31/10/2010 - 11:02

الفوضى الوقائية بعد الحرب الاستباقية../ فيصل جلول

الفوضى الوقائية بعد الحرب الاستباقية../ فيصل جلول
احتل الجنرال ريكاردو سانشيز، العراق قائداً لما يسمى بـ“القوات متعددة الجنسيات”. اعتبر في فترة الاحتلال الاولى بطلاً أمريكياً عظيماً إلى أن باشر الحديث عن النقص في القوات الأمريكية وفي الآليات والدعم اللوجستي. في هذا الوقت اندلعت قضية التعذيب في سجن “ابوغريب”، واعتبر مسؤولا عنها رغم أنه لا يندرج في التراتبية الخاصة بالشرطة العسكرية التي تتولى سجون الاحتلال. قبل تقاعده عوقب سانشيز بحجب الترقية عنه، وبعد تقاعده أطلق تصريحاته المزلزلة: “إدارة مجلس الأمن القومي للحرب كانت رديئة”، و”ارتكبت الادارة الأمريكية أخطاء فادحة بعد الاحتلال: حل الجيش العراقي، والامتناع عن تشكيل حكومة مدنية”، “حرب بوش على العراق كارثة”، “لا ضوء في نهاية نفق هذه الحرب”، “لا يمكن تحقيق انتصار في العراق”، “أقصى ما يمكن التوصل إليه هو تفادي الهزيمة”.

لم يحدد سانشيز الكيفية، والراجح أن أحدا من ذوي الشأن في إدارة الحرب العراقية لن يجرؤ على تحديدها، الأمر الذي يحيلنا إلى علم الحرب ومنه خلاصة كلاوزفيتز الشهيرة: الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى.

لقد شنت الحرب من اجل إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط.. أي قهر كل من تعتبرهم واشنطن أعداء وممانعين لها ولـ“إسرائيل” وفرض نظام شرق أوسطي خاضع لأمريكا ووكلائها حصراً تحت مسمى “الشرق الأوسط الجديد”.
فشل المحتل في إخضاع العراقيين، وامتنع حلفاء واشنطن العرب عن دعم مشروع الشرق الأوسط الجديد، بقي “الاستسلام” النووي الليبي محصورا ومحدودا ولم يتحول إلى مثال يحتذى، قاومت الأنظمة الخليجية “الإصلاح من الخارج”، لم يسقط النظام السوداني بعد اتفاقية الجنوب وفيها خيار الانفصال، ثم اندلعت قضية دارفور ومازال قائما. لم يسقط النظام السوري بعد انسحاب قواته العسكرية من لبنان، لم تتمكن “إسرائيل” من القضاء على المقاومة اللبنانية خلال حرب يوليو/تموز عام ،2006 عادت إيران للتمسك بمشروعها النووي بعد أن قبلت بتجميده عام 2003 إثر سقوط بغداد. كفت أخيراً عن دعم الاحتلال عبر حلفائها الجنوبيين. في هذا الوقت كانت روسيا تتحرك بثبات على الساحة الدولية وتسعى لاستعادة مواقعها السابقة، وكانت الصين تتمدد اقتصاديا بلا ضجيج وتضخ المزيد من المليارات في الاقتصاد الأمريكي مستفيدة من كلفة الاحتلال الباهظة ومن علامات الوهن التي ما برحت تتجمع على هيئة القوة العظمى، أضف إلى ذلك أن شركاء أمريكا الأوروبيين في الحرب انفضوا عنها سريعا: إسبانيا ثم إيطاليا وأخيرا بريطانيا.

باختصار شديد يمكن القول إن واشنطن لم تتمكن من تحقيق الأهداف السياسية لحربها العراقية داخل العراق وفي الشرق الأوسط الذي ظل قديما بل ربما ازداد “قدما” عن ذي قبل ما يعني صراحة أن تعذر بلوغ أهداف الحرب ناجم عن فشل الحرب. ولا نعرف مثالا واحدا في التاريخ عن حرب فاشلة أفضت إلى إنجازات سياسية ناجحة.

لكن، هل يمكن تفادي الهزيمة في العراق والشرق الأوسط على ما أوحى سانشيز؟ أغلب الظن أن الهزيمة المجلجلة قد لا تبقي حجرا أمريكيا على حجر في الشرق الأوسط ذلك أن أعداء واشنطن وتل أبيب والغرب عموما سيحولون هزيمة العراق إلى انتصار ساحق من الصعب تقدير حجمه وأبعاده مسبقا فما كان قبل الحرب لن يبقى بعدها على حاله. فكما أن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى، فالسياسة أيضا امتداد للهزيمة العسكرية بوسائل أخرى. وحتى لا يستفيد الممانعون والمقاومون والأعداء من الفشل الأمريكي في العراق وحتى يصبح تفادي الهزيمة ممكناً على ما ذكر ريكاردو سانشيز، لا بد على سبيل الترجيح من نشر الفوضى “الوقائية” في الشرق الأوسط وبالتالي إشاعة الاضطراب في أو حول البلدان المرشحة لرفع رأسها بعد رحيل “اليانكي” من بلاد الرافدين:
تنظيم حرب ميليشيات في البيئة السنية العراقية المناهضة للاحتلال. تقسيم العراق بقرار من الكونجرس يصبح ملزما بالطلب ويفضي بالضرورة إلى تأسيس دولة كردية مستقلة صديقة لـ“إسرائيل” وتدين ببقائها للمحتل وحده. التحكم بالصراع السياسي في لبنان عبر تطويق المقاومة بالقوات الدولية جنوبا وبحكومة مناهضة في العاصمة وتدعيم عناصر النزاع اللبناني مع سوريا. عزل دمشق وتطويقها عربيا ودوليا وتعريضها لضغط عسكري “إسرائيلي” متواصل. الحؤول دون المصالحة الوطنية بين فتح وحماس. توسيع إطار الأزمات الداخلية وإشعال بؤر التوتر في القرن الإفريقي وعلى ضفتي البحر الأحمر في مصر والسودان واليمن والصومال. ربط “الديمقراطية” الموريتانية بقاعدة عسكرية أمريكية دائمة وعلاقات وثيقة أكثر مع “إسرائيل”. حمل المغرب والجزائر على الانخراط الصريح في برامج الدفاع الأمريكية وفي الاقتراب أكثر من “إسرائيل”. الضغط المتواصل على الدول الخليجية للتطبيع الصريح مع الكيان. كبح الجموح الإيراني عبر التهديد العسكري وإثارة القوميات (تشجيع مجموعات متمردة في بلوشستان وكردستان الإيرانية وعربستان)، إثارة الأحقاد الفارسية العربية والتلويح بخطر سيطرة الفرس على العرب. إشغال تركيا بالدفاع عن وحدتها الوطنية في مواجهة قضايا الأرمن والأكراد وتركمان العراق وقبرص وربما قضايا أخرى من بعد.

وسط هذه الفوضى “الوقائية” يمكن فعلا البحث في إمكانية تفادي هزيمة أمريكية شنيعة والانسحاب من العراق، شرط أن تبارك الدول العظمى هذه اللعبة. لقد باركت فرنسا وبريطانيا وبعض أوروبا لإستدراك هزيمة غربية محققة في الشرق الأوسط ما خلا روسيا بوتين التي ربما ترى أن عودتها مجددا إلى المسرح الدولي تمر بالشرق الأوسط تماما كما كان غيابها إثر فشل الغزو السوفييتي لأفغانستان.
"الخليج"

التعليقات