31/10/2010 - 11:02

احتكار الحقيقة والحكمة / زياد منى

دعوة إلى إلغاء تفعيل العقل وللقضاء على الآخر «إن من سلبك كل شيء لن يعطيك أي شيء. ولو أعطاك أهانك» محمود درويش ‹يوميات الحزن العادي›.

احتكار الحقيقة والحكمة / زياد منى

«إن من سلبك كل شيء لن يعطيك أي شيء. ولو أعطاك أهانك»


محمود درويش ‹يوميات الحزن العادي›.


 



عندما علمت بزيارة محمود درويش إلى "إسرائيل" والأمسية التي كان ينوى إحياءها في مدينة حيفا المحتلة، والتجاذب الذي اندلع في فلسطين المحتلة بالخصوص، لم أعر الأمر أي أهمية خاصة، مع إدراكي بأن محمود درويش ليس شخصًا خاصًا، مهما حاول التخلص من عبء كونه شخصية عامة، وأنه ليس ملكًا لنفسه فيما يتعلق بالأمر الوطني العام.


لكن الأمر اختلف تمامًا عندما نشر خبر لقاءه الصحفي مع الصحيفة الصهيونية (هأرتس) وما نقل فيها على لسانه حول خصوص قضايا فلسطينية محض، وبدأت الوساوس تداهمني ورغبت في التعرف أقرب إلى السياق الصحيح، خصوصًا وأني شعرت بأن الأمر لا يبدو بالبراءة التي حاول البعض تصويرها. وعندما قرأت مقالة الزميل عوني الجيوسي (محمود درويش وما بعد بعد حيفا - القدس العربي  26/07/2007) وما حوته من توثيق لتعليقات على من اعترض على الزيارة/الأمسية، تبين لي عندها لي أنه ثمة حملة شنتها بعض الأطراف واتخذت من ذلك الاعتراض منطلقًا للتشهير بالآخر.


لكن قبل الانتقال لمناقشة الموضوع من كل زواياه، أود تأكيد بأني، على عكس ما تدعيه بعض المواقع الإلكترونية، لست عضوًا في أي تنظيم سياسي أو أي رابطة أو اتحاد، سواء أكان ذلك تنظيمًا سياسيًا أم مهنيًا أم فكريًا، وسبق لي أن بينت ذلك مرارًا من قبل (انظر مقالتي: جولة غير حذرة بين ألغام الصفحات الثقافية ومراجعات الكتب. الآداب 1/2، 2007، ص 10-14). لكنني أجهر باستمرار، بأني ضد العدو الصهيوني وأرفض أي تسوية تنتقص من حق الشعب الفلسطيني في وطنه، ومن حقوق الدول العربية المحتلة أراضيها، [وأي تسوية تنتقص من حقوق الشعب الفلسطيني والعرب جميعهم].


 


كما أؤكد أنني لست ضد أي حزب أو تيار سياسي فلسطيني في فلسطين المحتلة، ولا أحابي هذا التنظيم على ذاك. وقد اتفق فكريًا مع تيار ما أكثر من اتفاقي مع آخر، لكنني أكن عميق الاحترام لكل فلسطيني، بصرف النظر عن انتمائه الديني أو المذهبي، يشاركني الرأي بخصوص فلسطين الديمقراطية العلمانية، وإن اختلف معي في أسلوب تحقيق ذلك الهدف القريب إلى كل إنسان يعمل من أجل عالم الحياة والحرية والمساواة. كما إنني أؤكد تقويمي الإيجابي، على نحو عام، لنشاطات الشيوعيين الفلسطينيين في الوسط العربي والحفاظ على هوية الشعب الفلسطيني الوطنية، خصوصًا في السنوات الأولى التي تلت النكبة، وإن كنت لا أشارك حزبهم "الإسرائيلي" بعض رؤاه السياسية الآنية.


في الوقت نفسه فإنني أؤكد رغبة شخصية لا تساويها أي رغبة أخرى، في زيارة بلادي فلسطين، والسير في دروب قراها ومدنها وفي وديانها وجبالها، في الجليل وجبل الكرمل والنقب، واحتضان كل حبة رمل فيها، ولعلني أفعل ذلك قريبًا. ولذلك فإنني أسجل أنه ليس لدي أي اعتراض مبدئي شخصي على رغبة أي من أبناء شعبنا في زيارة الوطن السليب والتمتع بجماله الذي سلب العدو كثيرًا منه.


كما أود تأكيد أنني لا ألوم إطلاقًا حماس أهلنا في فلسطين المنكوبة للقاء محمود درويش، الرمز الأدبي الفلسطيني المهم، وأتفهم تمامًا توقهم للاستماع إلى كل ما يمكن أن يجدد أملهم في الانعتاق وتحرير فلسطين.


