31/10/2010 - 11:02

"الديناصور" الماروني الأخير في لبنان../ فيصل جلول

عندما وصل الجنرال ميشال عون إلى باريس بعد لجوئه الطويل في السفارة الفرنسية في بيروت سأله صحافي محلي عن الشخصية السياسية المفضلة لديه فقال: الجنرال شارل ديغول. وأظنه أضاف نابليون بونابرت، وأرجو ألا أكون مخطئا في ظني.بدا لي حينذاك أن الرجل يفتقر إلى حسن التقدير، ذلك أن مضيفه فرانسوا ميتران، الرئيس الاشتراكي الراحل، كان قد أمضى الجزء الأكبر من حياته السياسية في خصومة شرسة مع ديغول، بدأها في المقاومة ضد النازية ومن ثم في الحياة السياسية إلى حد أن وقَّع كتابا شهيرا بعنوان “الانقلاب الدائم في الدولة” وفيه وصف للجنرال الراحل بالانقلابي، ثم انه كاد في احدى الرئاسيات أن يصل لموازاته في الأصوات إلى حد العنق. وكانت خصومة الرجلين على كل شفة ولسان في الاوساط السياسية الفرنسية، وبالتالي لا يمكن ان تفوت فرنكوفونياً متوسط الاطلاع.

كنت اعتقد أن افتقار عون لحسن التقدير في تفضيل ديغول ليس ناجما عن قصور في متابعة التاريخ السياسي للجمهوريتين الرابعة والخامسة فحسب، وانما عن قصور في الاطلاع على رأي ديغول السلبي في تولي الجنرالات للشؤون السياسية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي دبرها ضده قادة الجيش الفرنسي في الجزائر عشية استقلالها.

بدا لي حينذاك أن من غير المعقول أن يتظاهر اللاجئ السياسي الأشهر في فرنسا بأفضليته لدى مضيف عبر اختيار خصمه التاريخي، وقلت ان الاختيار ربما يشبه مغامرات الجنرال اللبناني الحكومية والقتالية الفاشلة في لبنان. وكان علي من بعد أن أواظب على هذه القناعة عندما لم يشفع لعون شغفه الديغولي لدى الرئيس جاك شيراك الذي أهمل ضيف بلاده الماروني وتعلق برجل الاعمال الراحل رفيق الحريري إلى حد مزاولة الضغط الصريح على رئيس “التيار الوطني الحر” في كل مرة كان يتفوه بخطب لاذعة ضد الحكومة اللبنانية، ناهيك عن الضغط الرئاسي الفرنسي كي لا يعود إلى بيروت ويتسبب في خلط الأوراق التي كانت قوى 14 آذار ترتبها لوراثة عهد ما يسمى ب “الوصاية” والامساك بمفاصل السلطة في لبنان.

الحق أنني لم أنفرد في هذا الاعتقاد، فقد كان كثيرون يرون ما أرى، بل يؤكدون أن معارك “دولة الرئيس” مرشحة للفشل، وأنه في الشؤون السياسية كما في الشؤون العسكرية يعمل بصيغة الأمر ووفق مراتبية صارمة لا يجوز فيها للأدنى مرتبة نقاش أمر صدر عن مرتبة أعلى، وكانت مداخلات وتصريحات ميشال عون المتلفزة والمسموعة لا تساعد على انطباع مغاير، ذلك أن تعابير وجهه الصارمة وصوته الحاد وجمله القصيرة والمحكمة وإصراره القاطع وعنايته الضئيلة بالشرح والتفسير والتبرير كلها تعزز الاتهامات التي يكررها خصومه والأشهر بينها تهمة: أنا أو لا أحد.

