31/10/2010 - 11:02

الاختيار المستحيل بين المصالحة والسلام../ سمير كرم

الاختيار المستحيل بين المصالحة والسلام../ سمير كرم
ما أصعب الاختيار بين المصالحة الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية.
ما أصعب هذا الاختيار على الشعب الفلسطيني بصفة خاصة.
ولكن، من قال ـ أو يقول ـ إن الاختيار الراهن هو بين المصالحة والمقاومة؟
أليست هذه هي الحقيقة؟
ألا يبدو من المستحيل ـ بعد كل ما جرى حتى الآن من أوسلو إلى حرب غزة ـ أن تتم مصالحة على أساس المقاومة، وليس على أساس القبول بالسلام الأميركي ـ الإسرائيلي؟

صحيح أن خالد مشعل قال قبل أيام إنه لم تبق سوى خطوة واحدة لتتم المصالحة.
وصحيح أن الطرفين المراد أن تتم المصالحة بينهما فلسطينيان وأنهما أعلنا حرصهما على أن تتم المصالحة في مصر لا في أي مكان آخر... حتى لا يبدو أن طرفاً منهما لا يريد أن يصالح على يد مصر بعد كل ما جرى من مصر في محادثات المصالحة وخارجها... ابتداء من الموقف من حرب غزة وصولا إلى الجدار الفولاذي.
وصحيح أيضا أن مصر تتطلع إلى تحقيق هذا الانجاز ـ المصالحة ـ لتأكيد قدرتها على أداء الدور الضاغط من اجل السلام الأميركي ـ الإسرائيلي.
لكن الحــقيقة الأساسية تكمن في التــناقض العميق ـ بل التام ـ بين السعي إلى مــصالحة بين الطرفين الفلسطينيين اللذين يمثل احدهما طريق السلطة الفلسطينية ويمثل الآخر طريق المقاومة الفلسطينية.

ربما لم يطلع احد ـ خارج إطار الأطراف والوسطاء ـ على نص الورقة المصرية للمصالحة، ولكن ليس من الصعب تصور ملامح هذه الورقة ومدى تشابهها مع ملامح السياسة المصرية؟ ومع ملامح السياسة الأميركية وأيضاً مع ملامح السياسة الإسرائيلية. وليس من الصعب تصور حالة الانتظار التي تعيشها إطراف غير مباشرة أو إقليمية إذا كان هذا هو التعبير الملائم. إيران تنتظر وسورية تنتظر. وحزب الله (لبنان) ينتظر. وعلى الجانب الآخر من التل (كما يقول التعبير المعروف) تنتظر السعودية والأردن ودول الخليج وكذلك اليمن والمغرب وتونس والعراق (المحتل)... ولكل من الانتظارين معنى مختلف وقصد مختلف.

ثمة قوى ودول تريد مصالحة تميل نحو المقاومة. وثمة قوى ودول تريد مصالحة تميل نحو السلطة التي قررت وأثبتت قدرتها على التمسك بقرارها بأن تهجر المقاومة وان لا تعود أبدا حتى إلى مجرد التهديد بها.
وكل من هذه وتلك ترقب الوضع بشأن المصالحة من موقع أزمة.
فالمقاومة في أزمة بسبب الخلاف مع جناح السلطة حول السبيل إلى تحقيق ما لفلسطين من أهداف وحقوق، وفي أزمة بسبب موقف النظام العربي الذي لا يبدي صلابة للوقوف مع المقاومين.

والسلطة في أزمة لأنها لم تستطع ـ على الرغم من أن مصر وراءها والسعودية وراءها ـ أن تبرهن على قدرة منهجها المسالم على تحقيق شيء، أي شيء مهما كان ضئيلا في سبيل الدولة الثانية.. الفلسطينية. وهي في أزمة لأن الجانب الإسرائيلي يصر على وضعها في موقع الاختبار الذي لا تبدو له نهاية: هل تصمد في تمسكها بنبذ نهج المقاومة أو أن ضغوط الفلسطينيين في الضفة الغربية ـ حيث تمارس السلطة سلطتها ـ يمكن أن تجبرها، لا احد يعرف متى، على العودة إلى حمل السلاح بوجه إسرائيل والمستوطنات.
وأزمة كل من الطرفين أزمة للإطراف المؤيدة له.

