31/10/2010 - 11:02

العالـم وأميركا: إلى أين؟../ د. خالد الحروب

العالـم وأميركا: إلى أين؟../ د. خالد الحروب
روبرت كيغان أحد أهم منظري الـمحافظين الجدد ومستشار الـمرشح الجمهوري للرئاسة الاميركية جون ماكين أصدر كتاباً جديداً يكرس فيه فجاجة الفكر اليميني الأميركي الـمحافظ بعنوان "عودة التاريخ ونهاية الأحلام" (The Return of History and the End of Dreams). في الكتاب يقول إن عالـم ما بعد الحرب الباردة الذي حلـم البعض أنه يسير نحو الديمقراطية الليبرالية والتعاون انتهى، وانتهت معه أطروحة نهاية التاريخ. وأن ما يعود الآن ليضبط العلاقات الدولية هو التنافس والصراع، وهو ديدن التاريخ قديما وحديثا ومستقبلاً. وهو يقدم رؤية اختزالية مقسمة لعالـم القرن الحادي والعشرين تكاد تعيد شكل عالـم الحرب الباردة.

في نظره سيكون هناك معسكران واحد ديمقراطي وآخر سلطوي، الأول تتزعمه الولايات الـمتحدة وأوروبا واليابان والهند، والثاني تتزعمه الصين وروسيا. لا يقول لنا كيف ستتعامل الولايات الـمتحدة مع قائمة طويلة من الدكتاتوريات الحليفة لها في كل قارات العالـم، وتبني علاقتها معها على الـمصلحة البحتة وليس على تحقيق الديمقراطية.

تتسم رؤية كيغان، الـمبنية على الـمحافظة على سيطرة وهيمنة أميركا في العالـم بالسطحية والاختلالات البنيوية في التقاطها لـمآل العلاقات الدولية في الـمستقبل القريب، فما الأطروحة الأقرب لالتقاط ذلك الـمآل وتصوير الوضع الراهن؟ هناك بطبيعة الحال رؤى وأفكار عديدة تتنوع بكل الاتجاهات. هناك أطروحات أخرى تشير إلى "احتمالية" بقاء الولايات الـمتحدة مسيطرة على السياسة الدولية، وبالتالي تتواصل صيغة "القطبية الأحادية"، وأن صعود الصين، وروسيا، واليابان، والهند، لن يؤثر على الـمكانة القيادية الأميركية. وأن كل ما تحتاجه الولايات الـمتحدة للبقاء في موقع القيادة العالـمية والسيطرة هو القيام ببعض الإجراءات والتغييرات في سياساتها الداخلية والخارجية.

ويمكن القول إن أهم الـمنظرين لهذه الأطروحة بقوة هو الكاتب الأميركي، من أصل آسيوي، فريد زكريا رئيس تحرير أسبوعية نيوزويك. ففي كتاب صدر حديثاً بعنوان "عالـم ما بعد أميركا" (The Post-American World) يقارن زكريا بين بدايات انهيار بريطانيا كإمبرطورية عالـمية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وما يراه البعض بدايات انهيار الولايات الـمتحدة أو فقدانها لـ "الأحادية القطبية" في العالـم.

