31/10/2010 - 11:02

الدور الروسي المُتَجَدِّد../ د.أسعد أبو خليل*

الدور الروسي المُتَجَدِّد../ د.أسعد أبو خليل*
بكَّر مُعلِّقون عرب في الترحيب بالدور الروسي المتجدد في العالم (؟). وكالعادة، نَشطّ في التحليل والتهليل، وهما يتزاوجان عند تدفّق العاطفة. وروسيا وتصريحاتها العنجهيّة (المُتأثِّرة والمستفيدة من عنجهيَّة الامبراطوريّة الأميركية) تدغدغ أحلاماً عربيّة وتشوّش رؤية طبيعة العلاقات الدوليّة وحقيقة وضع القوة العظمى المتفرِّدة في العالم وفي حكمه

انتظار المُخَلِّص سمةٌ من سِمات الثقافة السياسيّة العربية، وهي ليست، كما يودُّ الاستشراق الغربي أن يُروِّج، نتاجَ خلطةٍ جينيّة خاصة بالعرب بل نتيجة سياسة تتقصدها الأنظمة والأحزاب العربيّة لزرع الاتكاليّة وفكر الجبريّة في أوساط العرب.

بدأت الخطّة أثناء ثورة 1936 في فلسطين، حتى لا نتحدث عن حقبة «الثورة العربيّة» التي أرادها الهاشميّون أن تكون صغرى، صغرى، فكانت. أدوات الاستعمار البريطاني بين الأنظمة العربيّة أرادت أن تحمي السيِّد المُستعمِر من غضب جماهير فلسطين. فرضت ضغوطاً هائلة على ثوّار فلسطين، وَوَعدتهم بمخلِّص عربي. شكري القوتلي، كما روى موسى العلمي في مذكّراته، وعدهم بقنبلة ذريّة تَوَصَّل إلى اكتشافِها حدّادٌ دمشقي (ماهر، طبعاً، ولو كان لبنانيّاً لاحتفت به جريدة «النهار») في سوق الحميديّة. كانت الأنظمة العربية عازمةً على بثّ فكر التبعيّة والانتظار (الانتظار على طريقة غودو) حتى تتنصّل هي من مسؤوليّاتِها التاريخيّة، وخصوصاً في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينيّة. والمُخلِّص يتغيَّر بتَغيُّر الحقب التاريخيّة وتعاقبها. كان المُخلِّص هو فوزي القاوقجي مرّةً ثم الملك عبد الله، ثم الحاج أمين، ثم جمال عبد الناصر. ومن المُحزن أن هناك من ظنّ أن صدام حسين هو مُخلّص أيضاً. أما المحور السعودي ـ الأميركي، فكان يُروِّج لمُخلِّص من نوعٍ آخر: حلف بغداد أو القوات الأميركية، لا فرق، وفي الثمانينيات روَّج لصدام حسين ولبن لادن في الحرب في أفغانستان.

لكن الأخطر أن تسود في أوساط الرأي العام أفكارٌ وأوهامٌ عن مُخلِّص، كما حدث للجماهير العربية مع جمال عبد الناصر. والأخطر أن جهاز الإعلام الناصري قَبِلَ هذا الإيمان الأعمى بقيادة عبد الناصر، وخصوصاً في ما يتعلّق بتحرير فلسطين، مع علمهم بأن الجيش المصري غير مهيّأ، ومع علمِهم أن «المشير» (استنبطوا ترجمة لكلمة «ماريشال» من أجله، يا لبؤس الأمة) مشغولٌ بجلساتِ الكيف. والإحباط العربي الذي أعقب هزيمة 1967 (يستحقّ من طلعَ علينا بمصطلح «النكسة» أن يُحاكَم بتهمة قلّة الذوق وانعدام الشعور على أقلّ تقدير، وهناك من يردّ الكلمة إلى مقالة لمحسن إبراهيم، لكن سامي شرف أَعْلَم) كان في حجم الإيمان المُطلق بقدرة عبد الناصر على امتطاء صهوة جواد أبيض للبدء بعملية التحرير والتوحيد.

