31/10/2010 - 11:02

"التنويريّون الجدد" في مواجهة الأصوليّات الإسلاميّة../ عثمان تزغارت*

منذ الربع الثاني من القرن التاسع عشر، شهد العالم العربي والإسلامي، موجات وأجيالاً متتالية من الحركات الفكرية والتيّارات الدينية التي تنادي بالتنوير والإصلاح، لكنّها جميعاً فشلت في تحقيق النقلة المرجوّة على صعيد تجديد الفكر الديني وتحديثه، بما من شأنه أن يجسّد تطلّعات المجتمعات العربيّة - الإسلامية نحو العصرنة.

تكفي نظرة سريعة إلى واقع حال البلاد الإسلامية اليوم، للوقوف على حجم هذا الفشل. فالفكر الديني يشهد سطوة غير مسبوقة للأصوليّات الراديكاليّة التي تحجب أي اجتهاد إصلاحي وراء زوابع التكفير وأدخنة الإرهاب، بينما انهارت أوهام التحديث والإنماء التي رفعها العديد من «الأنظمة الوطنية» ذات التوجّه القومي أو التقدمي، والتي قامت في أعقاب جلاء الاستعمار، ليتكشّف بعد نصف قرن من التخبّط والخيبات والإخفاقات، أنّ تلك الأنظمة لم توسِّس إلا للشموليّة والتسلّط والفساد.

أما النخب الثقافية، فأغلبها طرحت جانباً قيم الحوار والمناظرة الفكرية التعدّدية، وغرقت في «حرب خنادق» كاريكاتورية. فريق منها يحتمي بالغرب وينظر إليه بوصفه «المُنقذ» الذي يمتلك حلّاً سحرياً كفيلاً بأن يحقّق أحلام هذه النخب في الحداثة والعصرنة، فيما غالبية شعوبها ترزح تحت الفقر والأميّة والقهر. وفريق آخر، ينظر بعكس هؤلاء إلى الغرب بوصفه شيطاناً مطلقاً، معتبراً إيّاه مصدراً لكلّ الشرور والآفات التي تصيب العالم الإسلامي، ومغفلاً العوامل الداخلية المتعدّدة التي تكرّس الانقسام والفُرقة والتخلّف، وتخلق أنواعاً جديدة من «القابليّة للاستعمار»، فكرياً واقتصادياً وسياسياً.

ظلّ هذا الطابع الإشكالي في العلاقة مع «الآخر» الغربي ملازماً لحركات التنوير الإسلامي في مختلف مراحلها، بل كوّن أحد مكامن الخلل الرئيسية في مساعيها الإصلاحية. ولعلّ ذلك يتلخّص بوضوح في التباين الفاقع بين زيارتين مفرقيتين قام بهما إلى الغرب مفكّران إسلاميّان بارزان، هما رفاعة الطهطاوي وسيّد قطب، حيث عاد كل واحد منهما بانطباع مناقض جذرياً للآخر.

تعود الزيارة الأولى إلى عام 1826، حين وصل إلى باريس طالب أزهري اسمه رفاعة الطهطاوي، سيصبح لاحقاً بمثابة «الأب - المؤسّس» الذي ستخرج من معطفه أجيال من دعاة الفكر التنويري. اندرجت تلك الرحلة ضمن بعثة خاصّة أرسلها حاكم مصر محمد علي باشا إلى الديار الفرنسية، التي كان يُنظر إليها آنذاك - في أعقاب حملة بونابرت في مصر - بوصفها عاصمة الحضارة الغربية ورمز تطوّرها. كانت المهمّة التي أنيطت بتلك البعثة السعي لاستكشاف سرّ تقدّم الغرب وتفوّقه العلمي والصناعي.

بعدما أقام في باريس لخمس سنوات، عاد الطهطاوي إلى القاهرة في عام 1831 بانطباع في غاية الانبهار بالأنموذج الثقافي والفكري الغربي الذي وجده بمثابة «إمبراطورية العقل»، ولخّص ذلك في كتابه الشهير: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».

