31/10/2010 - 11:02

السنوات السبع العجاف في العلاقات الدولية../ جميل مطر *

السنوات السبع العجاف في العلاقات الدولية../ جميل مطر *
عاش العالم، والعلاقات الدولية بشكل خاص، سبع سنوات عجاف، ويبدو أن سنة ثامنة من النوع نفسه في طريقها إلى أن تكرس عهد السنوات العجاف، وتجعله سابقة في سجل السياسة الخارجية ليحتذى به وليكون عظة لمن يريد من بين رؤساء أميركا المقبلين أن يتعظ. هذه السنة الثامنة قد لا تزعج بشدة أو تثيـر قلقاً شديداً لدى المسؤولين عن السياسات الخارجية وإدارة العلاقات الدولية، لسبب بسيط وهو أن الخسائر التي تسببت فيها السنوات السبع الأخيرة من الكثرة بحيث أن إضافة خسائر سنة ثامنة إليها لن تزيد الغضب أو التوتر وكلاهما وصل أقصاه في بلاد كثيرة

أحد الأمور التي تشغل بال المنشغلين بأمر سياسات أميركا إعجاباً أو انتقاداً هو هذا السؤال المتكرر في عواصم عدة: هل ستكون السنة ما بعد الثامنة، حيث سيكون في البيت الأبيض رئيس جديـد، امرأة أو رجل، وإدارة جديدة ديمقراطية أو جمهورية، بداية سياسة خارجية أميركية مختلفة وعلاقات دولية أقل عنفاً ؟ أم سيتأكد الرأي القديم الجديد القائل بأن السياسة الخارجية الأميركية لا تتغير بالسهولة التي يغير بها الناخبون العهود والرؤساء. وإن تغير شيء فيها فسيكون في النهج، كأن يكون أقل إيديولوجية وأكثر تواضعاً وأبعد قليلاً عن الانحيازات العمياء لقضايا أو دول أو أشخاص أو أنظمة حكم، وهي الانحيازات التي تجعل مكانة الولايات المتحدة كمكانة دول صغيرة تحكمها نخب متعبة أو متطرفة، وليس ما تستحقه باعتبارها الدولة الأعظم والأقوى. عندئذ سوف يكون من حق المنغمسين في مجال فهم السياسة الخارجية الأميركية وتتبع آثارها وتقصي مستقبلها أن يختاروا بين التعامل مع واشنطن خلال السنوات السبع في ظل العهد الجديد على أساس أن سياسة أميركا الخارجية في المستقبل هي نفسها التي خطط لها الرئيس بوش ونفذها، أو على أساس أن الرئيس بوش بالغ وتجاوز الحدود وصنع سياسة جلبت لأميركا الحرج أحياناً والكراهية في أحيان كثيرة، وأن ما سيأتي بعده سـوف يضع بصمته عليها، وقد تكون مختلفة.

لماذا نقول سنوات عجاف؟ هي سنوات عجاف لأن العديد من الحكومات والبشر في أنحاء متفرقة من العالم عانى بدرجات وأشكال مختلفة سلبيات هذه السنوات العجاف. والبعض، ولعله الأكثر عدداً، دفع ثمناً غالياً بسبب أخطاء السياسة الأميركية أو تهورها. وقد سمعنا مراراً انتقادات نطق بها مسؤولون كبار في دول حليفة لأميركا وإن اكتسى بعض هذه الانتقادات بكياسة الأصدقاء أو حكمة الضعفاء. وقد نالت شعوبنا كأمة عربية وإسلامية معاً أكثر من نصيبها من مآسي هذه السنوات العجاف وبخاصة الشهور والسنوات الأخيرة فيها، ففي هذه الفترة صعد منحنى الفجوات والعنف والفقر والخلافات والنزاعات، لم يصعد فقط بل تعمقت آثاره وعواقبه، وما تزال تتعمق وتتسع. إن حصولنا على النصيب الأكبر من الحروب لم يمنع اندلاع شرارة الحروب الإقليمية في أميركا اللاتينية، ولا نستبعد أن نرى في الشهور الباقية من العام الثامن حرباً تشنها كولومبيا بتكليف مباشر على فنزويلا والإكوادور.