وفكر الخلاص ذو جذور دينيّة، غير ثوريّة البتّة لأنها تساهم في التخدير الشعبي. وكانت الصهوينيّة قد مثَّلت فلسفياً ثورةً على الفكر اليهودي التقليدي الذي علَّقَ العمل (السياسي) بانتظار المُخلِّص الذي سيبني الهيكل. وكان هناك في أوساط اليهود من عارض الصهيونيّة لرفضِهم فكرة الدولة اليهودية قبل ظهور المُخلِّص. ويمكن النظر إلى فكر الخميني بصورة مشابهة، لأنه عارض فكر الاستكانة السياسيّة (ويُمثِّله خيرَ تمثيل فقيه الاحتلال الأميركي آية الله السيستاني، الذي هادَنَ صدام) الذي مثَّل الفكرَ الشيعي السياسي التقليدي الذي علَّق (بصورة عامة وإن رفضَ البعضُ الفكرة) العملَ السياسيَّ بانتظارِ ظهورِ المهدي المنتظر. وحاول الخميني أن يجمعَ بين الفكر الشيعي التقليدي ونظريَّتِه بشأن ولاية الفقيه (وهي غير نظريّة ولاية ابن الفقيه، أي إبراهيم شمس الدين، التي يؤمن بها فريق 14 آذار) عندما جعل من الفقيه نائباً عن المهدي وعندما نظَّر لفكرة التعجيل في عودة المهدي. هنا كان مكمن الثوريّة في فكره، مع أنه دشّنَ لولادة دولة دينيّة متسلِّطة تحتكرُ الفضيلة، أو ادعاءها، (والحكم). أراد الخميني أن يروِّج لفكرة المُخلِّص على الأرض، بدلاً من انتظاره من عالم الغيب. (لكن من المشكوك فيه أن «الخلاص» تحقق في إيران، غير أن هذا موضوع آخر).

نحن في العالم العربي عانينا (وخصوصاً في أوساط اليسار) من ثقل فكر المُخلِّص السوفياتي. وانتشى اليسارُ العربي عندما ظهر يوري أندروبوف على رأس الاتحاد السوفياتي في سنوات احتضاره، ونتذكّر تنظيراتٍ لكبار في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين، اللتيْن قلَّما تتفقان في رأي، في تحضير الجماهير لـ«طحشة» سوفياتية في الشرق الأوسط إلى جانب الحق العربي. كان يُقال إن أندروبوف سيغيِّر المعادلات، وإن الدعم السوفياتي للعرب سيقضي بالضربة القاضية على إسرائيل.

وكان في اعتماد عبد الناصر (الدبلوماسي والسياسي) على الاتحاد السوفياتي موقفَ ضعفٍ زادَ الضعف العربي ضعفاً. كُتبَ الكثير عن موقف الاتحاد السوفياتي عشيّة حرب 67، ولكن يجب أن يُكتب أكثر عن موقف الاتحاد السوفياتي المتخاذِل على مرِّ العقود، منذ تقسيم أرض فلسطين العزيزة إلى الحروب العربية ـ الإسرائيليّة المُتعاقِبة.

لم يوازِ الاتحاد السوفياتي يوماً الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل في «دعمه» للعرب. ولم يكن الاتحاد السوفياتي عازماً على دعم موقف تحرير فلسطين، لأنه أصرَّ على الاعتراف بدولة إسرائيل، وكان مقتِّراً في الدعم العسكري الذي لم يشملْ أكثر الأسلحة تطوراً. كان الاتحاد السوفياتي يبيعنا بعضَ الأسلحة الدفاعيّة التي لم تكنْ في وارد تغيير الميزان العسكري بصورة نوعيّة، وكان في الوقت نفسه يبيعنا دفقاً من البيانات والتصريحات والكراريس التي تتحدّث باستفاضة عن الصداقة بين الشعب السوفياتي والعرب (يبقى أن نقول إن استطلاعات الرأي العالميّة اليوم تؤكد أن التعاطف مع شعب فلسطين، لا مع إسرائيل، يسود في كل دول العالم، بما فيها ألمانيا والدنمارك، باستثناء أميركا وإسرائيل و... روسيا).

