31/10/2010 - 11:02

الانتصار شيء فيما الغلبة شيء آخر../ حسن شامي

الانتصار شيء فيما الغلبة شيء آخر../ حسن شامي
يكاد التداول المتزايد لشعار مبهم من نوع «لا غالب ولا مغلوب» يرشحه أكثر فأكثر لأن يصبح عنواناً، ان لم يكن أفقاً، لتسوية النزاعات في غير بلد عربي. ولا يعدم مثل هذا التداول وجود زعماء وخطباء ومعلقين يرفعون هذا الشعار الى مصاف حكمة سياسية أو قاعدة بارزة من قواعد «فلسفة» في التحكيم السياسي وفي ادارة انقسامات معلنة بين جماعات وأطراف متنازعة. وهي «فلسفة» مجهولة المقدمات والنتائج، خصوصاً في ظل فوضى دلالية ترقى الى عصر النهضة العربي والإسلامي وما شهده من تداخل والتباسات بين مرجعيات ثقافية متزاحمة ومتنافسة مما أضفى على تعبيراتنا وأدبياتنا العريضة القلق والاضطراب المعهودين، بما في ذلك اختلال العلاقة بين الدال والمدلول.

على أننا لن نخوض الآن في تاريخية هذه الفوضى الدلالية وتمظهراتها والتي يجري ردّها عموماً الى صدمة الاحتكاك بين أوروبا والإسلام، أو بين الغرب والشرق لدى الذين يفضّلون تشخيص الاحتكاك بعبارات الجغرافيا الثقافية. في المقابل، سنحاول، ها هنا مساءلة هذه الحكمة عن مسعاها وبديهياتها المفترضة.

قد يكون مفيداً أن نبدأ بملاحظ سجّلها أحد شيوخ علم الأساسة (الأنتروبولوجيا) مستخلصاً منها عبرةً لا تبخل في تقديمها المجتمعات البدائية بحيث لا تحول بدائيتها الاجتماعية القبلية دون إدراج فكرها البري في منظار انسانوي عريض. ففي أحد نصوصه يروي عالم الأناسة (وهو كلود ليفي ستروس) أن انتشار لعبة كرة القدم الانكليزية المنشأ والمصدر، وهو انتشار صاحب التوسع الاقتصادي والعسكري والثقافي، أفضى الى تبيئة طريفة من قبل بعض المجتمعات القبلية في أفريقيا السوداء. فبما أن المباراة بين فريقين تفترض عموماً فوز فريق وخسارة فريق آخر، فإن الحكمة القبلية جعلت فريقين يمثلان قبيلتين أو جماعتين يديمان اللعب ساعات طويلة قد تستغرق النهار كله كي تنتهي المباراة بالتعادل، وعندها فقط يمكن وقف المباراة وليس قبل ذلك، وإلا فإنهم سيواصلون اللعب تفادياً لمعادلة «رابح وخاسر»، «منتصر ومهزوم».

ذلك أن الربح والخسارة، أو الانتصار والهزيمة هما عبارتان حديثتان بعض الشيء ويمكن قصرهما على وجه معين من وجوه النشاط الإنساني. ويصعب مثل هذا القصر والتخصيص في مجتمعات تحسب جماعاتها زج كيانها كله في أي منافسة أو مواجهة. بعبارة أخرى تقتضي حكمة التنافس البدائي أن تنتهي النتيجة بمعادلة «لا غالب ولا مغلوب»، إذ لن تطيق الجماعتان القبليتان تحول علاقة التكافؤ والتوازن بينهما الى علاقة غلبة، لأن المسافة بين الرمزي والمادي، في مثل هذه المجتمعات تبقى واهية وقصيرة. ولم يتردد عالم الأناسة المذكور في توسيع العبرة للإيحاء أن فكرة الغلبة واختلاط معناها بمعنى الانتصار جلبهما التوسع الرأسمالي الغربي وأدخل على هذه المجتمعات، خصوصاً في السياق الاستعماري، منطقاً غير معهود مما عرّض منظمتهم التقليدية لاضطراب مديد لا قبل لهم به.

قد يكون مجدياً، إذاً، ان تترافق مساءلة شعار «لا غالب ولا مغلوب» عن بديهياته مع ضرورة التمييز بين الانتصار والغلبة. لنقل، وان مؤقتاً، ان الانتصار شيء، والغلبة شيء آخر، على اختلاط صورهما وتعبيراتهما في ثقافتنا.

نعلم ان هذا الشعار بات مزدهراً ويحتل مكانة مرموقة في عبارات ولغة القسم الأكبر من الطبقة السياسية اللبنانية من دون أن يقتصر على الزعماء وممثلي الطوائف. وقد رأينا وسمعنا في مؤتمر الدوحة ومن ثم في الجلسة «التاريخية» لانتخاب رئيس الجمهورية التوافقي ميشال سليمان، كلمات وخطابات شددت على التعادل والتوازن بين الجماعات، مصحوبة بجرعة بلاغية وانشائية لنسب الغلبة والانتصار الى ما يتعالى عن انقسامات الطوارئ، أي الوطن اللبناني. ويحصل هذا في ظل اصطفاف صاخب وهادر يضع وجهاً لوجه نصفاً مختلطاً من اللبنانيين ونصفاً آخر لا يقل اختلاطاً. على ان الاصطفاف السياسي الأفقي يتقاطع مع اصطفاف عمودي طائفي ومذهبي واثني هو الأخطر من دون شك على مصير البلد بكامله لأنه بالضبط يستند الى تمثيلات الغلبة والنفخ فيها.