 


بالعودة إلى طبيعة الزيارة/الأمسية والخلاف حولها في البداية، وكون الاعتراض أتى على السياق والتوقيت ليس غير، سنجد ذلك في ما أوردته وكالات الأنباء على الزيارة، بأن التجمع الوطني الديمقراطي هو المعترض الرئيس في فلسطين المحتلة على الزيارة: «في إطار الجدل حول الزيارة، عمم المعارضون لها إعلانا رافضاً لتوقيتها [...] كما أصدر التجمع الوطني الديمقراطي بياناً أكد فيه أنه لا يقف ضد درويش، وإنما ينتقد سياق الزيارة وتوقيتها والاستغلال السياسي غير البريء لها [...] وأن التجمع يكن كل الاحترام والتقدير للشاعر محمود درويش ومكانته الأدبية والثقافية ومقدرته الشعرية الفذة [...] وأشار إلى محاولة بعض الأوساط، الأخص الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، استغلال زيارة درويش للتحريض على التجمع، وتجيير اسم درويش لتسويق الجبهة ومواقفها، ودعمها رفض الحوار الوطني الفلسطيني، ووقوفها إلى جانب نهج دعاة التساوق مع المشاريع الأمريكية والإسرائيلية [...] مع تأكيد أننا نعارض الكثير مما قيل وكتب ضد الزيارة، ونرفض زج اسم التجمع بمواقف لم تصدر عنه. مع تأكيد أننا نختلف مع الشاعر الكبير في بعض المواقف التي عبر عنها مؤخراً حول الانقسام على الساحة الفلسطينية [...] وأن نقد التجمع هو لسياق الزيارة وتوقيتها والاستغلال السياسي غير البريء لها».


أمام هذا التنافس أو التخاصم محلي المضمون، بين تنظيمين سياسيين في داخل فلسطين المحتلة، كان يمكن ترك الأمور تأخذ مجراها وتحل كما كان يحصل في أي تنافس سابق يندلع بين طرفين أو أكثر. لكن الحملة التي شنها أصحاب محمود درويش ومريدوه على المعترضين على توقيت الزيارة وسياقها تظهر، في ظني، أن القضية استغلها البعض لمآرب لا علاقة لها بالزيارة.


وبمراجعة كتابات المؤيدين للزيارة، يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات رئيسة:


المجموعة الأولى: سوغت موقفها المؤيد للأمسية بكلمات رومانسية حالمة جردتها من السياق السياسي الذي يمكن وضعها فيه، وكأنما الزيارة/الأمسية رحلة سياحية يقوم بها شخص عادي. ومع أن موقف هذه المجموعة لا يهمنا لأنه يتعامل مع المسألة من منطلق عاطفي مجرد من المغزى والسياق السياسيين، فمن المفيد ملاحظة أن التيار "الواقعي" و"السياسي المحنك"، الذي أوصل، بقدراته العجائبية الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية إلى ما هما عليه الآن، كثيرًا ما يتهم الأشخاص والشخصيات والتنظيمات المعادية للتسوية [لأن كل تسوية مع العدو، تتم على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه]، بأنهم رومانسيون ذوو أوهام وخيال بعيد عن الواقع، وأنهم غارقون في أحلام . . إضافة إلى مجموعة من التهم الاستشراقية النمطية الأخرى المعروفة.


المجموعة الثانية: سوغت موقفها اعتمادًا على قاموس لا ينضب من الشتائم والنعوت التي ألحقتها بكل من اعترض على إحياء تلك الأمسية.


المجموعة الثالثة: هي التي اتخذت من اعتراض البعض على إحياء الأمسية مسوغًا لشن هجوم حاد لا يخلو أحيانًا من الشتائم، هدفه إلغاء الآخر سياسيًا وثقافيًا وفكريًا. وسنورد تاليًا نماذج من حرب الإلغاء تلك عبر شتمه وتحقيره وإلحاق مختلف النعوت به. هذه المجموعة، الفلسطينية والعربية، ينطق باسمها بعض الكتاب والصحفيين، وجلهم من تيارات سياسية خليطة ومختلفة.


نبدأ بكاتب من "اليسار الميؤوس من إصلاحه!" استخدم الدفاع عن تلك الأمسية للتهجم على التيارات القومية العربية وتحميلها مسؤولية الكوارث التي لحقت بنا ومازالت حيث كتب: «. . وكأنّ الإذن بالوصول إلى حيفا والجليل وإسرائيل، بنظر هؤلاء المغرضين الأغبياء، الموجودين بين ظهرانينا وبين ظهرانيهم، سيأتيه من سلطات "الأمّة العربيّة البائدة ذات الرّسالة الدّائدة"؟ فعندما يهرب مراهقو العروبة ومعهم مراهقو الإسلام للاحتماء ب"جزيرة" العرب المعولمة الجديدة، رأس حربة المحافظين الجدد في إشاعة "الفوضى البنّاءة" في هذه الرّبوع، فماذا تراهم قائلين لأتباعهم الّذين أدمنوا على استهلاك الشّعارات الّتي تُدغدغ عواطف العربان الجيّاشة، وكيف سينظر إلى هؤلاء المراهقين أتباعُهم من الموهومين بالمخدّرات البلاغيّة الّتي رضعوها وترعرعوا عليها كابرًا عن كابر وخلفًا عن سلف . . ».


وقد يظن البعض أن هذا النمط من تقويم الغير اقتصر على شتّام «هماز مشاء بنميم . . عتل بعد ذلك زنيم»، وأنه يستغل المسألة لتقديم نفسه قدّاحًا وسبابًا، إلا أن المرء لابد وأن يفجع بما ورد على لسان الكاتب اللبناني إلياس خوري الذي لم يتردد في وصف المعترضين على الأمسية بأنهم "صبية"، حرفيًا « . . لا أريد التعليق على الحملة-الولدنة، التي صاحبت إعلان مجلة ‹مشارف›، والجبهة، عن تنظيم أمسية محمود درويش في أوديتوريوم حيفا . .» [للتذكير، إن اسم القاعة الرسمي هو (أوديتوريوم روتشيلد، وإلياس خوري يعرف ذلك)].