قبل أن يسيلَ لُعابُنا

والسياسة الروسية بعد الحرب الباردة استجدت رضى إسرائيل، ومثّل المهاجرون الروس في دولة العدو «لوبي» للتقريب بين الدولتيْن. إلا أن الثقافة السياسية العربية لا تزال تعاني عقدة المُخلِّص التي تأتي على حساب القدرة الذاتيّة والاعتماد على الذات، خلافاً لمصلحة الأنظمة وخلافاً لفكر الاستكانة السياسية الديني (أو العلماني أحياناً). لكن الثقافة السياسيّة العربيّة المعادية للمخطط الأميركي ـ الإسرائيلي ــ السعودي (التحالف السعودي الإسرائيلي لم يعدْ سرّ الأسرار: فعادل درويش، المعلِّق في الإعلام السعودي، أسّس للوبي إسرائيلي للدفاع عن مصالح الدعاية الإسرائيليّة في الصحافة البريطانية، وطارق الحميد، رئيس تحرير صحيفة الأمير سلمان، حذّرَ اللبنانيّين من أن حزب الله هو أكثر خطورة وضرراً على لبنان من إسرائيل) لا تتوقَّف عن توقّع بروز قوة عظمى جديدة، تقومُ أول ما تقوم، وفق مفهوم الثقافة المذكورة، بتحرير فلسطين واستعادة اللواء السليب كخطوة إضافية. والطريف أن التوقّع يتغيَّر من يوم إلى آخر. فعندما اصطدمت طائرة تجسّس أميركيّة بالسلاح الجوي الصيني، تسارعت التحليلات العربية لتركِّز في توقّع ظهور الصين كالمنافس الحتمي للإمبريالية الأميركية. كدنا أن نبيع الكتاب الأحمر مرة أخرى في الشوارع والساحات. ولكن من الضروري وضع ما حدث في جورجيا أخيراً في سياقه المنطقي والعالمي.

من المعلوم أن سياسية الولايات المتحدة منذ صدور وثيقة «استراتيجيا الأمن القومي للولايات المتحدة» في أيلول 2002 (وهي موجودة على موقع الإنترنت للبيت الأبيض وتحمل بصمات كوندوليزا رايس التي كانت تشغل منصب مستشارة الأمن القومي للرئيس الأميركي) كانت صريحةً في تعريف موقف الولايات المتحدة الرسمي على صعيد العلاقات الدولية وتوزّع القوى العالمي، ومفاده أن الحكومة الأميركية ستمنع رسمياً وبالقوة أية محاولة من أية دولة لمنافسة الدور العالمي لأميركا حول العالم. طبعاً، المشيئة الأميركية التي لا تُرفض تعرَّضت للاهتزاز والتعثّر ربما (كما شرح جوزف ناي في كتابه عن «القوة الليِّنة» وفي كتابه قبله بعنوان «محكوم لها أن تتولى القيادة») لأن الإمبراطورية الأميركيّة اعتمدت بصورة حصريّة على القوّة المفرطة (وهذا ما عناه وزير الخارجية الفرنسي السابق فيدرين في نقده لـ«القوة الفائقة» للولايات المتحدة في حقبة الحرب الباردة). لكن قدرة الولايات المتحدة على منع بروز قوة عالمية منافِسة تخضع لشروط ومتغيِّرات لا طاقة للولايات المتحدة على التحكّم بها مهما بلغ شأوُها العسكري والتكنولوجي. وهذه الثقة بالنفس الإمبراطورية تعتريها السذاجة أو الغباء التاريخي، إذ إنه من المنطقي الافتراض أن كل الإمبراطوريات عبر التاريخ كانت تودّ لو أنها مَنعت بروزَ منافساتٍ إمبراطورية لها. الرغبة شيء والقدرة شيء آخر، والقدرة تعتمد على عناصر لا تكون دائماً حربيّة أو عسكرية. كما أن الإمبراطورية عندما تذوي وتخور قواها العظمى لا تعود في وارد المنع والحظر والفرض.

ولكن من المُبكِّر جداً الحديث عن نهاية محتومة للإمبراطورية الأميركية يوم الخميس المقبل، أو الجمعة على أبعدِ تقدير، كما نقرأ أحياناً في البيانات البعثيّة المنحى أو الأصوليّة الاتجاه (باستثناء لبنان حيث تتحالف الأصولية السلفيّة مع المحور السعودي ـ الإسرائيلي ـ الأميركي). صحيح أن هناك عناصر ماديّة تجتمع لتشير إلى أفول لهذه الإمبراطورية، لو استعملنا معاييرَ متنوِّعة لتحديد معالم الأفول. فنظرية ادوراد غبن (في كتابه عن سقوط الإمبراطورية الرومانية) أشارت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية بسبب زوال «الفضيلة المدنيّة»، كما سمّاها، وهذا يتقاطع مع تحليل العالم الاجتماعي الأميركي، روبرت بتنم، في كتابه «لَعِب البولنغ منفرداً» الذي أشار فيه إلى نقصان ما سماه فضيلة «رأس المال الاجتماعي» في المجتمع الأميركي المعاصر.

