

ندور في حلقة مفرغة لأننا نفتقد التمرد؛ التمرد الذي يستند إلى المعرفة والموقف الجديين. تمرد من لديهم قضية، او من بقي منهم. تنظر الغالبية من النخبة إلى التمرد كأنه شيء غير صحي وغير عملي. نغرق في واقعيتنا. نستسلم للواقع. نستسلم للقوى المسيطرة، قوى الاحتلال في الخارج وقوى الاستبداد والأصولية في الداخل.

ندور في حلقة مفرغة، لأننا، أولاً، ندور حول أنفسنا. نتماحك، نتجادل دون أن نحاور. ليست هناك مواضيع كثيرة للحوار، أمور العالم المهمة، الأزمة المالية (التي تطال منطقتنا) إلى الحروب (ومنطقتنا ساحة لها) إلى القرارات الدولية المتعلقة بالعقوبات ومصادرة الثروات لصالح الإمبراطورية (ونحن في مقدمة من يتعرض لها)... كل هذه الأمور ليست مواضيع للحوار بيننا. لا حوار جدياً دون هذه المواضيع. نقضي معظم وقتنا في محاولة التنبؤ حول تشكيل حكومة لبنان.

لدى شعوب المنطقة مقاومة ضد الاحتلال وضد الاستغلال وضد الاضطهاد وضد النهب المنظم... الخ. حُصرت المقاومة في بؤر جغرافية ضيقة ومعدودة؛ وحوصرت المقاومة فكرياً، فما يوجهها أفكار قليلة أو معدومة لدى قادة مجهولين أو متخفين أو مشغولين بأمور يومية وتفاصيل معيشية.

المقاومة، عادة، تطرح قضايا كبرى. عندنا تطرح المقاومة قضايا صغرى دون تراكم، لأنها صارت مقاومات، ولأنها صارت موضوعاً للتجاذب بين أطراف النزاعات الإقليمية والدولية.

حوصرت المقاومة لأنها لا تمتلك أيديولوجيا كونية للصراع. لا يُفترض أن تعتمد المقاومة على أنظمة بل على شعبها لربطه بالعالم. كل مقاومة عربية لا ترى القضية العربية هي قضية العالم، وقضية العالم هي قضيتها، تسقط في أيديولوجيا محلية واقعية، أيديولوجيا الخضوع.

تسيطر على الفكر الشائع لدى النخبة العربية أيديولوجيا أداتية واقعية استسلامية. سقفها الواقع، الأمر الراهن، وكيفية الاستفادة مما هو مباشر. ترى الأشجار ولا ترى الغابة، تعتقد أن أي فعل يجب أن تعقبه فائدة مباشرة. النصر بالنسبة لها ليس نتيجة أو حصيلة عملية تاريخية؛ النصر هو ما يمكن أن نحققه اليوم أو غداً. يهمل ما لا فائدة مباشرة له. واقعية، دون أحلام ودون يوتوبيا، دون تمرد ودون تجاوز. لا يحدث التاريخ دون تجاوز.

بين قوى السيطرة وقوى الخضوع، قوى الخضوع هي التي تصنع التاريخ بمقاومتها. من طبيعتها أن تنشد التغيير والتجاوز. لولا المقاومة، لولا مقاومة المجتمع من تحت، لأبقت قوى السيطرة الأوضاع على ما هي. لكن مقاومة الجمهور تتناقض مع خضوع النخب الثقافية ومع استسلامها ومع أيديولوجيتها الواقعية، أيديولوجيا الخضوع، التي نعتنقها.
لا يمكن للمرء أن يفكّر في هذا الموضوع إلا ويتذكّر إدوارد سعيد وكتابه «الثقافة والامبريالية».
"السفير"

التعليقات