31/10/2010 - 11:02

الاحتلال احتلال إلا الأمريكي و"الإسرائيلي"../ الياس سحّاب

الاحتلال احتلال إلا الأمريكي و
في القواميس اللغوية، ان الاحتلال هو قيام قوة عسكرية لدولة ما، بغزو دولة أخرى، ضد ارادة أهلها، والمكوث فيها طويلا، والقيام بتهديد أمن أهلها، ونهب ثرواتها. وفي المصطلحات الدبلوماسية والسياسية الحديثة، تنتفي صفة الاحتلال، عندما يكون وجود القوات الغربية على أرض غريبة، بتفويض من المجتمع الدولي المتمثل بالأمم المتحدة، ومؤسساته المختلفة، خاصة مجلس الأمن.

وفي كلا التعريفين، فإن وجود القوات الأمريكية في العراق منذ أربع سنوات، والقوات “الاسرائيلية” في الضفة الغربية وغزة (على الأقل) منذ أربعين عاما، هو احتلال كامل الأوصاف.

ومع أن الاحتلال الأمريكي في العراق حاول منذ البداية أن يغطي غزوه للعراق بعد معارضة مؤسسات المجتمع الدولي الصريحة والواضحة (بدليل عدم القبول بإصدار قرار دولي يشرع الغزو وفقا للرغبة الأمريكية)، فقد حاولت الادارة الأمريكية منذ البداية التعويض عن الانكشاف القانوني الكامل لغزوها، باقناع مجموعة من الدول الحليفة لها، وعلى رأسها بريطانيا، بالمشاركة في الغزو بقوات ولو رمزية، حتى تغطي عبارة “قوات الاحتلال الأمريكي للعراق” بعبارة “القوات المتعددة الجنسيات في العراق”.

ومع ذلك، فلم يدخل احتلال العراق عامه الرابع، حتى كانت دول اساسية (واخرى غير أساسية) تسحب قواتها من مشروع الاحتلال الأمريكي، حتى وصل الأمر الى الحليف الاساسي الوحيد لواشنطن في هذا المشروع، توني بلير، بالاعلان عن سحب متدرج لقواته، بينما كان سيد البيت الابيض يقاتل بشراسة لإرسال عشرين ألف مقاتل أمريكي اضافي، لدعم سلطة الاحتلال، وهي تشارف بداية عامها الخامس.

نكتفي في هذه السطور بتوصيف الوضع القانوني والسياسي والاخلاقي للقوات الأمريكية في العراق، ولا نتطرق الى “انجازاتها” التي أقامت في بلاد الرافدين أكبر “منهبة” في التاريخ البشري، تجاوزت حتى الآن عشرات مليارات الدولارات، وأكبر عملية تدمير للمكونات الحضارية لأحد أقدم المجتمعات البشرية في العالم، نتجاوز كل هذا، في هذه السطور، لنؤكد قضية واحدة هي انه لا يمكن ان يختلف عاقلان على سطح الكرة الارضية، في وصف الوجود الأمريكي في العراق منذ أربع سنوات، بأنه احتلال.

الظاهرة نفسها تتكرر، وان كان من مدة أطول، في الاراضي الفلسطينية التي تحتلها “اسرائيل” منذ العام ،1967 أي الضفة الغربية وغزة. فليس هناك أي وثيقة رسمية ذات قيمة قانونية في العالم، تصف الوجود “الاسرائيلي” في الضفة الغربية وغزة والقدس العربية، بغير الاحتلال، ومع ذلك، فإن المجتمع الدولي بأسره، لا يتجنب فقط تسمية هذا الوجود باسمه الحقيقي “الاحتلال”، بل يتيح ل “إسرائيل” ان تفعل ما تشاء، ومنذ اربعة عقود كاملة، لاخضاع الأراضي المحتلة بسكانها وجغرافيتها ومواردها الطبيعية، إلى عملية تهويد متدرجة، واضحة المعالم والآثار.

ولما أتيح لزعيمة احدى اكبر دول الاتحاد الأوروبي، ألمانيا، زيارة المنطقة، فإنها لم تكتف بالتغاضي عن كل هذه الحقائق، بل اعتبرت مهمتها المركزية، الضغط على رئيس السلطة الفلسطينية، القائمة اصلا تحت الاحتلال، للعمل على اطلاق الجندي “الإسرائيلي” الأسير لدى جماعات من المقاومة الفلسطينية.

طبعا لا تقتصر المسألة على كونها خلافا فقهيا نظريا حول مصطلح “الاحتلال” في العصر الحديث، لكن خطورتها تكمن في تعبيرها عن سلوك سياسي ينتشر ويستشري، ويسود في العقد الاخير من القرن المنصرم، والعقد الافتتاحي للقرن الحالي.

حتى الآن ما زال الاحتلال يعتبر احتلالا في كل مكان وزمان، إلا اذا كان الاحتلال أمريكياً، فإنه يصبح مرادفاً للمد الحضاري، ونشر الديمقراطية، ومقاومة الارهاب، وهزيمة الشر، وانتصار الخير، وإلا إذا كان الاحتلال “اسرائيلياً”، فإنه يصبح دفاعاً عن ضحايا النازية (في أربعينيات القرن العشرين) ورفعاً للظلم عنهم، وحماية أمنهم، من أي تهديد محتمل ولو على بعد آلاف الأميال.

المشكلة لا تتوقف عند حدود الشكوى من المعايير المزدوجة، كما هو شائع حتى الآن، بل من احتمال تفشي هذه المعايير الأمريكية “الاسرائيلية”، كلما لاح لأي قوة في العالم، انها تستطيع أن تستفيد من اختلال ميزان القوى بينها وبين أي جار لها، تشعر بأنه أضعف منها.

لنتخيل الكرة الارضية، وقد تمسكت فيها كل دولة قوية في العالم، بهذه المعايير الأمريكية “الاسرائيلية”، وأحلتها محل القانون الدولي وشرعة الامم المتحدة واتفاقيات جنيف، وسواها من المواثيق الدولية. ولنتخيل كيف سيكون عليه وضع الكرة الارضية والبشرية بأسرها، في حال الاختفاء المتدرج لفاعلية القوانين الدولية المعروفة، والسيطرة المتدرجة لهذه المعايير الأمريكية “الاسرائيلية”.

لسنا بحاجة الى كثير من الخيال لنرسم سيناريو الكرة الارضية والجنس البشري، عند ذاك، فهو سيناريو تتجاوز بشاعته بمراحل كثيرة ما اصطلحنا على تسميته حتى الآن بقانون الغاب. صحيح ان هذا السيناريو المحتمل يشبه معنويا قانون الغاب، لأن كليهما قائم على سيطرة القوي على الضعيف، وعلى ان القوة هي وحدها الحق، لكن قانون الغاب يطبق عادة بسلاح الانياب المفترسة، اما القانون الأمريكي “الاسرائيلي”، السائد في العراق وفلسطين، فإن تعميمه سيعني تعميم قانون الغاب، ولكن بأسلحة الدمار الشامل التي لم نعرف من أهوالها حتى الآن، سوى نموذج أولي شديد البساطة في هيروشيما ونجازاكي، في أواخر الحرب العالمية الثانية.


"الخليج

التعليقات