وفي هذه الـمقارنة يجادل زكريا بأن انهيار بريطانيا كان بسبب انهيار اقتصادها جراء التوسع الإمبريالي وجراء الحربين العالـميتين، إضافة إلى انكماش قوتها العسكرية. وأن استمرارها كقوة كبرى بعد الحرب العالـمية الثانية كان بسبب السياسة الحاذقة للإنجليز. أما في الحالة الأميركية فهو يرى أن الاقتصاد الأميركي ما زال الأقوى في العالـم، والأكثر إبداعاً في أهم الـمجالات: الكمبيوتر، التكنولوجيا الحيوية، التعليم الجامعي، وكذلك الأكثر شباباً وديموغرافية على عكس الـمنافسين الآخرين (الصين، روسيا، وأوروبا ــ ما عدا الهند في هذه النقطة). وأن القوة العسكرية الأميركية لا تزال الأقوى بشكل لا يمكن مقارنتها فيه مع كل القوى الصاعدة الآخرى. ففي الوقت الذي كانت فيه الأمبرطورية البريطانية تفخر بسلاح بحرية هائل وتسيطر من خلاله على الـمياه الدولية، فإن الإمبرطورية الأميركية لديها من الجبروت العسكري ما يمكنها من السيطرة بسهولة على البر والبحر والسماء في عالـم اليوم. وحجم الإنفاق العسكري الأميركي يتجاوز حجم الإنفاق العسكري للدول الأربع عشرة التالية لها في القوة، كما أن حجم إنفاقها على بحوث العلوم العسكرية يتجاوز ما ينفقه بقيه العالـم بأسره.

لكن نقطة ضعف الولايات الـمتحدة تكمن في سياستها، وهي السياسة التي تضعف كل جوانب تلك القوة، وتؤلب الدول الأخرى ضدها، وتفقدها نفوذها. بيد أن زكريا يرى أن إمكانية تغيير هذه السياسة أسهل بكثير من إمكانية إيقاف اقتصاد منهار كما كانت الحالة البريطانية، وبالتالي فإن الفرصة ما زالت مُتاحة للولايات الـمتحدة كي تُنقذ موقعها القيادي والـمهيمن على العالـم عبر تغيير السياسة.

في الـمقابل هناك من يرى أن العالـم متجه نحو صيغة من "التعددية القطبية" حيث تنخفض مكانة وقوة الولايات الـمتحدة وترتفع مكانة وقوة القوى الأخرى (وهي تتضمن الاتحاد الأوروبي، روسيا، الصين، الهند، واليابان تحديداً)، بحيث تتقارب تأثيرات ونفوذ هذه القوى، لكن تفقد أية قوة واحدة ميزة الانفراد والقيادة. وربما أمكن القول هنا إن هذه هي النظرية الأكثر رواجاً في الوقت الحاضر في فهم وتصوير ما تؤول إليه العلاقات الدولية في الـمستقبل قصير الأمد.

والتركيز الأشد هنا يكون على صعود الصين تحديداً ثم روسيا والهند واليابان (مضافاً بالطبع إلى أوروبا الـممثلة في الاتحاد الأوروبي). فالصعود الـمتواصل لهذه القوى إنما يحدث على حساب قوة وانفراد الولايات الـمتحدة بالهيمنة الأحادية على عالـم ما بعد الحرب الباردة.

وهناك على العموم تنويعات متفاوتة لرؤية التعددية القطبية بعضها يرى هذه القطبية في وارد الحدوث لكن مع الإبقاء على تميز خاص للولايات الـمتحدة ودورها وقوتها (كما يرى مثلاً الـمنظر الأميركي الـمعروف جوزيف س. ناي في كتابه "مفارقة القوة الأميركية: لـماذا لا تستطيع القوة العظمى الوحيدة في العالـم أن تتحكم فيه وحدها؟").

وتحظى فكرة "التعددية القطبية" بقناعة شبه متوافق عليها خاصة لجهة الدور القادم لآسيا في السياسة الدولية، وهي قناعة منتشرة في أوساط الـمنظرين والسياسيين الغربيين. فمثلاً يقول توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، في مقابلة حديثة مع صحيفة "الغارديان" "إن مركز الجاذبية العالـمي ينتقل إلى الشرق، وبالنسبة لنا في أوروبا والولايات الـمتحدة فإن مثل هذا تغير بالغ التأثير، ولا أعتقد أننا نستوعب الآن منعكساته وآثاره علينا ... عندما تتأمل في حركة التصنيع في الصين والهند ستبلغ أربعة أضعاف حجمها في الولايات الـمتحدة، وأن سرعتها خمس أضعاف (ما تشهده الولايات الـمتحدة)، فإنك تدرك حجم ما نتحدث عنه هنا. نحن على أهبة الدخول إلى حقبة جديدة من علاقات القوة". ثم يتحدث بلير عن استتباعات ذلك التغير على صعيد الأمم الـمتحدة ومجلس الأمن ومجموعة الدول الثماني والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