أما الزيارة الثانية، فقد تمّت في عام 1948. لم تكن وجهتها باريس بل نيويورك. وهي لم تنصبّ في رصد إيجابيات الغرب وأسرار تقدّمه، بل في استشراف شروره ومخاطره على الإسلام والمسلمين، كما رآها صاحب هذه الزيارة سيّد قطب، ورواها لاحقاً في مذكّراته التي كتبها في السجن، قبيل إعدامه، عام 1966.

من خلال مشاهداته في نيويورك، حيث أقام عامين لغرض الدارسة، تكوّنت لدى سيّد قطب قناعة راسخة بأن الديار الأميركيّة أصبحت هي - لا أوروبا - العاصمة السياسية والاقتصادية والثقافية للحضارة الغربية، بكل ما تحمله - في منظوره - من شرور ومخاطر تتهدّد الأخلاق والقيم الإسلامية.

عاد قطب إلى مصر بمواقف شديدة الراديكالية، منادياً بالعودة إلى الأصول السلفية الإسلامية، والكفّ عن محاولة تقليد الغرب، ذلك أنه رأى في الأنانية الفردانية السائدة في الغرب، تهديداً للقيم الإسلامية القائمة على التمسك بـ«الجماعة»، وأصابه الذعر من التحرّر الأخلاقي والجنسي للنساء الغربيات، وما يمكن أن يسبّب من مخاطر على أخلاق الشباب المسلم. أما «الفكر المادي»ّ، و«العقلانية النقدية» اللذان يشكّلان المرتكزات الأساسية للحضارة الغربية، فقد رأى فيهما أكبر خطر معاصر يهدّد «حصن الإيمان» الذي لا يمكن أن تقوم للمسلمين قائمة، إذا تم التفريط بذرّة منه.

ولا مبالغة في القول، بأنّ تلك الزيارة كانت بمثابة اللحظة المفصلية التي أسّست للقطيعة الصِدامية بين الحركات الأصولية الإسلامية والغرب، وذلك قبل أكثر من نصف قرن على اصطدام طائرات انتحاريّي «القاعدة» ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك.

الهوّة الفكرية السحيقة التي فصلت بين تلك الزيارتين (زيارة الطهطاوي إلى باريس، وزيارة سيد قطب إلى نيويورك)، لم تنشأ جزافاً. فالنهضة التي أسّس لها الطهطاوي وجيل التنويريّين الأوائل الذين عاصروه، وتتلمذوا على فكره، أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وعبد الحميد بن باديس، شرعت بإحداث ثورة من الإصلاحات العميقة كانت مؤهّلة، من دون أدنى شك، لو كُتب لها أن تستمر وتتعمّق، لوضع العالم العربي والإسلامي على أبواب ما يصبو إليه من حداثة وعصرنة.

لكن ذلك الجهد التنويري، الذي تشكّل على مدى قرن وربع قرن من الزمن، اصطدم في مطلع خمسينيات القرن العشرين بهزّة شديدة نشأت في خضمّ حركات التحرر الوطنية والأنظمة «التقدّمية» التي تمخّضت عنها بعد جلاء الاستعمار، والتي حاولت إحداث قطيعة جذريّة مع الفكر الديني، من منطلق الخلفيات الفكرية القومية أو العلمانية.

رأى جيل التنويريّين الأوائل أنفسهم، رغم النظرة الانبهارية التي اتّسم بها أقطابه تجاه الحداثة الغربية، مفكّرين مسلمين وحداثيّين في آن. ورأى هؤلاء أنّ ما ينادون به من تنوير وإصلاح يجب ألّا يتناقض أو يتصادم مع المعتقدات الدينية. فالإيمان برأيهم لا يتنافى مع شرعيّة تطلّع المجتمعات المسلمة نحو الحداثة. من هذا المنطلق، اعتبروا أنّ احترام المعتقدات الدينية لمجتمعاتهم، هو السقف الذي لا يجوز لمساعي التنوير والتحديث أن تتجاوزه.

