31/10/2010 - 11:02

الأسباب التي أنقذت لبنان من حرب أهلية جديدة../ عبد الإله بلقزيز

الأسباب التي أنقذت لبنان من حرب أهلية جديدة../ عبد الإله بلقزيز

سريعاً وضعت المواجهات المسلحة بين المعارضة والموالاة أوزارها في لبنان. لم تأخذ من الزمن أكثر من يومين. وبالنظر إلى أن عوامل الأزمة تجمعت منذ زمن واستفحلت تظاهراتها حتى قبل قرارات الحكومة في الخامس من مايو/أيار؛ وبالنظر الى ان الاحتقان كان قد بلغ مداه ونضجت النفوس المشحونة بالتحريض المذهبي للصدام...، فقد كان في عداد الوارد ألا تتوقف المعارك عند الخطوط والحدود التي توقفت عندها، وأن تنتشر في المكان وتمتد في الزمان على نحو ما كانتها حروب الأهل السابقة في لبنان منذ العام 1860. غير ان حظاً حسناً حمى لبنان هذه المرة من التمادي في الجنون وأعاده إلى صوابه في اللحظة المناسبة.

لم يكن ذلك بسبب أن حسماً عسكرياً حصل في بيروت وخلدة والشويفات وقرى وبلدات عاليه، ذلك ان الحسم العسكري كان يمكن ان يكون أشد عنفاً في بيروت نفسها، وأن يطال باقي الجبل (خاصة مناطق الشوف) وراشيا وحاصبيا والبقاع والهرمل والشمال، وحينها لن ينتهي سريعاً، وقد لا ينتهي الى حسم عسكري، ولعل هذا كان واحداً من الأسباب التي وفرت على لبنان مذابح طائفية ومذهبية جديدة، وأوقفت آلة الاقتتال عند الحدود التي رست عليها المعارك. لعل العوامل الأربعة التالية تلقي بعض الضوء على الأسباب التي حالت دون استفحال حالة الصدام العسكري الداخلي وتفاقم وقائعها وتمدد رقعتها.

أول تلك الأسباب، في ما نزعم، أن قرار المواجهة عند المعارضة - و”حزب الله” خاصة - لم يرسم لها حدوداً مفتوحة لأنه كان تكتيكياً في الأساس، وأتى بسبب ذلك يضع لها أهدافاً محدودة وموضعية، ومن تلك الأهداف إبداء القوة والقدرة على ممارستها بفعالية عالية وإدارة محكمة من أجل ايقاع الرعب في الخصم وإشعاره بأنه غير قادر على مواجهة زحف المعارضة على مواقعه، ودفعه الى الاستسلام أو الانكفاء. كانت القوة النارية ل”حزب الله”، والتفوق الكاسح لقوته العسكرية، تسمحان بالحاق أضرار أكبر بقوات خصومه وبمواقعهم، لكنه لم يفعل لأن قراره محكوم بأهداف متواضعة ولا تستحق تدميراً للعاصمة (التراجع الحكومي عن القرارين والذهاب الى الحوار الوطني)، ثم لأنه يعرف مقدار الثمن السياسي والأخلاقي الذي سيدفعه في حال اشتداده على بيروت ومسلحيها من تيار “المستقبل” وحلفائه. حتى المعارك في الجبل، كان يفترض ألا تقع في ضوء اتفاق جنبلاط- أرسلان على تأمينه ونشر الجيش فيه لولا ما أبداه مقاتلو “الحزب التقدمي الاشتراكي” من مقاومة استدعت رداً من قوى المعارضة، كان عنيفاً في بعض الأحيان. وبالجملة، أتاح القرار بالمواجهة التكتيكية المحدودة والمراقبة، والمحكومة في الآن نفسه بمطالب سياسية تكتيكية مفصح عنها، فرصة أمام توقف أحداث الصدام سريعاً عند الحدود التي رست عليها البندقية والسياسة.

