31/10/2010 - 11:02

السنوية الأولى لرحيل عرفات .../ د.علي الجرباوي

السنوية الأولى لرحيل عرفات .../ د.علي الجرباوي
خلال الأسبوعين الماضيين أُمطرت بوابل استفسارات من صحافيين وإعلاميين أجانب. عندما يحدث ذلك يكون هناك “موسم” فلسطيني مناسب لقصة أو تقرير أو ريبورتاج. “الموسم” هذه المرة كان السنوّية الأولى لرحيل الرئيس عرفات.

ما أثار انتباهي أن القاسم المشترك لكل هؤلاء هو استخدامهم لهذه المناسبة ليس للإطلال على حقبة عرفات واستقصاء الرأي الفلسطيني فيه وحول قيادته وإنجازاته وإخفاقاته، وإنما الولوج من خلال هذا العنوان للاستفسار عن الرئيس الفلسطيني الجديد، محمود عباس، وعن قدراته وإمكاناته وآفاق حكمه مستقبلاً. باختصار، كان اهتمام وسائل الإعلام والصحافة الأجنبية مُنصَبّاً على “سنوية” عباس الأولى في الرئاسة أكثر من على السنوية الأولى لرحيل عرفات.

قد يكون استقصاء أمر عباس من قِبل الصحافيين والإعلاميين الأجانب مفهوماً في ضوء تركز لوم “إسرائيل” والقوى الغربية على عرفات خلال سنوات الانتفاضة الثانية وحصاره في المقاطعة، واتهامه بالمسؤولية الكاملة عن تدهور الأوضاع الأمنية وتخريب مجرى التسوية السياسية بعد انعقاد قمة كامب ديفيد، مما ترك انطباعاً أن غيابه، أو تغييبه، سيؤدي إلى انفراج مؤكد، لذلك فإن التركيز على استقصاء أمر عباس يأتي ضمن هذا الإطار الباحث عن إمكانية حدوث مثل هذا الانفراج المأمول “إسرائيلياً” وغربياً. بصيغة أخرى، تحاول الأوساط الغربية بالأساس معرفة إن كان عباس يرغب، وهل بمقدوره أن يتمكن إن كان فعلاً يرغب من تخطي العقبات التي تواجهه داخلياً كي يدفع باتجاه مخالف لما كانت عليه الحال مع عرفات، خصوصاً بما يتعلق بالقبول بتسوية سياسية بالشروط “الإسرائيلية” - الأمريكية؟

قبل الخوض في رغبة وقدرة عباس في هذا المجال، يجدر التأكيد على أن ما رُسم “إسرائيلياً” وغربياً من صورة رفضية لعرفات خلال سنوات حصاره في المقاطعة كان تجنّياً عليه. فقد كان عرفات راغباً وقادراً على التوصل ليس فقط إلى تسوية سياسية، بل إلى حل للصراع مع “إسرائيل”. كان سياسياً محنّكاً عارفاً باختلال موازين القوى لصالح “إسرائيل”، لذلك ارتأى أن السبيل الوحيد المتاح لحل الصراع يتلخص بقبول الدخول بمدخل التسوية السياسية الابتدائية معها. لم يكن بإمكان أي فلسطيني دفع القضية الفلسطينية نحو المجهول من خلال القبول بإبرام اتفاق مُبهم مع “إسرائيل” سوى عرفات. فقد كان القائد الكرزمي الممسك بجميع تلابيب وتفاصيل النظام السياسي الفلسطيني. بالأحرى كان هو النظام السياسي الفلسطيني، والجميع في هذا النظام كان إما يدور في فلكه أو من حوله، لذلك تمكّن عرفات، رغم معرفته بأنه سيواجه معارضة فلسطينية قوية، من عقد اتفاق أوسلو الذي بادل فيه الاعتراف المهم ب “إسرائيل” باعتراف متواضع بتمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطيني، مما يعطيها الحق في التفاوض عنه حول القضية الفلسطينية. كان هذا الاتفاق غامضاً، مبنياً على مرحلتين من المفترض أن تكونا متعاقبتين، ولكن من دون وجود رابط إلزامي يجبر “إسرائيل” على تعاقبهما. رضي عرفات بذلك، ورضي بعده بعقد اتفاقية مرحلية قسمت الضفة الغربية على مناطق (أ، ب، ج)، فاسحة المجال لاستمرار السيطرة “الإسرائيلية” الكاملة على معظم أرجاء الضفة، مقابل منح السلطة الفلسطينية سيطرة جزئية على بُقع متفرقة داخل هذه الضفة. كما وقَبِل بعد ذلك بعقد بروتوكول خاص بمدينة الخليل قسمّها فعلياً إلى قسمين، أحدهما يضم الاستيطان “الإسرائيلي” المستمر داخل المدينة.

قام عرفات بكل ذلك اعتقاداً منه بأن السياسة الوحيدة الممكنة مع “إسرائيل”، والتي قد تكون مجدية، تتلخص في اتباع برنامج الخطوة خطوة. كان يعتقد بتراكم هذه الخطوات لتصل ب “إسرائيل” إلى نقطة اللاعودة في مسألة ضرورة إنهاء الاحتلال والقبول بإقامة دولة فلسطينية أرادها مستقلة وسيادية على الأغلبية العظمى من الأرض الفلسطينية المحتلة، مع إعطاء إشارات إيحائية بإمكانية القبول بحلول توفيقية لقضيتي القدس واللاجئين. كثيرون، بمن فيهم كاتب هذه المقالة، لم يشاطروا عرفات هذا التوجه، بل رأوا فيه خطراً حقيقياً داهماً على القضية الوطنية والمستقبل الفلسطيني، ولكن المهم في الأمر أن عرفات استمر على التوجه نفسه رغم تصاعد المعارضة والانتقادات التي واجهها.