تجري على أراضي هذه الأمة وبحارها وفي شوارعها وازقتها حربا اطلقت عليها ادارة الرئيس بوش اسم الحرب ضد الارهاب. بدأت مع بداية عهد هذه الإدارة ولم تتوقف ولم تهدأ. بل على العكس انطلقت تكبر وتتضخم حتى صارت كالوحش ذي الأذرع المائة والرؤوس العشر. هكذا أصبحت للإرهاب، وهو للغرابة هدف هذه الحرب وأداتها وبيئتها في وقت واحد، أصبحت له معان يختار منها قادة الحرب ما يجدونه مناسباً لظرف أو حالة ويختار منها قادة وزعماء دول كثيرة ما يناسب معاركهم الداخلية ضد معارضة ناشئة أو آراء متقدمة أو رغبة للمشاركة في صنع السياسة وتطوير المجتمع. ولا يبدو أن مرشحاً واحداً للرئاسة في أميركا استطاع أن يتحرر من التزامات هذه الحرب أو تجاسر فأعلن عن نيته التوقف عن مطاردة القاعدة.. أشباحاً كانت أم وحوشاً بشرية أو عزمه توظيف حكومته لفصل الحقيقة عن الخيال في موضوع الإرهاب والحرب ضده. يقـول مـارك سيغمـان انهم يبالغون في تضخيم خطر الإرهاب، وبخاصة بعد أن أصبح كما جاء في عنوان كتابه جهاداً من دون قادة أو تنظيم. نعرف ونقدر أن الحرب ضد الإرهاب، مثل أي حرب، تخلق قطاعات مستفيدة في الاقتصاد والسياسة وفي المؤسسة العسكرية والجامعات ومراكز العصف الفكري. وهذه الحرب لا تختلف. ما استجد فقط هو زيادة القدرة السـياسية والإعلامية علـى إخفاء معلومـات عـن ضحايا هذه الحرب وتقديم

معلومات كاذبة أو مبالغ فيها عن الأصولية الإسلامية وعن التشدد الإسلامي بهدف بث الرعب في الشعب الأميركي وشعوب أوروبا.

ننظر حولنا بعد سنوات سبع فنجد حروبا وحرائق تشتعل. لسنا هنا بصدد اتهام الرئيس بوش بأنه مسؤول عنها أو أن أميركا الدولة أو الإمبراطورية مسؤولة عن أكثرها، ولكننا نسجل للتاريـخ وباسم أكثر من مليون قتيل على الأقل في العراق وحده، ما كانوا ليموتوا لو لم يقع الغزو، إننا نحاسب الدولة الأعظم التي نصبت نفسها مهيمنةً وزعيمة ولنا نصيب في هذا التنصيب حين استمرأت فرض حصار اقتصادي على شعب بعد آخر وقصف الأحياء المدنية ثم تعتذر ببرود لأهالي الضحايا المدنيين والتدخل للضغط على حكومات لكي تلتزم النهج الأميركي في تسوية مجحفة كما في فلسطين أو مواجهة غير متكافئة كما في إيران والصومال والسودان والعراق أو التأييد المطلق لكل سياساتها تجاه روسيا والصين وغيرهما.

منذ أيام قليلة قامت الغواصات الأميركية المجهزة بأسلحة تناسب حروب الدول العظمى باطلاق صواريخ على قرى صومالية وقتلت من قتلت بحثاً عن «إرهابي» واحد، العدد لا يهم، والأطفال كما في غزة لا يهمون .. وعودة الهدوء إلى الصومال ليس هدفاً لواشنطن أو حلفائها. وفي فلسطين الحرب دائرة منذ مئة عام وازدادت قسوة ووحشية في السنة الثامنة من سنوات العجاف. حرب لا تتوقف إلا لتثبت إسرائيل أقدامها وتعود لتستأنفها بقتل شعب يريد استعادة أرضه فاستحق نعت الإرهاب مثل أي شعب يقاوم الاحتلال في هذا الزمن الرديء. ومنذ مطلع السنة الثامنة من السنوات العجاف وهذه الحرب تتصاعد وتتغذى على صعودها وأهوالها الكراهية لإدارة الرئيس بوش وسياسته الخارجية ومراوغتها ومازال معظم القيادات السياسية والشعبية العربية يعرب عن شكه في صدق نوايا الدكتورة كوندي في كل شيء امتدت إليه يداها في الشرق الأوسط. ألم تكن شريكة في تأليف مسلسل السنوات العجاف وإخراجه .

وحرب في أفغانستان، هذه أيضاً مستمرة بشكل أو بآخر وبعنف أشد أو أقل وبخصوم يتغيـرون مـع كل مرحلة. دارت الحـرب بالتكليف المباشـر وفـي مرحلة منها كان الاتحاد السوفيتي الخصم المناسب. وعلى طريق الاستعداد للحرب وممارستها صنعت أميركا وحشاً وسلحته ودعمته، لم تدرك في حينها أنه سيتغلب عليها بعد انتهاء تكليفه بالحرب ضد القوات السوفيتية. وعندما أرادت تكليف أوروبا، تحت عنوان «الحلف الأطلسي» لتوسيع رقعة الحرب الأفغانية تمهيداً لإشراك باكستان فيها، وربما إيران في وقت لاحق، تقاعست معظم الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، ورفضت أن يحدث لجنودها وموازناتها ما حدث ويحدث للولايات المتحدة وموازنتها بسبب الحرب ضد العراق. بمعنى آخر، لم يكسب الرئيس بوش حرب أفغانستان وخسر طاعة حلف الأطلسي وتصدعت مكانة أميركا في آسيا.