غير أنّ مفكّري الجيل الثاني من دُعاة العصرنة الذي وُلد في خضمّ حركات التحرّر الوطنيّة، لم يلتزموا هذا السقف، بل بالعكس، حاولوا أن يفرضوا على المجتمعات العربية - الإسلامية، بقرار فوقي، إصلاحات ثقافية واجتماعية راديكالية، تحت شعار التقدمية.

وكان المنطلق في ذلك، أن العصرنة والتحديث، يقتضيان قطيعة جذرية مع الفكر الديني والتقاليد الاجتماعية المحافظة. لذا اتّسمت توجّهات هذه الموجة التنويرية الثانية بطابع «العلمانيّة النضاليّة» في شكلها المناهض للدين. وكان أبرز أقطابها، كمال أتاتورك في تركيا، ورضا شاه في إيران، والحبيب بورقيبة في المغرب العربي.

المفارقة أنّ هذه الموجة من التنوير العلماني هي التي نظّرت لبروز الأنظمة السياسية ذات التوجه الفكري الأحاديّ التي تولّت الحكم أو استولت عليه في غالبية الدول الإسلامية التي خرجت من نير الاستعمار. وحصل ذلك إمّا من طريق الانقلابات العسكرية، أو بفضل «الشرعية الثورية» التي اكتسبها أقطاب تلك الأنظمة من خلال تزعّمهم لحروب التحرير.

تلك الأنظمة عُدّت - في منظور زعمائها السياسيين ومنظّريها الفكريّين - قوى تقدّمية وطليعيّة مهمّتها تحديث المجتمعات المسلمة التي كان يُنظَر إليها بوصفها رجعية ومتخلّفة، الشيء الذي شرّع الأبواب أمام رؤى تسلّطية أجازت لنفسها احتكار العقل والحداثة، وتخوين كل صوت مغاير، مشيرة إلى أن أيّ رأي يخالفها لا يمكن أن يكون سوى عميل للإمبريالية والرجعية والاستعمار الجديد.

وبذلك، أصبح الخطاب التحديثي (ويا لها من مفارقة)، مؤسِّساً للتسلّط السياسي والأحادية الفكرية، بدل أن يكون بوّابة نحو آفاق الحرية والتعدّد والديموقراطية.

إلّا أنّ الإنصاف يقتضي هنا التذكير بأنّ هذه النزعة التسلّطية التي أجهضت مساعي التنوير والتحديث العربية، لم تكن وليدة خمسينيات القرن العشرين، بل تمتدّ جذورها إلى بدايات حركة النهضة، وإلى رفاعة الطهطاوي نفسه. فرحلته إلى باريس، ورغم كلّ ما أثمرته من مساعٍ وجهود تنويرية، كانت في الأصل نابعة من رغبة الحاكم، ومتوقّفة على هواه الشخصي، ولم تكن مستندة إلى «إرادة شعبية» تعكس تطلعات غالبية المجتمع.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا الأمر جعل الطهطاوي، رغم الشهرة والمكانة الرياديّة التي اكتسبها، يتعرّض للتهميش ويتمّ إبعاده إلى السودان، بمجرّد أن توفّي وليّ نعمته محمد علي باشا، عام 1848، وحلّ مكانه حاكم آخر محافظ، هو عباس باشا. ومنذ ذلك التاريخ، بقي الطهطاوي وحيداً ومعزولاً في السودان، لمدّة 5 سنوات، عمل خلالها معلّماً بسيطاً في مدرسة ابتدائية، ولم يعد إلى مصر إلا بعد وفاة عباس باشا، سنة 1854، حيث أُعيد له الاعتبار، واستأنف جهوده التنويريّة بمباركة من حاكم مصر الجديد إسماعيل باشا، الذي أوكل إليه مهمّة تحديث مناهج التدريس.