ومقابل النظريتين الـمذكورتين أعلاه، نظرية استمرار "القطبية الأحادية الأميركية" ونظرية "التعددية القطبية"، هناك تحليل مثير ربما يبدو أكثر إقناعاً قدمه مؤخراً ريتشارد هاس، الأكاديمي الـمؤثر والرئيس التنفيذي لـمجلس الشؤون الخارجية في نيويورك، في العدد الأخير من فصلية "شؤون خارجية" يقول فيه إن عالـمنا اليوم يدخل حقبة "اللا قطبية"، أي عدم وجود طبقة "عليا" من الدول الكبرى التي يمكن النظر إليها باعتبارها "أقطاب" العالـم، وذلك بحسب الـمفهوم الكلاسيكي لـمعنى "قطب وأقطاب وقطبية". فهذا الـمفهوم يشير دوماً وتقليدياً إلى أن القطب أو الأقطاب هي الدول الكبرى تحديداً. فالقرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين شهد تعددية قطبية (القوى الأوروبية، بالإضافة إلى اليابان، والدولة العثمانية)، ثم بعد الحرب العالـمية الثانية شهد العالـم ثنائية قطبية (الاتحاد السوفياتي والولايات الـمتحدة)، وبعد انتهاء الحرب الباردة شهد العالـم "أحادية قطبية" (الولايات الـمتحدة).

لكن، ثمة أمران جديدان تطورا خلال العقود القليلة الـماضية. الأول هو نشوء دول إقليمية ذات تأثير كبير، وهو تطور أضعف من نفوذ الدول الكبرى الـمعروفة حيث أن هذه الـمجموعة من الدول تنافس الدول الكبرى على مستوى الأقاليم وعلى مستوى بعض القضايا العالـمية.

ويورد هاس هنا قائمة ببعض الدول الإقليمية الـمهمة مثل البرازيل، والأرجنتين، وتشيلي، والـمكسيك وفنزويلا في أميركا اللاتينية، نيجيريا وجنوب أفريقيا في أفريقيا، مصر وإيران وإسرائيل والسعودية في الشرق الأوسط، باكستان في جنوب آسيا، استراليا واندونيسيا وجنوب كوريا في شرق آسيا. والأمر الثاني هو بروز لاعبين عالـميين ليسوا دولاً ويمتازون بتأثير وأدوار متصاعدة. ويورد في هذا التصنيف الـمنظمات العالـمية الاقتصادية وغير الاقتصادية، والروابط شبه السيادية، والـمنظمات غير الحكومية، والهيئات الإقليمية، والـمؤسسات الإعلامية الكبرى ذات التأثير الـمعولـم.

وخلاصة التداخلات بين الـمستويات الثلاثة: الدول الكبرى، الدول الإقليمية النافذة، اللاعبين من غير الدول وأصحاب الأدوار النافذة والـمعولـمة، تنتج عالـماً صفته الأساسية "غياب القطبية". وبحسب هاس فإن هذا يحمل مخاطر لا يُستهان بها حيث يحتاج النظام إلى فترة مريحة من الزمن حتى يستقر على شكله الجديد، لكن في نفس الوقت قد يحمل آفاق تعاون وسلام مستقبلي ونمطا جديدا في العلاقات الدولية. شكل العالـم يتغير ومعه يتغير موقع الولايات الـمتحدة ودورها، ويبقى أن بقية دول العالـم، ومنها دولنا العربية، تحتاج لاستكناه الفرص التي يتيحها هذا التغير لتحسين مواقعها وتأثيرها، علها تنتقل من موقع الـمتأثر والتابع دوماً إلى موقع الـمشارك والـمؤثر.
"الأيام"

التعليقات