السيد إلياس خوري يلغي الطرف الآخر وينفي أي احتمال أن يكون لديه مرجعية فكرية أو سياسية أو غيرها. وبما أن المعترضين هم "أولاد" فمن غير الممكن للقارئ تجنب الانطباع بأن الكاتب يعد نفسه، تلقائيًا، "كبير القوم وحكيمهم!"، بل ربما لقمان الحكيم عينه.


كما أن الكاتب يناقض نفسه حيث يمضي قدمًا في التعليق على "الحملة-الولدنة" بتسفيه المعارضين بقوله «هؤلاء لا يعرفون معنى أن يكونوا في حضرة الشعر، أو معنى أن تتلألأ الكلمات بالمعاني وتتموسق التجربة الفلسطينية على منحدرات الكرمل، ويستعيد الشاعر حياته في وصفها استعارة إنسانية كبرى».


أما الكاتب عباس بيضون فيذهب إلى أبعد من ذلك لأنه يربط الشعب الفلسطيني بشخص محمود درويش، ويعد أي مساءلة لأي تصرف يصدر عنه بمنزلة مساءلة الهوية الوطنية الفلسطينية: «إن التشكيك بوطنيّة الأيقونة الأكبر للوطنيّة الفلسطينيّة يهدّد بطرح معنى هذه الوطنيّة نفسها على المحكّ» [كذا]. بنظر عباس بيضون ليست فلسطين هي الرمز والأيقونة التي يجب المحافظة عليها وقطع اليد التي تحاول الاقتراب منها والنيل من عصمتها والتفريط بحبة تراب منها، وعَدُّ التفريط فيها هو تفريط بالرمز، والتهالك على سلطة تافهة ودولة لن تقوم حتى في أكثر أشكالها كاريكاتوريةً، بل الفرد، الأديب محمود درويش. عباس بيضون يقلب المعادلة لتصبح الأيقونة (محمود درويش) هي من صنعت الهوية الفلسطينية، وليس نضال شعب ممتد على مدى أكثر من قرن ونصف سالت فيه دماء أبنائه أنهارًا وشلالات!!. إن السيد عباس بيضون في مقالته تلك لم يلغ المعترضين على الزيارة فحسب، بل الشعب الفلسطيني كله. لا نظن أن محمود درويش نفسه يمكن أن يفكر في ذلك أو أن يقبل هكذا "دفاعًا" كهذا.


وبالمناسبة فإن الكاتب عباس بيضون هو نفسه الذي عد احتلال القوات الأمريكية العراق [بمساعدة المحافظين الجدد من العرب وخونة محليين] مكافأة شخصية حيث نقلت عنه مجلة (المدى) العراقية قوله في مؤتمرها الثقافي «. . وأنا سعيد لأن انتظاري كوفئ أخيرًا وهاأنا الآن من هنا . . وأنا سعيد الآن لأنني في مؤتمر حر على أرض حرة . . شكر للعراق الكردي الذي استقبلنا . .». السيد عباس بيضون القلق على "الأيقونة" سعيد لأنه في "أرض حرة"، التي هي العراق التي تدوسها أقدام ما لا يقل عن ربع مليون جندي غاصب ومرتزق يعيثون فيها فسادًا ويذلون أبناءها وبناتها، رجالها ونساءها، وقتلوا منهم ما يزيد عن سبعمئة ألف إنسان، إضافة إلى تشريد الملايين. هل هذه هي الحرية التي يتطلع إليها السيد عباس بيضون لفلسطين!.


المثال الآخر يأتينا من الكاتب حازم صاغية، الذي اضطر، على ما يبدو، للاستعانة بما كتبه أحد مساعدي محمود درويش السابقين في مجلة ‹الكرمل› للرد على المعترضين على الزيارة حيث نقرأ: «ولم يفت الكاتب الفلسطينيّ  [...] أن يلاحظ العنصر الإرهابيّ في الحملة على درويش، والذي يوازي عمليّة خطف الصحافيّ البريطانيّ ألن جونستون!!!» [كذا]. لكن الكاتب لا يرتاح تمامًا للاكتفاء بإطلاق صفة «الإرهاب» على المعترضين فحسب، فلا يفوته إقحام دمشق وطهران، وكذلك «التيّار الراديكاليّ (الممانع) . . وحماس وحزب الله . . إلخ» للتشهير بهم، ما يوضح، في ظننا، كيف اتخذ البعض من الزيارة/ الأمسية منطلقًا للهجوم على (الآخر) المختلف معه والتشهير به.


سيكون من الطريف حقًا الاستماع إلى رأي الكاتب، الذي يبدو في مقالته نفسها في حالة قلق دائم على الحريات الثقافية والإبداعية لدى «التيّار الراديكاليّ (الممانع)»، في وضعها في الدول التي تمول الصحف التي يكتب فيها أسبوعيًا.


