31/10/2010 - 11:02

الإعلام العربي يغفو على هامش الجرائم الدولية../ محمود المبارك*

الإعلام العربي يغفو على هامش الجرائم الدولية../ محمود المبارك*
لعل أحد أبرز أسباب تفوق إعلام العالم الأول على نظيره في العالم المتخلف الذي نعيشه، هو حسن استثمار الفرص الإعلامية لتحريك مشاعر الشعوب مع أو ضد ظاهرة معينة. ففي الوقت الذي يقتنص فيه الإعلام الغربي كل شاردة وواردة ضد أمتنا الإسلامية، ليتم تضخيمها ونعتها بأبشع النعوت مثل «فاشية إسلامية» أو «إرهاب إسلامي» أو غير ذلك، نجد في المقابل إعراضاً غير مبرر عند كثير من إعلاميينا عن استثمار جرائم الغرب التي نحن ضحاياها.

فقبل أيام، استوقفني عنوان مثير حول الجرائم القانونية الدولية التي ما زالت تتوالى في إسرائيل، وتساءلت مع نفسي: أين المتحمسون لمحاكمة المتهمين بجرائم الحرب في دارفور من الإعلاميين العرب عن هذا الخبر؟! فالعنوان الذي يقف له شعر كل قانوني دولي، يشير إلى عملية وحشية بربرية همجية إسرائيلية، ترقى إلى كونها «فاشية يهودية» بامتياز.

بيد أن خبر «محو قرية كاملة عن الوجود في النقب» لم يثر كوامن الفضول عند إعلاميينا العرب - الذين يقحمون إعلامنا في كل صغيرة وكبيرة - في وقت كنت أحسب أن عنواناً كهذا سيتصدر العناوين الأولى للإعلام العربي المرئي والمقروء والمسموع.

قد يكون من اليسير علي، فهم العقلية الإعلامية الغربية والإسرائيلية في الإعراض عن إثارة مثل هذا الخبر، ولكن أن لا تكثرث وسائل إعلامنا كثيراً بمثل هذه الجريمة القانونية الدولية النكراء، فهو أمر لست أدرك كنهه!

ذلك أن ما قامت به قوات الاحتلال الإسرائيلي، يوم الخميس الماضي، من هدم كل المنازل في قرية طويل أبو جرول، ومصادرة جميع ممتلكات الفلسطينيين العرب ومواشيهم وخيامهم التي تؤويهم، وتركهم في العراء من دون مأوى تحت حرارة الشمس القاسية، وإتلاف حتى صهاريج مياه الشرب، يعد جريمة قانونية دولية إنسانية خطيرة وتدخل تحت ما يسمى بـ «التطهير العرقي».

فمسألة طرد المدنيين المنظم، تأتي مخالفة للمادة 49 من اتفاق جنيف الرابع 1949، الذي يحظر على دولة الاحتلال القيام بأعمال النقل الجبري الفردي أو الجماعي للسكان المدنيين، وأن مثل ذلك الفعل يعد خرقاً جوهرياً لذلك الاتفاق، ويرقى إلى كونه «جريمة حرب».

فسكان النقب الذين كانوا يملكون نحو 12 مليون دونم قبل قيام إسرائيل، لم يتبق لهم اليوم سوى 180 ألف دونم، وتريد الحكومة الإسرائيلية القضاء على بقيتها. وهذا العمل لا شك يدخل ضمن جرائم «التطهير العرقي»، الذي يعد أحد أخطر جرائم القانون الدولي الإنساني.

فالتطهير العرقي في مفهومه المبسط هو «الطرد القسري لمجموعة من السكان غير المرغوب في وجودهم من منطقة معينة كنتيجة للتمييز العرقي أو الديني أو لاعتبارات سياسية واستراتيجية أو لكل هذه الأسباب مجتمعة».