هذا الخلل الناجم عن إدراج مساعي التنوير والتحديث ضمن إرادة فوقية مرتبطة بهوى الحاكم، بدل أن تنخرط ضمن تطلّع جماعي نابع من عموم المجتمع وغالبية الشعب، جعلها تفتقد للتجذّر الشعبي الذي لا غنى عنه لتحويلها إلى حركة تحديثيّة وتنمويّة ذات مفعول حقيقي ومستديم في المجتمع. وحصل ذلك وفقاً للآليات الحديثة للتنمية، بوصفها جهداً اجتماعياً ذا منحى أفقي، يعمل على تجنيد عموم المواطنين وتوعيتهم، وإشراكهم في مساعي التحديث، كي يتسنّى لهم الانطلاق بجهود العصرنة من أسفل هرم القاعدة الشعبية، ثم صعود أدراج السلَّم الهرمي للمجتمع والدولة، خطوة فخطوة.

أما محاولات وأوهام فرض العصرنة بشكل فوقي أو ربطها بقرار سياسي مركزي، فإنها لم تكن عديمة الجدوى فحسب، بل جاءت نتائجها عكسية تماماً. فهي منحت الشرعية لتسلّط الحاكم بوصفه «مستبدّاً متنوّراً»، وأجازت له مصادرة إرادة الغالبية الشعبية، بحجّة محاربة الرجعية وإخراج البلاد من التخلّف.

وفضلاً عن ذلك، فإن هذه المقاربات الفوقية اختزلت جهود التحديث والتنوير، منذ خمسينيات القرن الماضي، في مجرّد محاولة اللحاق بركب الغرب من حيث التقدّم الصناعيّ والتقنيّ، مهمّشةً المسارات والسياقات السياسية والفكرية التي يجب أن تواكب ذلك، لتأطير الآليات التنموية الكفيلة بتعميق هذا التحديث وضمان تجذّره في المجتمع في شكل قيم ومكتسبات راسخة، بدلاً من أن يبقى مجرد توجّهات وقرارات مفروضة عنوة من أعلى.

إنّ هذه التجارب التحديثيّة الخاطئة، أعطت الشرعية لاحقاً للأصوليّات الإسلامية الراديكالية، التي استغلّت قصور الأنظمة القومية والعلمانية وإخفاقاتها في مساعي التحديث والعصرنة، متّخذة إيّاها حججاً للمناداة بالعودة إلى الأصول السلفية، واتخاذها ملاذاً في مواجهة تهديدات الحداثة التي صار يُنظر إليها بوصفها مظهراً من مظاهر «الغزو الثقافي» الغربي.

حيال هذا المدّ الأصولي المعادي للحداثة، وفي مواجهة ردّته الفكرية المتّسمة بالمغالاة والظلامية، نشهد بروز جيل من «التنويريّين الجدد»، يحاول أن يشقّ طريقه بهدوء، وسط ضجيج الأصوليات التكفيرية المتطرّفة، من أجل إعادة إحياء صوت العقل والاعتدال في الفكر الإسلامي. ولعلّ الميزة الأساسية في فكر هذا الجيل التنويري الجديد، أنه تخلّص من تلك النظرة الانبهارية والتمجيديّة التي كان ينظر بها جيل الطهطاوي إلى الغرب، بوصفه تجسيداً لـ«إمبراطورية العقل».
من الملاحَظ أنّ غالبية أبناء هذا الجيل من «التنويريين الجدد»، درسوا في الجامعات الغربية، وعاشوا أو لا يزالون، حتّى بشكل مؤقّت أو دائم، في الغرب، ويستفيدون من معايشتهم لواقع الحياة الغربيّة لإخضاعه إلى التمحيص والتحليل، وفقاً لأدوات «الفكر النقدي» الذي تعلموه من هذا الغرب ذاته.

