31/10/2010 - 11:02

البعد العسكري لأزمة أميركا ـ إسرائيل../ سمير كرم

البعد العسكري لأزمة أميركا ـ إسرائيل../ سمير كرم
ما أكثر ما قيل من كل الأطراف خلال الفترة منذ تفجر الخلاف بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو اثر إعلان خطة بناء 1600 وحدة سكنية استيطانية في القدس الشرقية، وهي الخطة ذاتها التي لم تلبث صحيفة «هآرتس» المستقلة أن كشفت عن شمولها 50 ألف وحدة استيطانية حصلت بالفعل على موافقة حكومة نيتانياهو.

قيل الكثير وفي الاتجاهات كلها ما هو باتجاه تأييد إسرائيل وما هو باتجاه ضرورة وقف إسرائيل عند حدها، لكن أخطر ما قيل على الإطلاق في هذه الأزمة، التي وصفها سفير إسرائيل في واشنطن في لحظاتها الأولى بأنها الأخطر منذ 35 عاما، كان ما قاله الجنرال ديفيد بترايوس قائد القيادة المركزية الأميركية، مرة قبل الأزمة بنحو شهرين ومرة أخرى أثناء الأزمة، في ذروتها الأولى.

كان الجنرال بترايس قد أدلى ببيان يوم 17 آذار/مارس الحالي أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأميركي، أوضح فيه أن عدم إحراز تقدم كاف نحو سلام شامل في الشرق الأوسط واستمرار الأعمال العدائية بين إسرائيل وبعض جيرانها يشكلان تحديات واضحة لقدرة القوات الأميركية المسلحة على إحراز تقدم بشأن مصالحها في المنطقة.

وقال الجنرال الذي يقود القوات الأميركية التي تحارب في العراق وأفغانستان وباكستان إن الصراع يؤجج مشاعر مناهضة للأميركيين نظرا لوجود تصور عن تحيز أميركي لإسرائيل. «إن الغضب العربي بشأن المسألة الفلسطينية يحد من قوة وعمق المشاركات الأميركية مع حكومات المنطقة وشعوبها ويضعف شرعية نظم الحكم المعتدلة في العالم العربي».

وأضاف الجنرال بترايوس «أن تنظيم القاعدة والمجموعات العسكرية الأخرى ـ في الوقت نفسه ـ تستغل هذا الغضب لتعبئة التأييد لها. كذلك فإن الصراع يعطي لإيران نفوذا في العالم العربي من خلال عملائها، حزب الله اللبناني وحماس».

في أعقاب هذه الشهادة قررت لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأميركي مناقشة بيان قائد القيادة المركزية خلف أبواب مغلقة.. أي أنها حولت جلسة الاستماع إلى مناقشة سرية.

في اليوم نفسه كتب الصحافي الأميركي جيم لوب، الذي يعد الأبرز والأكثر معرفة بخبايا السياسات الأميركية في الشرق الأوسط والحروب الأميركية في أفغانستان وباكستان والعراق، منبها إلى انه من المهم ملاحظة «استعداد الجنرال بترايوس لان يدلي بهذا البيان العلني وهو بكامل بزته العسكرية وعليها كافة النياشين التي منحت له طوال حياته العسكرية»، موضحا العلاقة بين «مشاعر العداء لأميركا والطريقة التي تعامل بها إسرائيل الفلسطينيين».
وهي بالفعل ملاحظة جديرة بالاهتمام، على الرغم من أن العلاقة بين سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين ومشاعر الغضب في الأمة العربية والعالم الإسلامي تتردد يوميا، بينما هي تعد في الولايات المتحدة بمثابة سر حربي.

لكن الحقيقة إن هذه لم تكن المرة الأولى التي اقر فيها الجنرال الأميركي بهذا السر. فقبل شهرين ـ بالتحديد في يوم 17 كانون الثاني/يناير الماضي ظهر فريق من ضباط القيادة المركزية ذوي الرتب الرفيعة أمام الأدميرال مايكل مولين رئيس هيئة رئاسة الأركان المشتركة الأميركية للإدلاء بشهادة بشان الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بناء على أوامر مباشرة من الجنرال بترايوس.

