31/10/2010 - 11:02

الدولة كأعظم اختراع إنساني في التاريخ../ عبدالإله بلقزيز

الدولة كأعظم اختراع إنساني في التاريخ../ عبدالإله بلقزيز
لا تنشأ المجتمعات التاريخية إلا في كنف الدول، حيث لا سبيل للجماعات الاجتماعية لكي تتقدم وتنتج وتراكم وتنظم كيانها الداخلي إلا أن تتحول إلى جماعات سياسية تنشأ الدولة عن اجتماعها السياسي. تتفاوت الدول في درجة قيمتها وتطور نظمها بتفاوت مستوى التنظيم الذاتي للجماعات السياسية التي تكونها، وبتفاوت درجة نضج فكرة الدولة في وعي تلك الجماعات. كلما تمسكت جماعة في التاريخ بروابطها الأهلية العصبوية أي بما تسميه الانثروبولوجيا الحديثة بعلاقات القرابة ارتخت خيوط نسيجها السياسي الجامح وتضاءلت مكانة الدولة في حياتها الجمعية. وكلما تمسكت بهذا الجامع السياسي، تراجعت فرص انقسامها العصبوي الداخلي ورسخت الدولة في اجتماعها وتعمقت.

لا سبيل إلى أن يعيش مجتمع من دون دولة مهما كانت درجة التنظيم الذاتي لذلك المجتمع، بل إن بلوغ ذلك التنظيم الذاتي نفسه درجة من التطور والمتانة والتماسك لا يعني شيئاً آخر أكثر من أنه يقود إلى نشوء دولة. إن الترابط بين الجماعة والدولة هنا ليس مصادفة تاريخية ولا هو من مواريثها المتكرسة بقوة أحكام الزمن والعادة وإنما مأتاه معنى الدولة ذاته. فالدولة ليست مضافاً في تاريخ مجتمع، بل هي ماهيته التي من دونها لا يكون كذلك، أيْ مجتمعاً. وهي ماهيته لأنها مبدأ التنظيم الجمعي فيه: المبدأ المؤسس للمجتمع بالضرورة، أي الذي من دونه لا يكون المجتمع مجتمعاً بل فضاء فسيح لجماعات منفصلة عن بعضها. ثم إنها ماهيته لأنها عقله الذي يتحقق به وعيه بنفسه كمجتمع ملتحم، أي بالتالي مختلف عن غيره ومتمايز.

ولد المجتمع مرتين في تاريخ النوع الإنساني: مرة كمجتمع طبيعي التحم فيه الأفراد بروابط النسب والجوار، فقامت جماعات طبيعية كانت في سلم التطور دون المجتمع مرتبة لغياب مبدأ التنظيم الذاتي فيها (من دون أن يعني ذلك حكماً غياب أشكال بدائية أو ابتدائية من تقسيم العمل فيه). وولد مرة ثانية حيث قامت فيه الدولة، وتلك كانت ولادته الحقيقية كمجتمع، لأنه من خلالها فقط أمكنه أن يحقق تنظيمه الداخلي، ويقسم العمل فيه، ويوزع السلطة بين أفراده وفئاته، ويعبر عن نفسه وعن ماهيته، ويحمي كيانه الذاتي من خطر العدوان عليه، ويردع العدوان الداخلي بين جماعاته، ويفرض احترام إرادته من خلال التمييز بين حقوق الأفراد والجماعات وحقوق المجتمع ككل ومن خلال احترام فكرة الواجب. كانت الدولة ثورة في تاريخ المجتمع بمقدار ما كانت تأسيساً جيداً لمعنى المجتمع ولوجوده التاريخي ككيانية اجتماعية جديدة مسيطرة على ذاتها ومقررة لمصيرها. ثم قام من التاريخ دليل (متكرر) على أن تلك الثورة كانت تنتكس كلما دب الوهن في الدولة، أو استبدت بها أزمة، أو أصابها سقوط تحت قبضة عدوان من الخارج. كان المجتمع تلقائياً يغرق في الفوضى، أو تقوم فيه سلط أهلية متقاتلة تفرض شرائعها المتنابذة، أو يفقد سيادته على نفسه وعلى أرضه وثروته فيسقط تحت العبودية والتبعية لغيره.