والكاتب لا يكتفي بوصف موقف المعترضين بالإرهاب حيث يمضي في التهجم عليهم ويتهمهم بأنهم أفراد محاكم التفتيش: «الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش آخر من يراد لهم، اليوم، أن يمثلوا أمام محكمة التفتيش النضاليّة لأنه يريد أن يزور مدينته حيفا».


السيد حازم صاغية يذهل القراء حيث يبدو أنه تجاوز حتى نفسه في تلك المقالة حيث كتب، في مجال الدفاع عن منح "إسرائيل" جائزتها التقديرية لإميل حبيبي وقبوله بها من يدي مجرم الحرب شامير: «. . ذاك أننا لا نكتفي بحجب الاعتراف عن الآخرين، بل نطلب أيضاً ألاّ يعترف بنا الآخرون، وهي أعلى درجات القطع والقطيعة التي تماثل طلب الموت في العفن والصقيع! . .». وبهذا يكون منح العدو الغاصب، القائم أصلاً على إلغاء الفلسطيني وجودًا وتاريخًا وهوية، جائزة تقديرية، أمرًا وجب الاعتزاز به، لأن رفض ذلك يكون «طلب الموت في العفن والصقيع».


هنا لابد من تذكير القراء جميعًا: هؤلاء (الممانعون)، يمكن نقدهم، بل ووجب عمل ذلك أيضًا، من منظور السعي نحو تصويب الأداء وتحسينه، ولكن الحديث هنا يدور عن الجنود، أبطالاً صناديد صادقون وضعوا أعز ما يملك البشر، بتصرف الطريق الوحيد لاستعادة الوطن المسلوب والكرامة المستباحة، بدءًا من (معركة الكرامة) في الستينيات، مرورًا بطرد قوات حلف الناتو متعددة الجنسيات من لبنان وإسقاط (اتفاق 17 أيار)، وتحرير الجنوب اللبناني المحتل، وانتهاءً بإلحاق هزيمة مذلة بالعدو في عام (2006). أبطال عظام مرغوا أنف العدو الصهيوني وحلفائه في الوحل، وألقوا بنياشين جنرالاته تحت أقدام أطفال لبنان، وألحقوا به هزائم تاريخية وجعلوا منه مهزلة وأضحوكة أمام العالم؛ تلك البطولات تابعها عشرات الملايين على شاشات أجهزة التلفاز نقلاً حيًا، هؤلاء الأبطال هم فخر للأمة، وهم صناع المستقبل، وهم فوق كل نقد وكل تطاول.


 


لكن هناك من تمتع بخفة دم استثنائية ومثال ذلك ما أورده موقع (الجبهة الديمقراطية للمساواة والسلام [الحزب الشيوعي الإسرائيلي])، من باب الدفاع عن محمود درويش والأمسية في اكتشاف كاتبته ما عدته "دليلاً قاطعًا" على صحة موقفها بالتذكير بأن الأديب الفلسطيني حصل على جائزة تكريمية من ملكة هولندا، وبالتالي وجب عدم الاعتراض على قراره؛ عجيب هذا اليوم الذي أضحى فيه هذا (اليسار) يستنجد بشهادات بقايا الإقطاع الأوربي للدلالة على صدقية مواقفه وللشهادة على إبداعاته. نحن نعلم أن هذا "اليسار" تعلم الوقوف، مهذبًا، في طوابير منتظمة بانتظار ما يلقي به إليه بقايا الإقطاع الأوربي من فتات الجوائز والتكريم، ثم يتباهى بها، من دون أن يرف له جفن.


 


نحن، على العكس من تلك الكاتبة النبيهة، نقول: عندما ينال محمود درويش جائزة ما على أدبه المقاوم، فإنه بذلك يكرم الجائزة التي يقبلها، وليس العكس.


 


كل ذلك يوصلنا إلى تفاصيل موقف محمود درويش نفسه من المعترضين على زيارته والأمسية إياها.


بالعودة إلى تصريحاته ذات العلاقة، تبين لنا أن الأديب الفلسطيني قد لجأ، بكل أسف، إلى الأسلوب ذاته، أي: إلغاء الآخر، تمامًا كما فعل الشيخ محمود عباس الذي بدأ بتوزيع شهادات الإسلام والإيمان على معارضيه.


وكما يبدو، فإن محمود درويش أدرك، متأخرًا، البعد السياسي لزيارته وارتباطها بكونه رمزًا أدبيًا فلسطينيًا رفيعًا، وأن إحياء الأمسية في الوقت الذي حدده الحاكم العسكري الإسرائيلي لم يكن بريئًا، لكن ما عاد بإمكانه التراجع عن غلطه، لأسباب مفهومة. فحاول التقليل من الأضرار الممكنة بنفي المغزى السياسي في مقابلته مع الصحيفة الصهيونية[[1]]، ضمن غلط إضافي، التي نشرتها عشية الأمسية تحت عنوان (عودة "الشاعر المتواضع") (والمزدوجتين في الأصل) عندما قال: «أنا لا أريد الظهور بمظهر [المناضل] الوطني أو كبطل أو كرمز، سأتقدم كشاعر متواضع». لقد فهم بعض من علق على هذه الجملة بأنها تعبير عن تواضع قائلها. في ظني أن المقصود ليس ذلك، وإنما محاولة نفي المغزى والبعد السياسيين، وهو ما يشرحه قوله، في المقابلة نفسها: «الرمز ليس موجودًا في وعيي ولا في خيالي. أجهد من أجل تحطيم مطلب الرمز وللخروج من هذه الأيقونة. لأعوِّد الناس أن يروني إنسانًا يريد تطوير شعره وذوق قرائه. سأكون في حيفا حقيقيًا. سأكون ما أنا. وسأختار قصائد ذات مستوى رفيع».