وذكر صحافيون أميركيون أن شهادة ضباط القيادة المركزية أصابت الجنرال مولين بصدمة، وأنهم استخدموا للشرح شريطا من الصور (سلايدز) استغرق عرضه 45 دقيقة. وكان مما قالوه إن هناك إدراكا متناميا بين القادة العرب أن الولايات المتحدة عاجزة عن الوقوف بوجه إسرائيل، وان الدائرة العربية في القيادة المركزية الأميركية تفقد بسرعة إيمانها بالوعود الأميركية، وان التعديات التي ترتكبها إسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي انما تشمل المكانة الأميركية في المنطقة العربية.

وكتب الصحافي الأميركي مارك بيري المتخصص بشؤون «البنتاغون» إن فريق ضباط القيادة المركزية وصف جورج ميتشل المبعوث الأميركي الخاص لمحادثات السلام في الشرق الأوسط بانه «عجوز أكثر من اللازم، بطيء أكثر من اللازم، وجاء في وقت متأخر أكثر من اللازم...».

تبين بعد ذلك أن الجنرال بترايوس لم يكتف بهذه الشهادة من ضباطه لرئاسة الأركان الأميركية إنما أرسل مذكرة إلى البيت الأبيض بعد يومين اثنين طلب فيها من الرئيس أوباما أن يتم ضم الضفة الغربية وغزة إلى المنطقة التي تشملها قيادته، وذلك نظرا لأنهما ـ بالإضافة إلى إسرائيل ـ تقعان في ظل التقسيمات الراهنة تحت مظلة القيادة الأوروبية الأميركية (...). لقد طلب بترايوس أن تصبح الضفة الغربية وغزة جزءا من القيادة المركزية. وقال بصراحة غير معهودة «بينما القوات الأميركية منتشرة في العراق وأفغانستان يتعين أن يدرك القادة العرب أن القوات الأميركية منخرطة في أكثر مناطق الصراع اضطرابا».

عاد ضابط أميركي رفيع الرتبة بعد أيام من ذلك إلى نفي النبأ عن هذه المذكرة إلى البيت الأبيض، وقال إن الجنرال بترايوس لا يعلم على وجه الدقة ما الذي نقل إلى البيت الأبيض من شهادة ضباطه إمام رئيس الأركان المشتركة.

وقال الصحافي الأميركي صاحب النبأ عن هذه المذكرة إن شهادة الضباط أمام الأدميرال مولين أصابت البيت الأبيض مثل قنبلة. ونقل عن ضابط كبير في «البنتاغون» إن البيت الأبيض رفض ضم الضفة الغربية وغزة إلى القيادة المركزية «من الدقيقة الأولى»، بل قال إن هذا الطلب وصل إلى البيت الأبيض ميتا. فكان هذا التصريح بمثابة نفي النفي لنبأ مذكرة الجنرال بترايوس إلى البيت الأبيض، ونفي النفي إثبات (...)

في المقابل تعهدت إدارة أوباما ان تضغط على إسرائيل مرة أخرى بشأن موضوع المستوطنات، وان ترسل السناتور ميتشل إلى عدد من العواصم العربية وان ترسل الأدميرال مولين إلى إسرائيل للاجتماع برئيس الأركان في الجيش الإسرائيلي الجنرال غابي اشكينازي.

في تلك الأثناء تكهنت الصحافة الأميركية بان مهمة مولين في إسرائيل تتعلق بإيران، وكانت الحقيقة أن الأدميرال الأميركي حمل إلى إسرائيل رسالة صريحة بأنه يتعين عليها أن تنظر إلى الصراع بينها وبين الفلسطينيين في سياق إقليمي أوسع... باعتبار أن له أثرا مباشرا على مكانة أميركا في المنطقة. ويقول بيري إن الإدارة الأميركية «ظنت أن إسرائيل فهمت الرسالة. لكن إسرائيل لم تفهمها».

في هذا الجو المتوتر الملبد وجهت إسرائيل «بصقة» إلى وجه نائب الرئيس الأميركي بايدن. ونتيجة لذلك كانت عبارة بايدين لنيتانياهو ـ بعد الإعلان في وجوده عن إقامة 1600 وحدة سكنية استيطانية في القدس الشرقية ـ «لقد بدأ هذا يتحول إلى أمر خطر بالنسبة إلينا. إن ما تفعلونه هنا يقوض امن قواتنا التي تقاتل في العراق وأفغانستان وباكستان. إن هذا يعرضنا ويعرض سلام المنطقة للخطر».
...
انها شهادة بترايوس بالتمام والكمال «إن تعديات إسرائيل يمكن أن تودي بأرواح أميركيين ثمنا لها»... نقلت إلى آذان اكبر القادة الإسرائيليين بلسان نائب الرئيس الأميركي.
معنى هذا كله أن «اللوبي العسكري» الأميركي قد دخل ـ ربما للمرة الأولى فيما يسجله التاريخ العلني ـ معمعة الصراع بشأن العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
هل يمكن لأحد، حتى إسرائيل، أن يستهين بنفوذ اللوبي العسكري الأميركي؟
هل يمكن أن يقمع اللوبي الصهيوني الموالي لإسرائيل في أميركا اللوبي العسكري الأميركي كما يفعل مع أي من جماعات الضغط في الولايات المتحدة؟
هل يمكن لإسرائيل أن تتجاهل رسالة أميركية تجيء هذه المرة على لسان قائد القيادة المركزية الأميركية وكبار ضباطها... بينما هذه القيادة في حالة حرب؟
كلها أسئلة منطقية ومشروعة، وقد تتنوع الإجابات عنها بتنوع الأطراف والآراء.