طبعاً هناك في أوساط اليسار وأوساط الفكر الأصولي الإسلامي (أو حتى في أوساط اليمين الأصولي المسيحي هنا) من يرى فساداً في جسم الإمبراطورية الأميركية منذ ولادتها ولأسباب مختلفة، أي مثل نظريّة أرنولد توينبي في أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانيّة. ويمكن إضافة نظريّة أنصار البيئة الجدُد (وهم غير أنصار حزب أكرم شهيّب الجديد الذي يُعنى بالأخضر واليابس)، وهم يتوقّعون انحدار الإمبراطورية الأميركية لأسباب محض بيئيّة، وخصوصاً أن المستهلك الأميركي يعطي نفسه حصّة من الاستهلاك تفوق نسبتَه من مُجمل سكّان العالم. وهناك من يؤكِّد (مثل المؤرخ الأميركي أرثر شلسنجر) أن التاريخ الأميركي يحتِّم اتجاه أميركا نحو الانعزال والتقوقع الداخلي، بعد مرحلة بوش غير المسبوقة في التدخل الخارجي. وسينعكس هذا الانعزال على منطقة الشرق الأوسط لما لاقته فيها الإمبراطورية الأميركية من خيبات وعقبات وفشل، رغم صمود السنيورة في منصبه، ورغم الاحتفاظ بالياس المرّ وزيراً للدفاع، ورغم صولات جهاز المعلومات.

لكن الحديث عن قرب ولادة إمبراطورية روسيّة جديدة أو مُتجدِّدة سابقٌ لأوانِه، وإن كان الحديثُ يدغدغُ غرورَ بوتين، ويُعزِّز آمال العرب المُنتظرين تدخلاً ما يزيح عن صدورهم ثقلَ الاجتياحاتِ الأميركيّة والإسرائيليّة المتواصلة. وهناك فارقٌ كبيرٌ بين امبرياليّة عالميّة وامبرياليّة إقليميّة أو محليّة (ومُصطلح الامبرياليّة جائزُ الاستعمال، ليس فقط بالمفهوم اللينيني بل من حيث قدرة قوة عظمى ما على فرض سيطرتِها السياسيّة والعسكريّة حول العالم من دون إحكام السيطرة المباشرة على الأراضي، كما في المفهوم الكلاسيكي، مع أن الولايات المتحدة تفعل الاثنيْن معاً، والقوات الأميركية منتشرة اليوم بصورة أو بأخرى في أكثر من 130 دولة حول العالم. تَعثّر حظ ثوار الأرز الذين (واللواتي حتى لا ننسى نايلة معوض وغنوة جلول الصادحة، فقط بعد اغتيال الحريري) كانوا يأملون في تدخل عسكري أميركي مباشر لإنقاذهم ولإسقاط نظام أو نظاميْن (لا إسرائيل لأنها في صفّهم اليوم، وهم يعملون ما في وسعهم منذ حرب تموز لإنقاذها من سلاح من يُعاديها في لبنان). وروسيا وإسرائيل تلعبان دوراً يقترب من سمات الامبريالية الإقليميّة (تدخَّلت إسرائيل في صراعات من المغرب وفي خطف بن بركة، إلى كسر شوكة الثورة في ظفار، إلى مجازر أيلول والحرب الأهلية في السودان. أما في لبنان فالأمر مُستتر، كما يريدوننا أن نظنّ) وروسيا تحاول اليوم أن تعبِّر عن طموحات إقليميّة محدودة في هذا الصدد، وهذه الطموحات الروسيّة دفاعيّة في طبيعتها (من وجهة النظر الروسيّة) ـ على الأقل إلى اليوم ـ بسبب هذا الاتّساع المطّرد لحلف الناتو النامي الذي يحاول أن يخفي نيّته بخنق القوة الروسية.