وها هو الشعار ذاته ينتقل الى مساحة النزاع الفلسطيني - الفلسطيني بين حركتي حماس وفتح، والحاجة الملحة الى الحوار الوطني بينهما. فقد اعتبر رئيس الحكومة المقالة اسماعيل هنية بأن حركته وحكومته تتحركان لرفع الحصار عن غزة ولتحقيق تهدئة متبادلة بجهود مصرية، ولتهيئة الأجواء للانطلاق بحوار وطني فلسطيني «على قاعدة المصالح العليا لشعبنا وقضيتنا، وبلا شروط، وعلى قاعدة لا غالب ولا مغلوب، لنخرج باتفاق ينتصر به شعبنا». في العراق، وفي أفغانستان استطراداً، صراع مكشوف يدور على لعبة الغلبة، غلبة فئة على أخرى، وقد تكون الفئة طائفة أو فريقاً داخل طائفة، على ما دلت المواجهات العنيفة في غير مدينة عراقية بين أنصار مقتدى الصدر وبين قوى السلطة العراقية.

الانتصار شيء، والغلبة شيء آخر. يمكن للانتصار أن يؤسس لترسيمة سياسية معينة وأن يذوب مع الوقت في نسيج وطني تتعهده مؤسسات وأنشطة عقلانية من شأنها توليد الشروط التي تعدّل موازين العلاقات بين المنتصر المفترض المهزوم المفترض. لدينا أمثلة كثيرة في التاريخ الحديث على هذا. أما الغلبة فهي تؤسس لمنظمة تدول على العصبية، في المعنى الخلدوني، وتقلّص السياسة الى مجموعة من الوصفات الفنية للرياء والمداهنة والإذعان والاستتباع. لا يعود أمام العصبية الغالبة سوى احكام قبضتها غير متوانية عن استعراض القوة والهيبة مع التشاطر أحياناً في تنقيح العنف الذي تبثه في ثنايا المجتمع. ولا يعود أمام المطلوب سوى الانتظار المحموم لانقلاب الأمور والسعي في معظم الأحيان الى غلبة مضادة قائمة على التشفي والاستئصال والإقصاء. ما ينبغي التشديد عليه، ها هنا، هو ضرورة وضع منطق الغلبة وعقلياتها في سياقها التاريخي، الخاص والعام، تفادياً للوقوع في فخ مذهبية سوسيولوجية وثقافوية مغرية وسهلة في هذه الأيام.

فنحن نعلم أن مفردة الغلبة ومشتقاتها الشديدة الحضور في الجهاز المفهومي لابن خلدون، استقاها هذا الأخير من قاموس المصطلحات الإسلامية والألفاظ القرآنية، وشحنها بكثافة معرفية كي تستوي مفهوماً وثيق الصلة مع مفاهيم أخرى مثل العصبية والملك والعمران والبداوة والحضارة... الخ. وإذا كانت الكلمة تحتمل في العهود الأولى للدعوة الإسلامية بعداً ايمانياً وروحياً، من بين أبعاد ودلالات أخرى، فإنها في أيام ابن خلدون، أي بعد تحول الخلافة الى «ملك عضوض» باتت تدور أساساً على البعد الدنيوي والسلطوي لعنف العصبية ومنطقها. ويقودنا هذا، في ما يخص مناطق النزاع المذكورة، الى ضرورة الالتفات الى السياق التاريخي الذي يجعل من الصعب فصل الوجه المحلي للنزاع عن استراتيجيات الغلبة الاقليمية والدولية. فما نشهده منذ عقدين ونصف تقريباً وعموماً، ومنذ اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) واحتلال أفغانستان ثم العراق، هو انتقال من استراتيجية انتصار للنموذج الغربي وامكانية التعاطي معه بالاستناد الى ما هو عالمي في تجربته وصيرورته، الى استراتيجية غلبة من الطراز الاستعماري. ولنا مثال على هذا في الانقسام الدائر عراقياً واقليمياً حول الاتفاقية الطويلة الأمد التي تسعى الإدارة الأميركية الحالية الى فرض توقيعها قبل نهاية الشهر المقبل مع الحكومة العراقية. وهي اتفاقية يمكن التعرف على مضمونها وبنودها من التطمينات والوعود التي تصدر عن زعماء عراقيين مبشّرة بخفض سقف السيطرة الأميركية المباشرة على البلد العراقي اقتصادياً وعسكرياً.

يمكن القول، من ناحية أخرى وموازية، ان الدولة العبرية حققت منذ نشأتها نوعاً من الغلبة على الفلسطينيين وعلى العرب. لكنها لم تنتصر في المعنى المشار اليه أعلاه. الإدارة الأميركية هي التي تقوم بتحويل الغلبة الى انتصار يقتضي من العرب المزيد من التنازل عن سيادتهم واستقلالهم الوطنيين.
"الحياة"

التعليقات