لم يكن عرفات، إذاً، ضد التسوية السياسية مع “إسرائيل”، ولكنه بالتأكيد لم يكن يريد التوقف عند تسوية سياسية لا تنتج في نهايتها الحل الأدنى المطلوب فلسطينياً للقضية الفلسطينية. لقد قدّم من أجل فتح المجال لهذا الحل الكثير من التنازلات الأساسية الجوهرية التي اعتبرها كثيرون تمّس صلب القضية الفلسطينية بشكل سلبي لا رجعة عنه. بالواقع، كان عرفات الفلسطيني الوحيد القادر على إتمام هذا الحل الذي كان يتطلب من الفلسطينيين القبول بتقديم تنازلات صعبة في قضايا على غاية الحيوية والأهمية، مثل القدس واللاجئين، وحتى تعديلات حدودية.

من كان ضد الحل هو “إسرائيل” التي كانت ولا تزال تريد إنهاء القضية الفلسطينية بتسوية سياسية بشروطها وعلى هواها. كانت تنظر الى الاتفاقات المتوالية المبرمة مع الجانب الفلسطيني على أنها المداخل الضرورية لتجريع الفلسطينيين اشتراطاتها على دفعات متتالية، وكسب الوقت اللازم لفرض وقائع استيطانها وتهويدها للأرض المحتلة، وليس على أساس أنها مقدمات لإنهاء الاحتلال والتوصل إلى حلّ مع الفلسطينيين. كانت “إسرائيل” منذ البداية، إذاً، معنيّة فقط بالقبول الرسمي الفلسطيني بفتح باب التسوية التي تريد هي التحكم وحدها بكيفية إغلاقها، لذلك قبلت التعامل مع عرفات ليس لكونه الوحيد القادر على التوصل الى حل للصراع معها، وإنما للحصول على شرعية البدء بتسوية تريد فرضها على الفلسطينيين. كان عرفات بالنسبة ل “إسرائيل” وحلفائها الغربيين زعيماً ممتازاً وإيجابياً ومقبولاً حين كان يطاوع في إبرام الاتفاقات المرحلية المتتالية. ولكن عندما حُشر في كامب ديفيد ورفض محاولة فرض حل نهائي للصراع لا يتوافق مع الشروط الدنيا التي يريد تحقيقها، تحّول عرفات إلى “شخص غير ذي صلة” ولم يعد مرغوباً به، ووسم بالسلبية وتشجيع “الإرهاب”، وحوصر حتى غاب، أو بالأحرى تم تغييبه لأنه لم يقبل بإكمال “المشوار”.

هل سيقوم عباس بإكمال هذا “المشوار” وقد أصبحت معالمه “الإسرائيلية” جاثمة وواضحة على أرض الواقع، ولم يبق من متطلبات التسوية “الإسرائيلية” للصراع إلا الحصول على الإذعان الفلسطيني بالتوقيع عليها؟

واضح أن أسلوب محمود عباس في التعاطي مع ملف العلاقة مع “إسرائيل” والمجتمع الدولي بشأن تسوية وحل الصراع الفلسطيني- “الإسرائيلي” يختلف جذرياً عن أسلوب الراحل عرفات. ولكن اختلاف الأسلوب، وإن كان يعطي انطباعاً إيجابياً مشجعاً لدى أوساط “إسرائيلية” وأطراف في المجتمع الدولي، لا يعني على الإطلاق وجود تراخٍ في موقف عباس فيما يتعلق بضرورة توفر الشروط الدنيا الضرورية للتوصل إلى إغلاق ملف هذا الصراع. إذا قبلت “إسرائيل” وتوفرت هذه الشروط التي لم تتوافر في حينه لعرفات، سيكون عباس راغباً وقادراً على إبرام الاتفاق النهائي، أما إذا بقيت “إسرائيل” على موقفها القاضي بضرورة قبول الفلسطينيين بتسويتها فلن تجد في عباس شريكاً وقبولاً أكثر مما وجدت في عرفات. على الأقل كان عرفات في حينه الزعيم الفلسطيني الأوحد والذي يتمتع بشعبية كبيرةٍ، وبالتالي يستطيع تطويع الموقف الفلسطيني إلى أقصى مرونة ممكنة. عباس ليس بالزعيم الكاريزمي، وكي يستطيع التوقيع على اتفاق مع “إسرائيل” يحتاج الى التوصل لكثير من التوافقات الداخلية الفلسطينية. من هذه الناحية، قد يكون وجود عباس، لظروفه الموضوعية داخل الساحة الفلسطينية الداخلية، أفضل لتصليب الموقف الفلسطيني تجاه قضايا التسوية والحل مع “إسرائيل”، ولكن مع ذلك يبقى السؤال المركزي ماثلاً: هل “إسرائيل”، مع عرفات أو عباس، بوارد حلّ الصراع مع الفلسطينيين أم فرض تسوية عليهم؟

لأن الجواب معروف فإن تغّير القيادة وأسلوب القيادة الفلسطينية لن يؤثر بالأمر كثيراً، فالمفتاح عند “إسرائيل” وليس عند عباس، و”إسرائيل” لا تريد فتح الباب للانعتاق الفلسطيني، بل تريد التحكم به لتثبيت وجودها.



"الخليج"

التعليقات