لكن ما حدثَ في جورجيا لم يكنْ بالضرورة نتيجة لخطة روسيّة مُحكمة، حتى لو كان هناك خطة روسية عسكرية موضوعة على الورق لاجتياح جورجيا. والرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي ـ نخشى أن تظن محطة «إل.بي.سي» أنه من بسكنتا إذا استعملنا كلمة ميخائيل في ترجمة اسمه ـ تسبَّب بهذه الأزمة دون أن يدري، وهناك في الصحافة الغربية من يعترف بذلك، مع أن الصحافة الأوروبية والأميركية كانت في تبنّيها لقضيّة الرئيس الجورجي (أو فؤاد السنيورة أو أبو مازن تلك البلاد ـــ لماذا لا ينضم وكلاء أميركا في المنطقة إلى حلف ينعقد في اجتماعاتٍ واحتفالاتٍ دوريّة؟ ألم يكن مشهد لقاء السنيورة مع المالكي أو مع أبو مازن في بيروت مؤثراً من الناحية العاطفيّة؟ أوّاه) عمياءَ في انحيازِها، مثل تغطيتها لثورة الأرز والبلّوط. ومنظمة «هيومن رايتس ووتش» كانت صريحة في سردها انتهاكات لحقوق الإنسان على يد طرفيْ الصراع هناك. وثمة من يرى أن الرئيس ساكاشفيلي (الذي حاز نسبة 96% من الأصوات في آخر انتخابات، أي إنه محبوب من شعبه مثل محبّة كوندوليزا من شعبه في أيام عزِّه) تقصّد الاستفزاز لاعتماده على وعود من كوندوليزا رايس قبل أسابيع فقط للوقوف إلى جانبه. لم يرسلوا له المدمِّرة كول. أي إن السنيورة حظي بما لم يحظَ به الرئيس الجورجي.

صحيحٌ أن ردة الفعل الروسية فاجأت الرئيس الجورجي، مثلما فاجأت ردة فعل حزب الله السنيورة ورفاقه في 7 أيار. فحلفاء أميركا ووكلاؤها لا يقرأون العناوين (والتصريحات) الأميركية بحذافيرها، كما أنهم يساوون بين الرغبة في الفعل والبيان السياسي، مع أن الدارس (أو الدارسة) للسياسة الخارجية الأميركية يرسم خطاً معكوساً: أي إن العلاقة بين كثرة التصريحات الأميركية المُتعاطِفة مع دولة ما يُمكن أن تعكسَ عدمَ الرغبة في التدخل العسكري، لا حتميّته. وهذا كان الدرس الذي فات ثوار الأرز في أكثر من محطة. ظنّوا أن وفرة التصريحات الأميركية عن سوريا، وعن إيران في ما بعد، تعبير عن خطة أميركية حتميّة للغزو (أو للتحرير، وفق نشرة «المستقبل السلفي» التي تغطّي أخبار التهديدات الإسرائيلية للبنان بصورة احتفالية، كما ينشر موقع إيلاف السعودي، الذي يجمع بين تسليع المرأة والإباحية السوقيّة، وبين تبنّي عقيدة بوش، تقارير تزهو بسلاح الجو الإسرائيلي) مع أنها كانت تعكس حيْرة أميركية، أو تأكيداً لانعدام خيار الحرب.

وروسيا أرادت أن تسجل نقاطاً في محيطها الإقليمي، من دون أن تكون بالضرورة مهتمَّة بتجدُّد دورِها العالمي. ولا تزال الولايات المتحدة قادرة على الإمساك بتلابيب روسيا من خلال الاقتصاد العالمي الذي تتحكّم به الولايات المتحدة أكثر من غيرها. ونظرية زبغنيو برجنسكي في التعاطي الأميركي مع روسيا تقوم على قدرة الولايات المتحدة على الحدّ من طموحات روسيا وحتى معاقبتِها عبر الضغط على زمرة أصحاب المليارات الروس الذين (مثل آل الحريري وآل سعود) لا يرغبون في إثارة غضب أميركا بسبب أخطبوطية مصالحهم الاقتصاديّة وتشعبها حول العالم.