ولنا أن نتخيل لو قام بهذه الجريمة نظام عربي، كيف تقوم قائمة الولايات المتحدة ومعها إعلامها المسيطر، والمؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمة حقوق الإنسان، ليقوم الإعلام العربي بعد ذلك باجترار الكلام نفسه وكيل التهم ضد هذا النظام العربي أو ذاك، كما فُعِل بالسودان في دارفور التي تكاد تكون «قضية العصر».

واقع الأمر أن قضية استثمار التجاوزات القانونية للدول الغربية إعلامياً، هو أقل ما يمكن أن نقوم به كأمة مستضعفة. وكنت ناديت مراراً عبر هذه الصفحة إلى التركيز على أخطاء خصومنا، لفضحها عبر الوسائل الإعلامية العالمية الفعالة. ففي مقال نشر قبل ثلاثة أشهر في هذه الصفحة، تعجبت من إعراض إعلامنا العربي عن الحديث عن جريمة قام بها مستوطن إسرائيلي حين قتل مواطناً عربياً عمداً بطعنه طعنات عدة، لمجرد كونه عربياً كما جاء في اعترافات التحقيق. وعلى رغم التواطؤ الواضح للمجتمع الإسرائيلي من حكومة ومحكمة وشرطة ومجتمع مدني، في التعتيم على هذه الجريمة العنصرية، إلا إن الإعلام العربي الرسمي وغير الرسمي لم يحرك ساكناً حولها، على رغم كونها من الأمور «غير المحظور التعرض لها» إعلامياً!

مثل ذلك، أيضاً، غفلة الإعلام العربي عن الاعترافات التي بثتها القناة الإسرائيلية الأولى عبر فيلم وثائقي تضمن اعترافات لمسؤولين إسرائيليين بقتل مئات الأسرى من العرب إبان حرب 1967، حيث غفا الإعلام العربي على هامشها.

ومن دون فائدة تذكر، في مقال بعنوان «صفحات مخزية من التاريخ الأميركي في العراق» نشر في هذه الصفحة قبل ستة أسابيع، كنت بعثت نداءً للإعلام العربي للتركيز على الاعترافات التي أدلى بها محاربون أميركيون من أعمال إرهابية ترقى إلى كونها «جرائم حرب» بحسب التعريف القانوني الدولي. وشملت تلك الجرائم قتل المدنيين الأبرياء بما في ذلك الأطفال، في اعترافات مسجلة من جانب مجلة أميركية لمحاربين أميركيين. وكل ما كان ينبغي على الإعلام العربي بكل فئاته أن يفعله هو ترجمة ونقل تلك الصور والمشاهد والاعترافات لفضح الزيف الأميركي والصورة التي تحاول إدارة بوش رسمها. ولكن يبدو أن الكثير من الإعلاميين العرب يريدون إعطاء شرحٍ حي للمثل العربي «لا حياة لمن تنادي»!

واليوم حين تقوم إسرائيل بما تقوم به من محو قرية كاملة، تفعل ذلك من دون أن تخشى من الأمة العربية أو الإسلامية أي ردة فعل، قولية أو عملية، رسمية أو غير رسمية. ذلك أن لسان الأمة – وهو إعلامها – يبدو اليوم عاجزاً عن الكلام.

ولكن المصيبة العظمى هي أن ما قامت به إسرائيل من محو فعلي لقرية طويل أبو جرول، إنما هو خطوة أولى ضمن خطة رسمها مجرم الحرب شارون. وبحسب هذه الخطة، فسيتم محو 44 قرية أخرى في النقب، جميعها لا تحظى باعتراف الحكومة الإسرائيلية. ولعل الإعلام العربي – الذي يزج بنفسه فيما يعنيه وما لا يعنيه في كل آن- يرى من الحكمة أن ينتظر لحين اكتمال خطوات «المحو» الـ 45 كلها قبل أن يفتح فاه. تَعِسَتِ العجلة!
"الحياة"

التعليقات