31/10/2010 - 11:02

التخبط الأمريكي حتى آخر عهد بوش../ الياس سحّاب

التخبط الأمريكي حتى آخر عهد بوش../ الياس سحّاب
لم يكن في التقرير السياسي والعسكري المرفوع من القائد الأعلى للقوات الأمريكية في العراق (بترايوس) والمفوض السامي الذي يحمل لقب سفير (كروكر) أي مفاجأة. فلقد استبق أحد كبار الساسة الأمريكيين وصول هذه التقارير بأسابيع، وقال إن الأمر يشبه إسناد مهمة تصحيح مسابقات امتحان طالبين في الشهادة الثانوية، الى الطالبين نفسيهما، وليس الى لجنة فاحصة، كما يفرض منطق الأشياء.

إنه تقرير عن مدى النجاح أو مدى الفشل الأمريكي في العراق، وما عسى مندوب بوش السياسي ومندوب بوش العسكري أن يذكرا في مثل هذا التقرير، غير التضخيم المبالغ فيه الى أقصى حد ممكن لأي إنجاز إيجابي (اذا كان موجودا أصلا)، والتقليل المبالغ به، من شأن النواحي السلبية، بل عدم الاعتراف بوجودها، حيث يمكن ذلك.

واذا كان أمر هذا التقرير محسوما سلفا، فقد بقي بعض الأمل (ولو بنسبة ضئيلة) في أن تعيد الادارة الأمريكية النظر في عنادها على استراتيجية ثبت خطؤها بل اخطاؤها، في العراق كما في أمريكا نفسها، وأن تضع مصالح الولايات المتحدة الحقيقية، ومصالح حزبها الجمهوري في المعركة الرئاسية القادمة (بعد أن خسرت معاركها في مجلسي الشيوخ والنواب بفضل عناد بوش وتمسكه بسياسته الخرقاء)، وتضع هذه المصالح فوق مشاعر العناد والتصلب والمكابرة، بعدم الاعتراف بأي خطأ، حتى لو كان واضحا للعين المجردة، وحتى لو كان بحجم الكارثة الوطنية الشاملة.

كان هذا الامل الضئيل جدا، يرتبط بخيط واه هو قيام حراك حيوي داخل الحزب الجمهوري، يميز بين المصالح الفردية للنفر الضئيل الذي بقي في الادارة الأمريكية من رعيل المحافظين الجدد، الذين تساقط كبار نجومهم، واحدا تلو الآخر، تحت وطأة أزمة العراق، وليس لأي سبب آخر، وبين المصالح العليا للدولة الأمريكية والشعب الأمريكي.

غير أن عاملاً مهماً تدخل، ليقلل من فرص قيام تحرك جمهوري بهذا الحجم، وهو التردد الوطني الظاهر الذي يخوض به الحزب الديمقراطي المنتصر، محاولات تصحيح المسار المدمر للمحافظين الجدد في السياسة الأمريكية الخارجية، وذلك بفعل حسابات حزبية ضيقة تعطل الحسابات الوطنية الكبرى، وهي حسابات مرتبطة بمصالح الحزب الديمقراطي الداخلية في مرحلة التحضير للانتخابات الرئاسية في اواخر العام المقبل.

فلما تصادم عناد الرئيس بوش (ومن تبقى معه من المحافظين الجدد) مع تردد الأغلبية الديمقراطية في مجلسي الشيوخ والنواب، كانت الغلبة المنطقية لعناد بوش.

لقد جدد الرئيس الأمريكي، عناده بتحويل الفشل العظيم في العراق إلى لعبة رقمية فافترض وجود ثماني عشرة مهمة، كان على الوجود العسكري الأمريكي في العراق تحقيقها حتى يكون النجاح كاملا.

بعد هذه الفرضية النظرية، أصبح من السهل التلاعب بالارقام، فمرة ينخفض عدد المهمات المنجزة الى خمس من أصل 18، ومرة يرتفع الى سبع. لكن آخر المزايدات الاعلامية في هذا المجال، رفعت عدد المهمات المنجزة الى تسع، أي إلى نصف المهمات المفترضة. ومعلوم أن حصول الطالب في أي امتحان رسمي على معدل العلامة القصوى، اي نصفها، يخوله الانضمام الى قافلة الناجحين.

بناء على هذه العملية الوهمية، افترض بوش نجاح مهمة الاحتلال الأمريكي في العراق، وبناء على هذه الفرضية ضرورة الاستمرار، وترك مهمة تحديد استراتيجية أمريكية جديدة في العراق، للرئيس الأمريكي المقبل، الذي لن يتسلم منصبه في البيت الابيض قبل بداية العام 2009.

غير أن غرابة التبريرات التي انطلقت لتحيط بالعناد الرئاسي الأمريكي، وتقدمه للعالم على أنه “حكمة سياسية”، لم تقتصر على الرئيس بوش وحده، بل انتقلت إلى كل مساعديه. فقد صرح وزير الدفاع الأمريكي الجديد أخيراً أن الانسحاب السوفييتي من أفغانستان قد قوى شوكة الاصوليين الإسلاميين، وأن أي انسحاب أمريكي من العراق الآن، سيقوي شوكتهم بدرجة اكبر.

إن في هذه الحجة الجديدة قمة جديدة من قمم “الاستغباء” الأمريكي للعالم بأسره والشعوب كلها، كأن أحدا لا يعلم أن البؤر الأصولية المتشددة التي أسهمت بفعالية في تقويض النفوذ السوفييتي السابق في افغانستان، إنما هي صناعة أمريكية خالصة، أشرفت على تصنيعها ورعايتها وتدريبها وتمويلها يومذاك وكالة الاستخبارات الأمريكية مباشرة.

يبدو واضحا إذن، ما لم تطرأ مستجدات تقلب الوضع الداخلي الأمريكي وتغير اتجاهه أو تعدله قبل نهاية ولاية بوش، فإن السياسة الأمريكية الخارجية، من الآن وحتى نهاية العام المقبل، ستظل محكومة بالفوضى والتخبط، وغياب الاستراتيجية الواضحة، اللهم عدا استراتيجية الهيمنة الامبراطورية بالقوة العسكرية، حتى وسط الازمات ومسلسلات الفشل. وهي سياسة لن تقتصر على الوجود الأمريكي في العراق وحده بل في سائر العالم، وخاصة المنطقة العربية. فها هو سفير واشنطن في بيروت يواجه كل محاولات التسوية التي تريد تجنيب لبنان الخراب، بالإصرار على اعتبار رأس حزب الله، الثمن الوحيد الذي يرضي اميركا، دون التفات الى ان نجاح اميركا في حصد هذه الثمرة، لا يمكن الا ان يكون على حساب تماسك الكيان اللبناني نفسه، ذلك ان حزب الله يمثل طائفيا ثلث الشعب اللبناني على الاقل، ويمثل وطنيا اكثر من نصف هذا الشعب.

فهل يسمح جمود الوضع الأمريكي الداخلي، والاوضاع العربية والاقليمية والدولية، لبوش باستمرار سياسة التخبط بهدوء وعلى مهل، ام ان آلية المؤسسات الأمريكية الوطنية ستتحرك قبل نهاية ولاية بوش، لوضع حد نهائي لهذا التخبط؟

خلاصة ما أعلنه بوش أخيراً لم تكن خطة استراتيجية، بل خطة لاستمرار التخبط.
"الخليج"

التعليقات