ركَّزَ الإعلام العربي المُمانع (على ضعفه، وإن كان أكثر تعبيراً عن اتجاهات الرأي العام العربي وفقاً لاستطلاعات رأي منشورة مقارنة بإعلام آل سعود) على استقبال الرئيس الروسي لبشار الأسد. لكن الحكومة الروسية بعثت بإشاراتٍ متعدِّدة يجب أن تُؤخذ في مجملها من دون عزل الواحدة عن الأخرى. فحزب بوتين الحاكم أعلنَ عن فتح فرع له في إسرائيل في الأسبوع نفسه الذي استقبلت فيه روسيا الرئيس السوري. وفيما كان البعض في الإعلام العربي والإسرائيلي يتحدَّث عن صفقات أسلحة ضخمة بين سوريا وإسرائيل، كانت الحكومة الروسية تؤكد بصورة رسمية أن الحكومة الروسية لن تبيعَ سوريا إلا أسلحة دفاعية ووفق التزام موسكو «التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط» (وهذه العبارة تعني الحفاظ على تفوّق إسرائيل العسكري والتكنولوجي النوعي). كما أن الحكومة الروسية سارعت إلى الاتصال بالحكومة الإسرائيلية لتطمينها بعد صدور بعض الأصوات داخل روسيا التي عبَّرت عن غضبِها للتورّط الإسرائيلي العسكري والاستخباراتي داخل جورجيا (يشير كتاب رون سسكند الجديد «أسلوب العالم» إلى ضلوع الاستخبارات الإسرائيلية في جهاز حماية بناظير بوتو، قبل اغتيالِها طبعاً).

الكلام عن حرب باردة جديدة سابقٌ لأوانه، وإن كانت روسيا تخوض غمار فورة قوميّة شوفينيّة تطاول الأقليات الداخلية والجارة، مقابل فورة شوفينيّة جورجيّة يؤججّها بقصر نظر رئيس يعاني نشوة التحالف مع أميركا. وتقول تلميذة سابقة لي في رسالة لها من أوكرانيا إن خطاب الإعلام الروسي ينضحُ بالفاشية الصارخة هذه الأيام، وإن اللغة المُستعملة تهدف إلى إخافة المحلّة الإقليمية. وهذا الصعود الروسي المحدود لا يعني ولن يُترجم مناصرة فجائيّة للقضايا العربية (وهي غير القضايا التي يُروّج لها الإعلام السعودي المدفوع الذي تنتابه نوباتٌ من الهيجان انتشاءً بالمبادرة العربية البائسة التي طبَّلت لها أنظمة الممانعة والخنوع على حدّ سواء). وروسيا تستطيع أن تتفاوض مع أميركا على حساب ما يهمّنا من القضايا، كما فعل شيراك (الذي كانت صداقته مع رفيق الحريري بريئة من الهوى، يا محسنين ومحسنات) عندما تصالح مع بوش بعد حرب العراق.

ليست هذه دعوة للإحباط. ليس هذا الكلام من باب التيئيس الذي يملأ الإعلام العربي ولغاياتٍ لا تخفى، لا عن اللبيب ولا عن الأخرق. ولكن للضرورة أحكام: ومن الضرورة عدم التسويق للأوهام التي سرعان ما ستبدِّدُها الوقائع والأحداث. الصعود الروسي لا علاقة له بنا، وقد لا يكون مُحَدِّدا لمسار التنافس الكوني. قد تتكوّن قوة عظمى أخرى في مكان آخر من العالم، إن في الصين أو في الهند أو في أوروبا. من المبكِّر الجزم. لكن عناصر تكوّن القوة العظمى متنوِّعة: لا تتعلق فقط بالقوة الاقتصادية أو العسكرية أو الاثنتين مجتمِعتين. تتعلق أيضاً بالإرادة والطموح الامبريالي أو الهيمنة العالمية. هناك بوادر لبداية بناء بطيء للنفوذ الصيني في القارة الأفريقية مثلاً، ولكن ليس من دليل إلى نيّة للصين قريبة لاستفزاز أميركا. وتكنولوجيا التفوّق الأميركي العسكري لا تزال أكبر من الآلة الصينية والروسية بجيل أو جيليْن. لكن فكرة المُخلِّص الأجنبي القادم من وراء الأفق لا تزال مسيطرة على خيال الأدب العربي السياسي (المُعارض). لعلّ الفكرة تريح الأنظمة العربية وتُعزِّز نشر السراب في الأذهان. لكنها تنخرُ في نخاع الإرادة السياسية وتقضي على إرادة التغيير الذاتيّة، إلا إذا اتكلنا على دموع السنيورة لتحرير المزارع وفلسطين واللواء السليب. ابكِ يا سنيورة. ابكِ.
"الأخبار"

التعليقات