من المسلم به أن الدولة مثلها مثل الدين والعائلة واللغة والقومية تتمتع بوجود قبلي سابق لوجود الأفراد والجماعات، حيث يخرج هؤلاء إلى الوجود ليجدوا الدولة ماثلة كأمر واقع موضوعي لم يختره أي منهم. وهي بهذا المعنى تنتمي إلى جملة التبني والمؤسسات القبلية الإكراهية على نحو وصف اميل دوركهايم لها. أي إلى جملة الوقائع والظواهر الاجتماعية الكبرى التي لا دخل للأفراد في تكوينها من جهة، والتي لا سبيل لهم إلى الحياة إلا من طريق الخضوع لسلطانها من جهة ثانية. وهذا صحيح من دون شك، ولكن بشرط ألا يعني ذلك أن الدولة مفروضة على المجتمع من خارجه أو أنها غير قابلة للتغيير أو للتعديل أو للإصلاح، أي للخضوع لسلطة المجتمع وإراداته. فإذا كانت الدولة سابقة للفرد في الوجود، فإن الدولة أيضاً من صنع الإنسان أو من صنع المجتمع وليست كياناً منزلاً من السماء. إن قهريتها، أي طابع سلطتها الإلزامي، ليست منفصلة عن إرادة المجتمع نفسه الذي لا ينتظم أمره إلا بوجود سلطة الإلزام تلك بوصفها تعبيراً عن النظام، وإلا فقدت الدولة مبرر وجودها وشرعية ذلك الوجود وفقد معها المجتمع كينونته كمجتمع منظم وسيد. وهكذا، حين تمارس الدولة تلك السلطة الإلزامية التي تفرض الخضوع للقانون، تمارسها باسم المجتمع وتمثيلاً لإرادته. وقد تقتضي إرادته إحداث تغيير أو تعديل في قواعد تلك السلطة الإلزامية، فيحدث. وحين يحدث، يكون الناس قد مارسوا دورهم في إعادة تكوين الدولة بحرية، وعلى المثال الذي يشاؤون.

لا يستقيم إدراك هذه الجدلية بين الإلزام والإرادة، بين الخضوع والحرية، إلا متى أقام المرء في وعيه التمييز الضروري بين الدولة والسلطة وكف عن اختزال الدولة في سلطة أو النظر إليها بوصفها سلطة فحسب. نعم، الدولة سلطة أو تمتلك سلطة (سلطة الدولة)، لكنها تمارسها باسم المجتمع وعلى مقتضى القانون العام الحاكم. إذا حصل وسخرت مجموعة سياسية حاكمة السلطة لمصلحتها أو لمصلحة فئة أو طبقة، فليس الخلل في الدولة ككيان معبر عن الجماعة السياسية (الوطنية أو القومية)، وإنما في نخبة سياسية اعتدت على الحق العام وعلى الدولة نفسها. الدولة بطبيعتها نصاب تمثيلي مجرد ومحايد، وهي تطابق الأمة وتعبر عن كيانيتها السياسية والاجتماعية. أما سلطتها، فمحط منافسة سياسية بين الفئات والجماعات والأحزاب: تتداولها، وتتغير نخبها وسياساتها، لكن الدولة هي هي: تستمر للجميع ويستمر ولاء الجميع لها. هذه حقيقة مستقرة في أذهان الناس في المجتمعات التي قامت فيها دولة حديثة. لا نسمع، في هذه الحال، بقوى سياسية تعارض الدولة وتسعى إلى تقويضها أو تفكيكها، أو بحل أجهزة الأمن، وإنما نعرف قوى تعارض سلطة النخبة الحاكمة وتتطلع إلى الحلول محلها في السلطة. في مجتمعاتنا فقط يقع مثل ذلك الخلط بين الدولة والسلطة لأنها لم تعش السياسة بالمعنى الحديث.

ربما كانت الدولة أعظم اختراع إنساني في التاريخ لأنها مكنت المجتمعات من أن تقوم، ومن أن تحسن تنظيم نفسها وتحصيل شروط حياتها وتأمين أمنها في الداخل والخارج. وكما نهض الدين بدور صقل وجدان الأفراد وتهذيبه وتزويد التربية بالقيم الإنسانية الرفيعة، كذلك نهضت الدولة بدور تهذيب سلوك الجماعات وترشيده وضبط انفلاتاته التي ينجم عنها عدوان على الآخرين. ولولا الدولة، لكانت الحياة الاجتماعية جحيماً لا يطاق، بل لكان فناء النوع الإنساني. هذا ليس غزلاً في الدولة، إنه تقرير حقيقة موضوعية وتاريخية. وقد لا يعرف قيمة الدولة إلا من عاش تجربة غياب الدولة وانفلات الفوضى من كل عقال كما في حالة المجتمعات المنغمسة في حروب أهلية.
"الخليج"

التعليقات