لا شكّ أن هؤلاء «التنويريّين الجدد»، من أمثال محمد أركون (جزائري مقيم في فرنسا)، وعبد الكريم سوروش (إيراني مقيم في الولايات المتّحدة)، وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد (مصر)، ومحمد طالبي ويوسف صدّيق (تونس)، وفريد إيساك وإبراهيم موسى (جنوب أفريقيا)، وغيرهم، حقّقوا منجزات فكرية هامّة ومتعدّدة. ويمكن القول إنّ أبرزها اتّباع هذه النظرة النقدية للغرب، لا بوصفه «إمبراطورية العقل» المطلقة، بل لأنه نسيج حضاري واجتماعي، له أيضاً مرجعياته الدينية وخلفيّاته الميتافيزيقية النابعة من المتخيّل الثقافي المسيحي - اليهودي.

وأتاح هذا التطوّر لهذا الجيل التنويري الجديد، أن يتبيّن أن «سلطة العقل» السائدة في الغرب، ليست قوّة دوغمائيّة تلغي كل ما سواها، كما كان يعتقد جيل الطهطاوي، بل هي محصّلة توفيقيّة لأفكار وقيم ومعتقدات متعدّدة تتعايش وتتفاعل ضمن السقف المرجعي للفكر النقدي المتمثّل في الاحتكام في كل شيء - وقبل كل شيء - إلى التحليل العقلي والتمحيص المنطقي، وفقاً لقواعد النقاش التعدّدي الحرّ، الذي يثمّن الرأي والرأي الآخر، ولا يعتبر الموقف المختلف أو المعارض تهديداً لـ«مكاسب قومية» أو خطراً يتهدّد «منجزات وطنية»، بل يرى إليه من منظور فلسفي يرى الاختلاف في الرأي مصدر ثراء لا فُرقة، ويرى في الحرية ضمانة للحداثة، لا خطراً عليها. وهنا نرى أنّه بذلك وحده، يتكرّس الفكر الديموقراطي بوصفه أساساً ضمانة لحماية حقوق الأقليات، لا مجرّد وسيلة لبسط نفوذ الغالبية، وإسباغ الشرعية الشعبية عليها، لتبرير هيمنتها وتسلّطها.

من هنا، خلُص هذا الجيل من «التنويريّين الجدد»، إلى أن سرّ تقدّم الغرب، الذي أُرسل الطهطاوي إلى باريس لمحاولة استكشافه قبل 180 عاماً، لا يكمن في التقدّم العلمي أو التفوّق الصناعي، بل في آليات هذا «الفكر النقدي» الذي يضبط إيقاع الحياة الغربية على كل الصُّعد.

وهذه الخلاصة هي التي يمكن الانطلاق منها، على صعيد العالم الإسلامي، لتأسيس قناعة فكرية جديدة، تفيد بأن الحداثة لا تأتي باستيراد التكنولوجيا أو نقلها، ولا بمحاولة مضاهاة الغرب واستنساخ تجاربه الاجتماعية والسياسية كنماذج أو قوالب نمطية جاهزة. فأداة التحديث الحقيقيّة إنما تكمن في سلاح المعرفة الذي يتيح للفكر التنويري الإسلامي أن يستعير مناهج «الفكر النقدي» الغربي، لا من أجل تبنّيها أو تقليدها بشكل إيديولوجي أو دوغمائي، بل لاستعمالها كأدوات بحث لتأصيل الحداثة إسلامياً، عبر تجديد الفكر الديني وتنويره بالعقل، ليصبح مفتاحاً لفهم روح العصر والتفاعل معه، بدل أن يبقى إرثاً متحجّراً يرزح تحت نير الرؤى السلفية الظلامية التي تعوق تطلّعات الشعوب الإسلامية نحو الحرية والانعتاق.