وبكل أسف، فإن رأيه الإلغائي للمعترضين على الزيارة يتجلى أيضًا في تعليقاته الآتية: «ذاهب للقاء شعبي وأستهجن اللغط الذي يثيره بعض الصبية حول الزيارة» [...] والحملة في نظره مصدرها «صبية [...] وأولاد صغار [...] وأنصاف مثقفين يملؤهم الغيظ والغيرة».


بأقواله تلك اختار الأديب الكبير محمود درويش، بكل أسف، الانضمام إلى مريديه وأسلوبهم المفتقد إلى أمور كثيرة وفي مقدمتها الموضوعية، وعلى نحو غير مسبوق.


 


إضافة إلى سياق الزيارة/الأمسية وتوقيتها غير الموفقين، فقد ارتكب محمود درويش غلطًا كبيرًا وهو منح صحيفة صهيونية لقاءً صحفيًا عشية تلك الأمسية، ونحن على أي حال ضد أي لقاء مع الصهاينة الذي لابد وأن يكون تطبيعي الهدف. كما أن اختياره صفحات تلك الجريدة للهجوم على حركة حماس والتشهير بها يمنح البعض، وربما كثيرين، حق افتراض أن ذلك اللقاء الصحفي بما حواه من تعليقات في غير محلها، هدفه تطبيعي في الأساس وأنه يشكل جزءًا من "صفقة" السماح له بدخول فلسطين المحتلة (48) وإحياء تلك الأمسية!!.


كثيرون  لا يريدون لمحمود درويش هذا، وأنا منهم.


كما إن سكوت مريدي محمود درويش ومعجبيه ومدعي صداقته عن هذه المقابلة مريب حقًا ويفتح أوسع المجالات للتأويلات.


أما مسألة التواضع الإبداعي لمحمود درويش فيمكن البحث عنها في المقابلة ذاتها، ردًا على منتقدي شعره في قوله إنه الأب الروحاني للشعراء الفلسطينيين، وربما العرب أيضًا [انظر الترجمة الإنغليزية المعتمدة للمقابلة في موقع الصحيفة الصهيونية على الإنترنت المشار إليه أعلاه]. أنا ضد أي تواضع كاذب، ولو كنت مكان محمود درويش لفعلت الأمر نفسه!.


كما أن سكوت أولئك الكتاب عن حقيقة أن مجلة ‹مشارف› أنشأتها سلطة أوسلو للترويج للتطبيع مع العدو، وهي لاتزال تفعل ذلك حيث تستكتب مجموعة من الكتاب الإسرائيليين الصهاينة، يدل على انعدام حسن الطوية من طرفهم والذي يهدف إلى تضليل القارئ.


لمحمود درويش أن يفعل ما يريد وأن يقول ما يريد عن تطلعاته الشخصية، لكن ليس من حق أي كان القول: «لا يريد الشعب الفلسطيني تحرير فلسطين، فالفلسطينيون يريدون أن يحظوا بحياة طبيعية على 22 في المئة من المساحة التي يعتقدون أنها وطنهم». الشعب الفلسطيني لم يعين أحدًا للنطق باسمه . . على الأقل، لم يسألني أنا أحد عن رأيي، وأظن أنه ثمة ملايين من الفلسطينيين غيري ممن لم يكترث أحد من إدارة سلطة أوسلو بسؤالهم عن رأيهم في تنازلاتها المستمرة منذ تبنيها البرنامج المرحلي في عام (1974) الداعي لتأسيس «سلطة وطنية مقاتلة [ونفاثة!] على أي شبر يتم تحريره من فلسطين!!!» [كذا]. وكلنا يعلم أن من يتخلى عن حبة رمل من تراب وطنه فإنه على استعداد للتخلي عنه كله؛ هكذا علمنا التاريخ، ف«أول الرقص حنجلة».


والشعب الفلسطيني لم يمنح أحدًا الادعاء باسمه بأنه لا يريد تحرير فلسطين.


ولا أحد يمكنه إلغاء الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في وطنه فلسطين، من رأس الناقورة شمالاً إلى إيلة جنوبًا حيث يوحي القول السابق «. . التي يعتقدون أنها وطنهم» بعكس ذلك.


لكل أن يختار السكوت عن الفساد في أجهزة سلطة أوسلو، وهو فساد عضال معروف منذ ماقبل اجتياح العدو الصهيوني لبنان عام (1982)، والذي جعل الناخب الفلسطيني في مناطق "سلطة الحكم الذاتي" يعفي تلك السلطة أفرادًا وجماعات من مسؤولية إدارة أمور حياته اليومية في أول فرصة سنحت له ويطلب منهم، جميعهم، عبر صندوق الاقتراع، التزام بيوتهم.