ثاني تلك الأسباب، ويتصل بسابقه، أن العملية العسكرية التي نفذتها المعارضة في بيروت وضعت لنفسها خطوطاً حمراً منذ البداية: مؤسسات الدولة ورموز السلطة. وهو دليل إضافي على أن أهدافها محدودة، وأن الغرض منها ليس تغيير النظام بالقوة أو الاعتداء على رموزه، كما قيل، وإنما تبليغ رسالة سياسية إلى الموالاة والسلطة مفادها أن قدرة المعارضة تسمح لها بأهداف سياسية أعلى من المعلَن، وأنها إذ تتواضع في مطالبها وتوفّر مؤسسات السلطة ورموزها، فمن أجل الوصول إلى تسوية متوازنة من طريق الذهاب إلى حوار وطني. لقد كان دالاً عدم التعرض لقصر قريطم حيث يقيم سعدالدين الحريري، ولمقر إقامة وليد جنبلاط في كليمنصو، وللسراي الحكومي حيث يوجد فؤاد السنيورة وبعض أعضاء الحكومة، ولمنطقة شركة سوليدير، مثلما كان دالا التعاون مع الجيش وتسليمه مسلحي الموالاة ومراكزها الأمنية التي سقطت في قبضة المعارضة. كانت العملية العسكرية -على فادح نتائجها البشرية والمادية والنفسية- زاخرة بالإشارات السياسية المنصرفة إلى طمأنة رموز الموالاة والسلطة على مستقبل شراكتهم. وقد يكون وليد جنبلاط أبْكَرَ من التقط تلك الإشارات وفهم مغزاها وتجاوب معها بسياسات ومواقف واقعية.

وثالث تلك الأسباب الدّور الذي نَهَضَ به تفاهُم وليد جنبلاط - نبيه برّي على صعيد الاستيعاب السريع لحالة الصدام العسكري وتوفير حل سياسي لها بالاتفاق على تحْييد الجبل من طريق تفويض طلال أرسلان، زعيم “الحزب الديمقراطي” اللبناني تسليمه (الجبل) -مدناً وبَلدات وقُرى- إلى الجيش. ما كان يسيراً على وليد جنبلاط أن يسلّم مناطقه ومواقعه ومراكزه الأمنية من دون قتال ولا كان يسيراً عليه أن يقوم بذلك ابن البيت الأرسلاني، الغريم التاريخي للبيت الجنبلاطي، وأن يعطى الأمير طلال أرسلان دوراً درزيّاً إنقاذياً “يفوق حجمه”. غير أن ذكاء جنبلاط السياسي لم يَخُنْه هذه المرة أو يمنع عنه رؤية الاحتمالات السياسية القادمة في أسوأ صورها. فلقد أدرك، بخبرة المجرب، أن السقوط السريع لبيروت عسكرياً -والذي لم يكلف مقاتلي المعارضة إلا بضع ساعات -لا يترك مجالاً أمام مقاومة ما من الجبل. فحين تسقط بيروت- الحصينة بمقاتلي الموالاة وبكبرى طوائف البلد (السنة)، ما الذي يستطيعه جبلٌ يتصارع عليه الاشتراكيون (الجنبلاطيون) والديمقراطيون (الأرسلانيون) وجماعات سياسية أخرى تتبع لوئام وهّاب و”للحزب السوري القومي الاجتماعي”، وتقيم فيه كتلة شيعية ولاؤها قوي ل”حزب الله”؟

ولقد التقت حسابات جنبلاط العاقلة مع إرادة لدى المعارضة بعدم التصعيد، فكان أن انتهى تفاهم جنبلاط - بري واتفاق جنبلاط - أرسلان الى توفير الجبل من المعارك ومعه مناطق أخرى خارج الشوف وعاليه.

أما رابع تلك الأسباب، فيتعلق بإفساح بعض الهامش أمام التدخل العربي لتنفيذ “المبادرة العربية” التي رأت المعارضة أن فشل تنفيذها يعود إلى رفض الموالاة لها. ولما كانت مطالب المعارضة لا تتخطى سقف “المبادرة العربية” (الحوار الوطني من أجل الشراكة في الحكم ووضع قانون انتخابي جديد وانتخاب الرئيس التوافقي)، فقد كان من شأنها ليس فقط طمأنة دول الجامعة العربية، وإنما تشجيعها أيضاً على المضي نحو تنفيذها وخاصة بعد أن تبينت للعرب قدرة المعارضة على الحسم، وربما على رفع سقف المطالب. ولقد كان ضرورياً وقف المعارك وفتح طريق المطار من أجل تمكين “اللجنة العربية” من القدوم إلى لبنان وفتح الحوار مع طرفي الأزمة والصراع.

تجتمع هذه الأسباب الأربعة على بيان حدود ما كان مرسوماً للمواجهة العسكرية في بيروت وبعض الجبل: إنضاج شروط التسوية الداخلية بعد أن تعذر أمرها بسبب الاعتقاد بأن “حزب الله” لن يغامر بمعركة داخلية لحسم حالة الانسداد.
"الخليج"

التعليقات