ماذا لو بدت المصالحة غبناً بوضع المقاومة في أعين سوريا وإيران والغالبية الساحقة من الجماهير العربية؟ وماذا لو بدت على العكس من ذلك قضاءً على فرص السلام في أعين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية...الخ؟
يزيد من تعقيد الوضع أن أيا من الطرفين ـ ومؤيديه على الساحتين الإقليمية والدولية ـ لن يستطيع أن يقاوم الإعلان بكل الوسائط عن أن المصالحة جاءت انتصاراً له وللأفكار والمناهـج التي يمثلها. هذا على الرغم مما يعلمه الجميع أن المصالحة هي عملية إجرائية بحتة لا تتعلق بجوهر الخلاف بين المقاومة والسلطة (...)

ما هو أدهى وأمرّ من ذلك أن التصور السائد للمصالحة الفلسطينية لدى أكثر الأطراف اطلاعا على مجريات الجهود المصرية من اجل تحقيقــها هو أن ترمي إلى خلق موقف مــوحد للمــقاومة والسلــطة معاً يدخلان به المفاوضــات مع الطرف البعيد الآخر: إسرائيل. ويكمّل هذا التصور السائد تصور جانبي بأن انتخابات تجرى في الضفة الغربية وغزة تحت إشراف ما (دولي غالباً) يمكن أن تبلور موقف الشعب الفلسطيني من المصالحة، بل وتحدد فهمه لنصوصها وتفسيره الخاص لها.

يزيد من تعقيد الوضع بالنسبة لمعضلة المصالحة معضلة سياسات إدارة الرئيس باراك أوباما، التي كانت تعد بموقف من المسألة الفلسطينية يبعدها عن الانحياز المتطرف لإسرائيل... ربما نحو انحياز غير متطرف لا أكثر.

ويجدر بالذكر هنا أن البروفيسور رشيد الخالدي أستاذ كرسي ادوارد سعيد للدراسات العربية المعاصرة بجامعة كولومبيا (نيويورك) كان قد عبر عن وجهة النظر الأميركية الثابتة بشأن الوضع الراهن للقضية في حديث أدلى به لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، الذي يعد أكثر مصانع الأفكار أهمية في مجال السياسة الخارجية الأميركية (29/10/2009)، قال فيه: "إن السبيل للوصول إلى إجماع في الرأي هو الاتفاق على موقف يمثل الحد الأدنى يخوّل فيه الطرفان السلطة الفلسطينية بالتفاوض، وبهذا المعنى سيــكون (هذا الحد الأدنى) موقفاً تفاوضياً أكثر صلابة، وهذا هو السبب في أن الإسرائيليين مرعوبون".

وعلى قدر ما يبدو من تناقض في هذا التوصيف لما ينبغي أن يكون فإنه يعبر بالفعل عن موقف إدارة أوباما: إنها تريد تفويضاً للسلطة الفلسطينية بأن تتفاوض مطالبة بالحد الأدنى، على أن يكون واضحاً أن هذا الحد الأدنى يثير الرعب لدى إسرائيل (...) إسرائيل إذن غير مستعدة حتى للحد الأدنى. وهذا يفسر وضعها لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في موضع يجعله تحت اختبار مستمر.. فيما هي تملك بيدها زمام استمراره في السلطة. وعلى حد تعبير رشيد الخالدي في الحديث نفسه فإن عباس يملك سيطرة جزئية على الضفة الغربية المحتلة بمساعدة إسرائيل. وعلى حد تعبيره أيضاً فإن هذا هو السبب في أن إدارة أوباما طلبت من القاهرة ومن عباس أن لا تتم مصالحة مع حماس، على الرغم من ظهور انتقادات أميركية لإدارة أوباما بأنها تخطئ بالاستمرار في عدم الاعتراف بحركة حماس إلى الآن. وهذا استمرار لسياسة إدارة بوش السابقة.

وهنا، لعل أسهل استنتاج ممكن هو الذي يقول إن حالة عدم المصالحة بين السلطة والمقاومة تلائم إسرائيل والولايات المتحدة. فهي تمكّن إسرائيل من مواصلة السيطرة إلى ما لا نهاية على الأراضي المحتلة الفلسطينية، وتمكن إدارة أوباما من مواصلة العمل وكأنها تسعى لتحقيق حل الدولتين.