ولكن ما لا يمكن التهاون فيه هو تجاهل حقيقة أن عدم اعتراف سلطة أوسلو ومعها جوقة عرب أمريكا، بنتائج تلك الانتخابات هو الذي أوصل الأوضاع إلى ما هي عليه الآن. وبقية التطورات، إن في "قطاع غزة" أو في "الضفة الغربية" نتائج وليست أسبابًا، من دون الانتقاص من خطورتها وتأثيراتها السلبية في مسار النضال الفلسطيني، والتي أوصلت الوضع الفلسطيني إلى درك جديد من الانحطاط والمأساوية.


لكل أن يختار السكوت عن الانتهاكات التي ارتكبت وترتكب يوميًا في مناطق سلطة أوسلو منذ تأسيسها، وحتى ماقبل ذلك في لبنان وغير لبنان، من اعتقال عشوائي وقضاء غير مستقيم وأجهزة أمن فاسدة اضطرت حتى سلطة محمود عباس للاعتراف بها، ومصادرة كتب ومطبوعات معارضة لقيادة السلطة، واعتقال المناضلين وتعذيبهم حتى الموت، وترك الجواسيس وبائعي الأراضي للعدو الصهيوني أحرارًا، واستبدال المناضلين الشرفاء في المواقع المسؤولة بمجموعة وأشخاص تافهين تقيأهم الشعب الفلسطيني من أيام محاولة تصفية القضية الفلسطينية بدءًا بمؤتمر إريحا في مطلع الخمسينيات وانتهاءً بروابط القرى ومشروع المملكة العربية المتحدة وموقعي وثيقة جنيف وغيرها من مشاريع العرب والفلسطينيين -الصهاينة.


لهم جميعًا أن يفعلوا ما فعلوه في أمورهم الخاصة، لكن ثمة شيء واحد لا يمتلكه أحد ولا بقدرته امتلاكه، ألا وهو إلغاء الأخر. فهذا (الآخر) الذي تتم محاولة إلغائه هو المتمسك بوطنه، بكل حبة رمل منه، والرافض المساومة على الأرض، وطني مناضل مقاوم، ضحى ويضحي بكل ما يملك من أجل فلسطين حرة، ومن أجل شعب فلسطين، كل شعب فلسطين، عزيزًا حرًا سيدًا.


نأمل أن محمود درويش سيتأمل كثيرًا في آثار تلك الخطوة وتبعات ما صرح به مريدوه وأصدقاؤه ومدعي صداقته بحق المعترضين، حيث سيتبين له مدى الضرر الذي لحق به، وكذلك تبعات رده الذي جاء متسرعًا، ما قلب تلك الحملة الظالمة على المعترضين، عليه. وكان بالإمكان تفاديه بقليل من الصبر.


لا نريد لمحمود درويش أن يكون في ذلك الموقع.


إن متابعتنا السابقة لبعض تفاصيل حملة مؤيدي الزيارة/الأمسية أظهرت الطابع السياسي الأساس، لاتجاه لا يعترف بوجود الآخر إلا بهدف إلغائه. فمن الأمور التي أثارت انتباهنا هو تخصيص بعض "الصفحات الثقافية"، مع حفظ الألقاب، في الصحف إياها، صحف البترودولار، صفحاتها للانحياز التام إلى طرف في سجال فلسطيني محض، إلى تحريض تكفيري استشراقي على الطرف المعترض (شكلاً في الأصل) بدلاً من إتاحة المجال لحوار هادئ كما فعلت بعض الصحف اللبنانية والعربية. وقد دأبت تلك "الصفحات الثقافية" على التصدي الفوري لأي نقد للطرف الآخر ما يثبت، في ظننا، أن المسألة تتعدى بكثير تباينًا في وجهات نظر بخصوص قضايا أدبية أو ثقافية. بل إنها تدخل سافر في سجال فلسطيني-فلسطيني محض، وتحريض طرف على آخر، هدفه تأليب من يمكن خداعه من القراء على فكر سياسي مناضل . وإذا كان البعض يحلو له تذكر "كوبونات النفط" إياها، واختار نسيان "الكوبونات الثورية" التي اكتشفت عند انشقاق حركة فتح في الثمانينيات، وعقب أحداث غزة الأخيرة المفجعة، فمن الممكن أن يدعي أنه ثمة "كوبونات أوسلو" التي ستكتشف يومًا ما، لا محالة، وأن هذا الانحياز السافر والتدخل اللامسؤول ليس بريئًا، وأنه ليس نتاج قناعات.


وهذا ما يقودنا إلى جانب آخر من لب موضوع مقالنا هذا، نود التعامل معها في مقالنا هذا ألا وهي قضية التطبيع مع العدو الصهيوني، التي قد يمارسها البعض، خلف أبواب مغلقة، بعيدًا في الغرب، إما عن جهل وقلة خبرة، وإما عن سبق إصرار وتصميم. فعلى سبيل المثال سيعقد في العاصمة الألمانية ببرلين، في (4-16) من شهر أيلول القادم، المهرجان الأدبي السابع، الذي يلتئم مرة كل عام ويدعى إليه مجموعة من الأدباء من دول كثيرة، ومن بينها بعض الدول العربية. ولأن مؤتمرات كهذه تكلف كثيرًا، فعادة ما يطلب من مؤسسات خاصة وعامة المساهمة في تمويل انعقادها.