في هذا السياق، يخوض هذا الجيل من «التنويريّين الجدد»، بعيداً عن الأضواء، معركة صامتة، لكنّها مصيرية وحاسمة، وذلك من خلال جهوده الأكاديمية وأبحاثه الفكرية المجدّدة. وكثيراً ما لا يكتشف الجمهور الواسع رموز هذا الجيل، إلّا من خلال بعض المعارك الهامشية التي تُثار ضدّهم، مثل التّهم التكفيرية التي واجهت محمد أركون، في ثمانينيات القرن الماضي، في بلده الجزائر، أو قضية التفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته في مصر، بعد ذلك بنحو عقد من الزمن.

وعلى الرغم من العقبات الكثيرة التي تعترض جهود هذا الجيل التنويري الجديد، وتعوق انتشار فكره وأبحاثه، إلا أنّه سيأتي - لا محالة - اليوم الذي ينقشع فيه غبار الشطط التكفيري، ليُفتَح المجال أمام اكتشاف المنجزات الفكرية لهؤلاء «التنويريّين الجدد» وتثمينها، بما من شأنه التأسيس لنهضة إصلاحية مؤهّلة لتجديد الفكر الإسلامي وتحديثه في العمق.

ويعود السبب في ذلك، إلى أنّ الإسهامات الفكرية المجدّدة التي حقّقها هذا الجيل التنويري، ومنها على سبيل المثال، أبحاث أركون المنصبّة على تحليل ما هو «مفكَّر به»، وما هو «محظور»، و«ما يُغفل التفكير به أو حظره» في الفكر الإسلامي، واجتهادات سوروش الرائدة في مجال دراسة وتحليل عوامل «تمدّد وانكماش المعرفة الدينية»... هذه الإسهامات، وغيرها، هي أدوات بحث ثمينة لتبيان الأسباب الكامنة وراء ازدهار التشدّد والظلامية على حساب التنوير والعقل، أو بالعكس، تبعاً لخصوصيات كل مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي.

وإذا كانت المراجع والنصوص الدينية ثابتة وغير قابلة للتغيير، فإن المعارف التي تشكّل مفاتيح الفكر الإسلامي ليست جامدة أو ثابتة، وتطوّرها رهن بالسياق التاريخي المرتبط بطبيعة كل مجتمع إسلامي، وبالخصوصيات الفكرية والثقافية لكل حقبة من الحقب الإسلامية. وهو الشيء الذي يجعل تجديد هذا الفكر الإسلامي أمراً مستعصياً، ما لم يُخضَع للدراسة والنقد، وفقاً لمناهج البحث العلمي الحديث، كأيِّ مادّة فكرية أو تاريخيّة أخرى في مجال العلوم الإنسانية.

هنا بالذات، تكمن فرادة إسهامات هذا الجيل من «التنويريّين الجدد»؛ ذلك أنهم، وإن كانوا يشكّلون امتداداً فكرياً لإصلاحيّي «عصر النهضة»، إلّا أنّهم يسلكون مناهج بحثية معاكسة تماماً للتجارب التي عرفها الطهطاوي وأبناء جيله. علماء «جيل النهضة» وُلدوا وتربّوا في بيئة إسلامية، وتلقّوا تعليماً دينياً تقليدياً، ثم أُتيحت لهم فرص الانتداب للدراسة في الغرب، فحاولوا تطعيم فكرهم بروح الحداثة الغربية التي احتكّوا بها خلال إقامتهم في أوروبا. أما أبناء هذا الجيل من «التنويريّين الجدد»، سواء وُلدوا في ديار الإسلام أو في الغرب، فإنهم جميعاً نشأوا في بيئات علمانية، وتلقّوا تعليماً غير ديني خوّلهم التخصّص في مختلف حقول العلوم الإنسانية.

وتخصّصهم هذا هو الذي قادهم إلى اكتشاف الفكر الإسلامي والاهتمام بدراسته ونقده، عبر إخضاعه لأدوات البحث العلمي الحديث، الأمر الذي يُعدّ سابقة علمية لا مثيل لها في تاريخ الفكر الإسلامي.
"الأخبار"

التعليقات