الواضح أن ما تقدم لم يكن سوى الوجه الظاهر لميشال عون ولعله يحرص على تظهيره بعناية وتصميم للحفاظ على اللحمة بين انصاره، وهم ينتمون الى الفئات المسيحية الشعبية والوسطى وقلة من المتمولين، ويغلب على هذه الفئات الاحباط من الاحزاب المسيحية التقليدية التي خسرت الحرب الأهلية، والشعور العارم بالقلق على مصيرها في بلد كانت لها فيه مرتبة ديموغرافية وسياسية غالبة، وكان من الطبيعي أن يتسع هذا القلق في صفوفها بعد اتفاق الطائف الذي كرس نتائج الحرب وموازين ما بعدها.

ما من شك أن الفئات المذكورة كانت تحتاج إلى جنرال يحميها ويدافع عن موقعها ويبدد مخاوفها، ولم تكن بحاجة إلى ساسة تقليديين وأكليروس لا يبعثون على الاطمئنان، إذ يبدلون مواقفهم وأحيانا مبادئهم تبعا لتقلب الظروف والاحداث. وكان من الطبيعي أن يبرهن ميشال عون لمريديه أنه لا يساوم أحدا ولا يبيع افضلياته، ويقول ما يريد بحرية عالية التكلفة أحيانا وانه مستعد للذهاب بعيدا في تحقيق اهدافه حتى لو اقتضى الأمر الشهادة في مجلس الشيوخ الامريكي عشية صدور قانون “تحرير لبنان ومحاسبة سوريا” الذي مهد للقرار 1559 في خريف العام 2004.

لم يتخل “دولة الرئيس الجنرال” اللاجئ السياسي الأبرز في فرنسا قيد أنملة عن رسمه عندما عاد إلى لبنان في العام 2005 إثر اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري مع فارق في الاولويات: طوى صفحة العداء مع سوريا. ابتعد عن مشروع فريق “14 اذار” القائل بإسقاط النظام السوري لحماية “الديمقراطية” في لبنان. أصر على استعادة المكانة المسيحية في النظام السياسي اللبناني بما يساوي مكانة الطوائف المسلمة.لم يتنازل عن حق تمثيل فريقه في الخارطة السياسية اللبنانية بما يستحق من تمثيل.خلق دينامية مسيحية جديرة بالحساب في موازين القوى الطائفية. لم يهرول نحو العروض الخارجية المغرية من دون أن يقاطع الدول الغربية المتدخلة صراحة في لبنان، وأدرك بفعل تجربته السابقة نفاق القوى العظمى وأهمية الرهان على العامل الإقليمي في تحديد المصير اللبناني. توج قناعته بالتفاهم الشهير مع حزب الله من دون ان يفقد ثقة مؤيديه وأنصاره ما خلا قبضة من الإيديولوجيين الذين لم يؤثر خروجهم على البنى الاساسية في تياره.

لقد بينت تجربة عون المعارض خلال السنتين الماضيتين أن الرجل يخوض معاركه السياسية بتخطيط عسكري، فقد راهن على هزيمة “اسرائيل” في لبنان معارضا توقعات المحيطين به، وكان يرد على مخاوفهم بالقول “الطائرة الحربية لا يمكنها ان تزرع علماً “اسرائيلياً” على تلة لبنانية، وحزب الله هو الأقوى على الارض” وكان رهانه صائبا. رد على المطالبين بأن “يعيد حزب الله قرار الحرب والسلم الى الدولة اللبنانية” بقوله ““اسرائيل” هي الدولة الوحيدة في الشرق الاوسط التي تملك قرار الحرب والسلم وليس المقاومة” وقال في جلسة مع انصاره “عندما نتولى الحكم سنعتمد استراتيجية دفاعية تعجب خاطر حزب الله”. واخيرا صمد عون خلال عام الاضراب الماضي في مواجهة الضغوط الخارجية والداخلية مراهنا على هدف كان يتابعه منذ لجوئه الباريسي: استعادة مكانة ما لفريقه وللمسيحين عموما في لبنان ولعله قاب قوسين أو ادنى من الفوز برهانه وان فعل فقد “يطوبه” انصاره بوصفه آخر “الديناصورات” الموارنة في لبنان.
"الخليج"

التعليقات