ومنذ دورته الأولى التي عقدت في عام (2000) حضر المهرجان مجموعة من الكتاب والأدباء العرب، نذكر منهم، على سبيل المثال: الجزائر: ليلى مروان؛ العراق: أمل الجبوري، جابر ياسين حسين، سعدي يوسف؛ المغرب: طاهر بن جلون، محمد بنيس؛ لبنان: رشيد الضعيف، عباس بيضون، حسن داود، إلياس خوري، إيملي نصر الله، فؤاد رفقة، حازم صاغية، صلاح استيتية؛ سورية: عادل قره شولي، فؤاد رفقة!؛ مصر: إدوارد الخراط، ميرال الطحاوي، نبيل نعوم، نُتيلة راشد، هاني شكر الله، عبد التواب يوسف. ويلاحظ أنه ما من كاتب فلسطيني حضر باستثناء طه محمد علي الذي كان عضوًا في الوفد الإسرائيلي!![[2]].


هل لأحد أن يشرح الفائدة المزعومة التي تعود على الحياة الثقافية والأدبية العربية جراء حضور بعض الكتاب العرب مؤتمرات كهذه، تشارك فيها الوفود الصهيونية ولا يدعى إليها أدباء "إسرائيليون" وغير إسرائيليين معادين للصهيونية، وتساهم سفارات إسرائيل وأمريكا في دععمها؟!. وما سبب إصرار البعض على حضور مؤتمرات فائدتها الشخصية أو الأدبية ملتبسة ومشكوك فيها؟.


كنا قد فصلنا في مقالة لنا في مجلة ‹الآداب› أن ترجمة بعض الكتب الأدبية العربية إلى لغات أوربية يدخل، في أغلب الأحيان، ضمن (برنامج الدعم التنموي)، ذي الجوهر السياسي في الأساس. وهذه الكتب لن تسمع بها الجماهير الأوربية، وسيقتصر قراؤها على مجموعة من المستشرقين، أساتذة وطلابًا وكتابًا، إضافة إلى بعض الأشخاص الذين تربطهم بدولة الكاتب أو شعبه روابط الزواج والمصاهرة، أو ربما تأثروا كثيرًا بزيارة سياحية؛ وقد تجلت هذه الحقيقة في معرض فرانكفورت للكتاب عندما كان العالم العربي ضيف شرف حيث غاب الحضور الجماهيري الألماني عن الأمسيات الأدبية و"الشعرية" وغيرها.


إن المساهمة في هذه المؤتمرات ليست شرطًا للنشر أصلاً، ويمكن للكاتب الطموح لرؤية إنتاجه مترجمًا الاطمئنان إلى ذلك، مادام إنتاجه صالحًا للنشر بالمقاييس الأدبية، من دون حضور أي مؤتمر من هذه المؤتمرات، حيث إنه ثمة بعض دور النشر الأوربية المتخصصة بنشر إنتاجات "العالم الثالث" الروحية، وعادة ما تحصل على منح من حكوماتها لذلك. ومع أن قرار النشر يتخذ عادة من منظور الجودة، إلا أنه ثمة أعمال لا قيمة أدبية غير عادية لها يُتخذ قرار نشرها من منظور سياسي، دعمًا لمواقف بعض الكتاب السياسية الاستشراقية، وتلميعًا لأصحابها للإيحاء للقراء الأوربيين بأهميتهم محليًا وعالميًا.


لذا فإن هذه السماجة الأوربية لا تنطلي على أحد.


ومن الجدير بالذكر أن الأديب المصري صنع الله إبراهيم كان قد وافق في عام (2000) على المشاركة في ذلك المؤتمر في دورته الثانية، لكنه بعدما علم بمساهمة السفارتين الأمريكية والإسرائيلية في تمويله، عاد واعتذر عن الحضور وصاغ أسباب رفضه بصراحة عندما كتب إلى مدير المؤتمر وقتها رسالة قال فيها: «وفور علمه بتفاصيل تمويل المهرجان أعلن صنع الله إبراهيم مقاطعته له وبعث إلى منظميه بالرسالة التالية: سبق أن قبلت دعوتكم للاشتراك في مهرجان برلين الأدبي الدولي الثاني المزمع إقامته في 10 سبتمبر 2002، لكنني تبينت من البرنامج الذي أرسلتموه لي أخيرا أن السفارتين الإسرائيلية والأمريكية تساهمان في تمويل المهرجان. ولما كانت الدولة الإسرائيلية تمارس أبشع أشكال الإبادة ضد الشعب الفلسطيني . . وبدعم ومشاركة الولايات المتحدة الأمريكية، فإني أجدني مضطرًا آسفا للاعتذار عن عدم الاشتراك في المهرجان المزمع»؛ ويمكن للراغب في الاطلاع على تفاصيل إضافية العودة إلى صفحة جريدة ‹أخبار الأدب›[[3]] المصرية التي يرأس تحريرها الأديب المصري جمال  الغيطاني، والتي أوردت خبر الامتناع عن حضور المؤتمر تحت عنوان «البرلمان الدولي للكتاب أيٌّد موقفه: صنع الله إبراهيم مؤتمرًا أدبيًا مشبوهًا يقام في ألمانيا»، ما أثار حفيظة المنظمة الصهيونية الهوى (مِمري)[[4]].