وفي السودان حروب، أكثرها أسبابه داخلية وأشدها تعقيداً الأزمات التي تقرر تدويلها بإرادة أميركية. الأيادي الخارجية في السودان عديدة وأدوارها معترف بها، وبعضها لا يخفي اعتناقه للعقيدة الانفراطية، وهي واحدة من العقائد السياسية التي سبق أن جربتها دول الاستعمار الأوروبي كما في شبه جزيرة الهند والعالم العربي وها هي تعود إليها ومعها الولايات المتحدة ليجري تطبيقها في السودان كما حدث في البلقان. القاعدة وراء العقيدة الانفراطية تقول ان الدول القائمة على قوميات «حديثة» وتكون محدودة الأتباع ومحشورة وسط قوميات بالحجم ذاته أو أكبر قليلاً، دول لا تشكل تهديداً للاستقرار الإقليمي وبخاصة في الأقاليم الواقعة تحت هيمنة أميركا أو الاتحاد الأوروبي أو كليهما معاً.

وفي باكستان حرب، أيضاً بالوكالة. فباكستان، كما صرح إسرائيلي كبير قبل أيـام قليلة، أخطر على أمن إسرائيل، وبالتالي على أمن أميركا، من إيران. يكاد الإسرائيلي يقول إنهم أخذوا العالم في رحلة خيالية طويلة تحت عنوان شن حرب على إيران بينما كانت كل الاستعدادات، إسرائيلية وأميركية وغيرها، تجري لإعداد حالة فوضى في باكستان تتلوها حرب أهلية مزودة بخبرات إقليمية ودولية.

وفي تشاد جرت حرب ويستعدون لأخرى، فالثمار هناك بالغة الأهمية من يورانيوم إلى نفط الى ممرات نفط وفقر وهجرات إلى قواعد عسكرية واحتلال أجنبـي. الأسباب هنـا كثيرة بعضها داخلي كالشأن الإفريقي عامة والبعض متعدي الحدود والقيم والأخلاق. ولن ننسى كيف صدمتنا كبشر، مهزلة الدور الذي قامت به حكومة الرئيس ساركوزي لحماية عصابات تهريب أطفال أفارقة إلى فرنسا بدون إذن أو ترخيص من سلطات تشاد. ينقلونهم إلى فرنسا أو غيرها لأغراض البيع أو للتبني أو «تزويق» البيت الفرنسي بطفل لونه حقاً جميل. وعندما يكبر سيكون مواطناً أوروبياً يدين بغير دينه وينطق بغير لغته.

أما الكارثة الأعظم في حروب السنـوات العجاف فكانت، ومازالت، تتفاقم في العراق وتتشعب. وقد سمعنا خلال الأسابيع الماضية ردوداً عن موعد انسحاب القوات الأميركية بدت مائعة إلى حد كبير صدرت عن هيلاري كلينتون، وتصريحات أخرى أقل ميوعة على لسان باراك أوباما، وتصريحات دقيقة وصريحة على لسان جون ماكين. قال ماكين إنه لو كان الأمر بيده لما سحب القوات الأميركية من العراق قبل مائة سنة. يقول هذا بينما يعلن الاقتصادي المعروف جوزيف ستيغليتز الأستاذ بجامعة كولومبيا أن تكاليف حرب العراق تجاوزت ثلاثة تريليون دولار، وهو المبلغ الذي كان يكفي لإقامة أكفأ وأشمل نظام رعاية اجتماعية لمدة خمسين عاماً قادمة، وأن تكاليف يوم واحد في هذه الحرب يسمح بإدخال 58.000 طفل جديد إلى العملية التعليمية وإعفاء 160.000 طالب أميركي من مصاريفهم الجامعية. وقال في جلسة الاستماع التي دعي إليها في الكونجرس إنه لا يفهم لماذا يجري التعتيم على هذه الحقيقة الغائبة عن الرأي العام الأميركي والعالمي، ولماذا لا يعرف الأميركيون حتى الآن أن الكارثة الاقتصادية التي حلت بأميركا في الشهور الأخيرة كانت بسبب تكاليف حرب العراق وليست لسبب أخر.

بقى سؤالنا بدون إجابة، هل تنتهي السنوات العجاف في السياسة الدولية برحيل الرئيس بوش والسيدة كوندي، أم أن سياسات شن الحروب واستخدام العنف وفرض الهيمنة رسخت وستصبح أسلوباً أميركياً وليس نهج إدارة بعينها.
"الحياة"

التعليقات