31/10/2010 - 11:02

الصلاة والانتخابات في قائمة الممنوعات الفلسطينية../ د.عبد الإله بلقزيز

الصلاة والانتخابات في قائمة الممنوعات الفلسطينية../ د.عبد الإله بلقزيز
ليس في أفعال “حماس” و”فتح” هذه الأيام قرينة على التعقل والاتزان ولا حتى المروءة. فكأنما الذين بأيديهم أزمّتهما ومقاليد الأمور فيهما “يفكرون” بأعصابهم “المشدودة” لا بعقولهم، أو كأنهم حديثو عهد بالسياسة بحيث أطّرحوا مبدأ المصلحة، وهو الأس الأساس في العمل السياسي، وركبوا مركب الكيد المتبادل والثأر العصبوي للنفس. ولولا أن في الوجدان بقية باقية من بعض الاحترام لتاريخ من يقفون على رأس الحركتين، لكان يسع المرء أن يلعن اليوم الذي انتهت فيه مصائر الحركة الوطنية الفلسطينية إلى هذا الطراز من “القادة” و”السياسيين” الذين يحكمون اليوم مناطقهم على طريقة ملوك الطوائف.

يكاد المرء منا لا يفهم هذا الذي يجري من تراشق “سياسي” بين الضفة وغزة. الخوض في فك ألغاز نص سوريالي وفتح عقد طلاسمه أهون من فك لغز الشجار والمناقرة بين “الشريكين” في “الوحدة الوطنية” وحكومتها الراحلة، وهو، قطعاً، ادعى إلى المتعة في كل حال. يبادر أحد الفريقين إلى اقتراف خطأ وطني وسياسي، عن سوء تقدير منه للعواقب أو تحت تأثير رأي مستشار موتور، فيقابله الفريق الآخر بارتكاب خطيئة. وكل خطيئة لا تنجب غير الخطايا من جهتي الفاعل والمفعول به، وهكذا تكر سبحتها دواليك في نزيف غير منقطع كمن يلعق دمه على حدّ سكين صقيل! تكبر الأزمة فتنتج المأزق وتشهد على الفضيحة: فضيحة عقل سياسي وفضيحة نخبة ليس لها في تاريخ شعب فلسطين أشباه ونظائر في الخفة وقلة الدراية والمقامرة بالمصير الوطني.

ماذا يريد رئيس السلطة محمود عباس، مثلاً، من وراء عرض مشروع قانون انتخابي جديد غير تكريس الطلاق والقطيعة بين الضفة وغزة نهائياً؟ هو يعرف، قبل غيره، أن هذا المشروع غير قابل للصرف سياسياً في المجتمع الفلسطيني، ليس فقط لأنه ينقلب على المجلس التشريعي، وينزع عنه الشرعية، ولا لأنه لم يكن محط توافق وطني، وإنما لأنه يخرج “حماس” من الحياة السياسية، وهو أمر لم تستطعه “إسرائيل”، نفسها فكيف بسلطة محمود عباس التي تضاءلت جغرافيتها السياسية منذ استيلاء “حماس” على قطاع غزة! وقد يستطيع محمود عباس، ومن معه من “فتح” أن يفرض شروطه الانتخابية (إطارية منظمة التحرير ومرجعية وثيقة الاستقلال الوطني واتفاقية أوسلو.. وما شاء من شروط) لكنه سيفرضها في الضفة الغربية حصراً، فبماذا تنتفع السلطة وتنتفع “فتح” إذا ربحت بعض الوطن وخسرت بعضه الآخر؟ بل ما قيمة ذلك المشروع إذا حوّل الوطن (الصغير جداً جداً.. بسبب الأخطاء السياسية الكبيرة جداً جداً) إلى كانتونات مقفلة في وجه بعضها بعضاً، لن يقال حينها سوى أن محمود عباس، باسم “فتح”، فشل في صون وحدة شعبه وما تيسر من أرضه وقدم مساهمته “الدستورية” في تمزيق ما تبقى من وطن مزقته الغزوة الصهيونية.

أما “حماس” وحكومتها، فما قصّرت من جهتها في إتيان العجب العجاب في السياسة وإلى حدود يعجز العقل عن تخيلها، وآخر عجائبها منعها الصلاة الجماعية في الساحات العامة وحسبانها إياها “صلوات سياسية”! لم يفعل ذلك “الفاسقون” في “فتح” والسلطة، إن كان فيهما “فاسقون”، بينما ارتضاه لأنفسهم من قدموا عن أنفسهم طويلاً صورة أهل الورع والتقوى! وقد بلغت الفضيحة حدّ قيام أحد “المراجع” الدينية ب”تأثيم” من يشاركون في تلك “الصلوات السياسية” (وما أكثر أنصاف الفقهاء في هذا الزمن)! أما “القوة التنفيذية” فأبلت بلاء حسناً في تنفيذ أمر المنع بالاعتقالات والهراوات وامتهان أجساد الموقوفين بالركل أمام الكاميرات (يعلم الله وحده ماذا يحصل في المخافر بعيداً عن أعين الرقباء والمشاهدين)! باختصار، تبرعت “حماس” لكل الخائفين منها بما يرفع من معدل الخوف لديهم، ولكل المتربصين بها بما يوفر لهم القرائن والشواهد على صدق مقالتهم فيها. وهكذا، مدفوعة بإغراء الحفاظ على السلطة بأي ثمن، انساقت وراء المساس بشرعيتها المعنوية قبل شرعيتها السياسية، وهل قليل أن يقع تفريق المصلين بالعنف العاري لمجرد أنهم اختاروا الصلاة في أرض الله الواسعة بعيداً عن إمامة “إمام” يدبّج خطبته بعبارات الذم والتقريع في حق “فتح” على مسامع المصلين من ابنائها وهم صاغرون؟

ليست “حماس” في حاجة إلى من يذكّرها بأنه لولا “الصلوات السياسية” لما كانت “حماس” موجودة على الخريطة كحركة سياسية. لو كانت الصلوات تعبدية فحسب، لما خرجت الحركات السياسية في تاريخ الإسلام من الجوامع والمساجد والحسينيات، ولما كانت قضايا المسلمين الحياتية والمصيرية موضوع تداول بينهم. ولا هي في حاجة إلى من ينبهها إلى أنه لولا تلك الاعتبارات السياسية، التي تسربت إلى خطب أئمتها في مساجد غزة وجوامعها، واتخذت شكل تحريض على “فتح” وتعريض بها في حضرة جمهور هذه الحركة من المصلين، لما اختار الجمهور هذا الأسلوب ذاته فانزوى بصلاته بعيداً عن مواقع سلطان “حماس” كي يعبر عما في نفسه، من دون أن يشتبك مع من يخالفه الرأي وراء إمام منحاز وناطق باسم السلطان! وهب أن هذه “الصلوات السياسية” غير مشروعة (في “مذهب فقهي” لم نعرف له أصولاً بعد!) أو غير قانونية (في “نظام سياسي” غزاوي لم نعرف له دستوراً)، فما دخل الهراوات والتنكيل بالموقوفين بغير حق في حل إعضال “فقهي” أو معالجة إشكال سياسي- قانوني؟

وبعد، “فتح” تحتكر الانتخابات في الضفة، و”حماس” تحتكر الصلاة في غزة، وما بينهما تحتكر “إسرائيل” عوائد هذه المعركة السخيفة بين قبيلتين سياسيتين. أيها الوطن الفلسطيني المنكوب: ماذا دهاك؟
"الخليج"

التعليقات