مع ذلك يبدو أن أحدا لا يتساءل إذا كانت هناك علاقة ما ـ من أي نوع ـ بين تعثر مفاوضات "عملية السلام" بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل بإشراف الولايات المتحدة، وتعثر عملية المصالحة بين السلطة الفلسطينية والمقاومة. وهو سؤال يترتب عليه سؤال آخر: هل تعرقل إدارة أوباما عملية المصالحة معتبرة أن الانتهاء من عملية السلام ـ على صعوبته ـ ممكن في ظل الخلاف والانقسام بين الفلسطينيين، مستحيل إذا تمت عملية المصالحة بين السلطة والمقاومة... لأن من شأن المصالحة أن تقوي شوكة الفلسطينيين وتعيدهم طرفاً واحداً في مواجهة إسرائيل، لا طرفين بمنهجين مختلفين؟

ليس من المتوقع أبدا أن تعلن إسرائيل أو الولايات المتحدة انسحابها من عملية السلام إذا تمت بالفعل عملية مصالحة فلسطينية. إن لم يكن لأي سبب فلأن المنطق يقول إن الخلاف الفلسطيني شأن فلسطيني داخلي. لكن هذا لن يمنع إسرائيل ـ في حالة ما إذا أعلنت مصالحة بين السلطة والمقاومة ـ أن تنتظر أي إشارة تكفي لاتهام السلطة بالتراجع عن تعهداتها بنبذ العنف والتخلي عن أساليب المقاومة ضد إسرائيل والإسرائيليين. وهو اتهام سيكون من السهل جداً إطلاقه إذا كانت السلطة تتحدث باسم فتح وحماس معاً نتيجة لهذه المصالحة.

وإذا كانت عودة جورج ميتــشل مبعوث إدارة أوباما إلى عملية الســلام الى ممارســة دوره في الأيام الأخيرة قد ترافقــت مع إبدائه تفــاؤلاً بإمكان تحــقيق السلام بين إسرائيل والسلطة الفلسـطينية خلال مدة عامين وقد تكون أقل، فلا بد أن نلاحظ أن التفاؤل هو أحد مستلزمات الدور الذي يلعبه ميتــشل من ناحية، كما أنه ترافق ـ من ناحية التوقيت ـ مع توقف جهود المصالحة... وكأنه تأكيد للسلطة الفلسطينية بأن استئناف عملية السلام إنما يتعارض مع استئناف عملية المصالحة، وأن إحداهما لا تعزز الأخرى.

في الوقت نفسه فإن إسرائيل استبقت وصول ميتشل إلى المنطقة بإطلاق أقصى تهديداتها حدة ضد غزة منذرة بحملة عسكرية جديدة تتجاوز في ضراوتها ونتائجها حرب شتاء 2008 ـ 2009. فقبل أيام صرح الميجور جنرال ياعوف غالانت الـضابط الذي سيعهد إليه بقيادة حملة عسكرية جـديدة ضد غزة، إذا ما أصبح قرارها نهائياً، إن «الشمس ساطعة، ولكن السحب الكثيفة تبدو عن بعد... إن الجـنود الإسرائيليين يستعدون لمواجهة الاضطرابات القادمة، وإن المدنيين الإسرائيليين يعدون أنفسهم لجولة قتال جديدة».

وقبل أيام قال الميجور جنرال يوم تــوف ساميا ـ الذي لا يزال يشغل منــصب قائد قوات الاحتياط التي ستشترك في غزو غزة ـ التالي: "إننا أمام جولة ثانية في غزة، وإنني لا اشك تماما في إمكان أن تستسلم حماس فجأة أو تغير طريقتها من دون أن توجه إليها ضربة اشد في خطورتها من تلك التي وجهت إليها في عملية الرصاص المصبوب. إن على إسرائيل أن تنفذ ضربة اشد تركيزاً تكون لها نتائج تدوم لزمن أطول".

وقد ظهرت تفسيرات عديدة ـ بعضها أميركي ـ بأن هذه التهديدات الإسرائيلية الجديدة ليست موجهة إلى غزة وحدها، إنما هي موجهة أيضا إلى الضفة الغربية خاصة وقد لوحت إسرائيل بأنها تخطط للعودة لاحتلال بعض مناطق غزة لإحكام سيطرتها عليها. وهو وضع غير متصور أن يسكت عليه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية.

وبعد.. فإن الوضع الذي يحيط بالقضية الفلسطينية من خارجها ومن داخلها يتسم بدرجة من التعقيد يصبح معها الاختيار بين عملية المصالحة وعملية السلام أمرا لا مفر منه. إما هذه وإما تلك.
ولكن هذا الاختيار مستحيل. إنه اختيار بين طرفين احدهما تفريط والآخر إفراط، من دون أن يكون بينهما وسط عدل، إذا استعرنا تعبير أرسطو الأخلاقي.

إذا اختيرت المصالحة وسط كل هذه الحساسيات والتناقضات فإن من المؤكد أن الخلافات بعدها ستكون أكبر وأعقد. وإذا اختير السلام ـ بشروط إسرائيل ـ أي بدون مصالحة، فإن من المؤكد أن المقاومة ستكون الخيار الحقيقي الواقعي.
"السفير"

التعليقات