لكن السؤال الأهم: هل يجد الرئيس أوباما ونائبه بايدن ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون سبيلا إلى الإبقاء على العلاقة الإستراتيجية الخاصة مع إسرائيل حتى في مواجهة تحذير بهذه القوة من اللوبي العسكري الأميركي؟
أم الأحرى أن يجد أركان الإدارة الأميركية الكبار في شهادة اللوبي العسكري الأميركي فرصة هبطت عليهم من السماء لمواجهة اللوبي الصهيوني أيا كان ما هو معروف عن نفوذه وقوته في الكونغرس بمجلسيه؟

لنسمح لأنفسنا بإضافة أخرى. نبأ آخر قد لا يكون بالإمكان تجاهله عند الإجابة عن أي من هذه التساؤلات.
في أيار / مايو القادم سيقلد الجنرال بترايوس ـ نعم هو ذاته قائد القيادة المركزية الأميركية وصاحب هذه الشهادة «التاريخية» ـ جائزة ايرفنغ كريستول لعام 2010 كاعظم قائد عسكري أميركي منذ الحرب العالمية الثانية.

جائزة ايرفنغ كريستول ستمنح له في معهد «اميركان انتربرايز» إحدى أهم قلاع المحافظين الجدد في واشنطن، وهم الأكثر ولاء لإسرائيل بين كل القيادات السياسية الأميركية، بل إنهم الأشد حماسة في تأييد سياسات بنيامين نيتانياهو.
اللوبي الصهيوني الذي أيد قرار منح هذه الجائزة للجنرال بترايس يجد نفسه الآن في وضع حرج. انه لا يستطيع أن يدعو لحرمان الجنرال من هذه الجائزة لأنه يصبح عندئذ مهددا بان يفقد بالكامل ولمدى زمني بعيد عطف أو تأييد اللوبي العسكري الأميركي. الاقرب للاحتمال أن يسعى اللوبي الصهيوني الأميركي إلى دفع حكومة نيتانياهو باتجاه الاعتدال. وقد يؤدي هذا إلى سقوطها، كما حدث في عام 1994 عندما سقطت حكومة نيتانياهو الأولى أمام ضغط إدارة بيل كلنتون. وكلا هذين الخيارين مر بالنسبة لأنصار إسرائيل من اليمين الأميركي.
إنما يبدو أن الكذب اقرب السبل لدى اللوبي الصهيوني لمعالجة معضلاته.
لقد حاول المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي ان يغير وجه شهادة الجنرال بترايوس وبيان ضباطه الكبار بالزعم أنهم قالوا في مجلس الشيوخ ورئاسة الأركان ان العرب لا يثقون بأميركا ليس بسبب ضعفها أمام إسرائيل إنما بسبب ضعفها أمام إيران.

وزع المعهد المذكور نشرته المحتوية على هذه الأكذوبة.. لم يجد من يرد عليها. نعم. لكنه لم يجد أيضا من يصدقها.
والبحث جار في كواليس الإدارة الاميركية ـ كما في كواليس حكومة إسرائيل ـ عن مخرج من مأزق واجهته العلاقات الخاصة التي تربط بين هذين الطرفين.
ويمكننا أن نراهن على أن البحث جار أيضا عن مخرج لأميركا وإسرائيل من هذا المأزق في كواليس عدد من الحكومات العربية في عواصم معروفة الاتجاه.
ولا بد ختاما من أن نؤكد أن كل الاحتمالات واردة...بما في ذلك زوال المأزق الأميركي ـ الإسرائيلي من المشهد، كأن شيئا لم يكن.
"السفير"

التعليقات