لكن «صنع الله إبراهيم أرسل صورة من الخطاب أيضًا إلي البرلمان الدولي للكتاب. وفي رد فعل سريع أرسل البرلمان خطابًا إلي صنع الله معلنا فيه تأييده الكامل لموقفه الذي اتخذه بمقاطعة هذا المؤتمر المشبوه. وقال كيرستيان سالمون السكرتير العام للبرلمان الدولي في رسالته إلى صنع الله إبراهيم نؤيد قرارك ونحييك عليه».


 


وإذا كنا نفهم أسباب حرص بعض الكتاب العرب على حضور هذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات الشبيهة، فلابد لنا من استغراب إصرار أدباء معروفين بإسهاماتهم الوطنية ضد الصهيونية والجنون الإمبراطوري الأمريكي، ونضالهم من أجل عالم حر عادل، على المشاركة فيه رغم طبيعته الملتبسة. ومن هذا المنطلق فإننا نتمنى على الكتاب العرب، جميعهم، تجنب المشاركة في مؤتمرات التطبيع هذه، التي يدعمها العدو الصهيوني، لأنه لا يفعل ذلك من منطلق حرصه على الثقافة العالمية، ولأن وجوده على أشلاء الوطن الفلسطيني وشعبه هو معاد لكل ما هو ثقافي وحضاري في تاريخ البشرية، كما أن مذهبه الفكري، الصهيوني-المسيحاني الألفي، معاد لكل ما هو إنساني في هذا العالم.


وهنا نذكر، بإيجابية، مقالة السيد تيسير البطنيجي (صحيفة ‹الأخبار› 12 و25/07/2007) عن المعارض المشتركة التي ينجزها بعض "الفنانين" الفلسطينيين مع ردفائهم الإسرائيليين، وطابعها التلفيقي، وكذلك دعوته لتجنب نشاطات من هذا الصنف.


 


ننهي مقالنا هذا بالعودة إلى تلك الحملة الظالمة لنؤكد أننا وجدنا أنفسنا إزاء سيمفونية جوقة تحاول احتكار الحقيقة لنفسها وتتعترف بالآخر فقط لإلغاءه. إنها توحد صوغ آرائها وتوجهاتها على نحو غير مسبوق، مستغلة المواقع الإعلامية التي تهيمن عليها، مانعة أي رأي آخر من الوصول إلى قراء "صحفـ[ـها]". إن أسلوب تلك الجوقة، والأديب محمود درويش، في ظننا، بريء منها، خير مثال على (المثقف الشمولي) حيث إن ممارساتها العملية تظهرها معادية لما تدعيه من أهداف الديمقراطية والعقلانية وتوقها للحرية والتعددية . . إلخ.


إنها، بتصرفاتها الملموسة تجرد تلك الأهداف السامية من أي مضمون حيث أوضح تعاملها مع مسألة الزيارة/الأمسية والرأي الآخر، أنها تحاول مصادرة الحقيقة عبر مطالبة الغير/المختلف بإلغاء تفعيل العقل، بل بإلغائه إلغاءً نهائيًا والاكتفاء بمعين "حكمتها" الذي لا ينضب.


إن أسلوب تعاملها مع الرأي الآخر وعدم شرحها أسباب وقوفها إلى جانب تلك الزيارة/الأمسية، أسلوبًا وتوقيتًا وسياقًا، يظهرها داعية لإلغاء تفعيل العقل، والسكوت عن اللقاء الصحفي مع الصحيفة الصهيونية آنف الذكر، يوضح، لجوءها إلى التمويه واستغباء القارئ وانعدام حسن الطوية.


كما أن منعها الآخر من إبداء رأيه في الصفحات التي تتحكم فيها وفتحها أمام مختلف صيغ الشتائم والسباب، في قضايا تهم العام والخاص، بما يعنيه من احتكار الحقيقة والحكمة، يظهرها أبعد ما يمكن عما تدعيه من عقلانية ومن انحياز إلى ثقافة تعددية الرأي.


لقد ذكرنا من قبل في مقالنا الآنف ذكره أن الوسائط الإعلامية تلك، الفاشلة تجاريًا، التي تمنع تعدد الرأي، بل وتحاربه، ما هي إلا مشاريع سياسية هدفها الهيمنة على الرأي العام العربي وتضليله عبر توجيهه في مسار محدد. لكن وعلى الرغم من أن العالم انتقل إلى مرحلة القطب الواحد، الهمجي المتخلف، إلا أننا نقول: إن على عهد الاستئثار أن ينتهي إلى غير رجعة، وأن أي مجموعة، مهما كانت قوتها، لن تفلح في إخماد الأصوات المغايرة.


ونختتم مقالنا هذا، كما افتتحناه، بالتذكير بكلمات محمود درويش نفسه، في ‹مديح الظل العالي›:


عرب أطاعوا رومهم


عرب وباعوا روحهم


عرب ... وضاعوا ...


سقط القناع


[. . .]


يا هيروشيما العاشق العربي


أمريكا هي الطاعون


والطاعون أمريكا


نعسنا . .


أيقظتنا الطائرات


وصوت أمريكا


[. . .]


نفتح علبة السردين تقصفها المدافع


نحتمي بستارة الشباك . .


تهتز البناية


تقفز الأبواب . .


أمريكا وراء الباب!


 


زياد منى


بيروت في 01/08/2007


التعليقات