31/10/2010 - 11:02

القضية الفلسطينية بين الأدوات والثوابت الوطنية (1 - 2)/ وليد دقة

القضية الفلسطينية بين الأدوات والثوابت الوطنية (1 - 2)/ وليد دقة
في الصراع بين الأسير والمحقق يعمل الأخير على تجريد الأول من كل عناصر القوة بهدف كسر إرادته، وأول خطوة يقوم بها المحقق من اللحظة الأولى لإعتقال المناضل لعزله عن محيطه، هي ربط عصبة على عينيه ليعيش حالة من عدم اليقين. وإذا كانت الفلسفة التي تقف من وراء مثل هذه الخطوة مفهومة، بإعتبار اليقين قوة ونقطة إرتكاز أساسية للسجين، ينطلق منها للمواجهة، فإن مصادرة المرآة من أقبية التحقيق كخطوة إضعاف ومصادرة لقوة الأسير، لم تكن مفهومة وبديهية بالنسبة لي، فما الذي تضيفه المرآة لنا من قوة في مكان وزمان صودرت به منا أبسط الحقوق كالطعام والنوم وحتى دخول المرحاض، بل يملك المحقق قتلنا ونحن مقيدين دون أية قدرة حتى على الإستغاثة في مكان لا يسمعنا فيه أحد سواه.

ما أشبه حالة الأفراد والمحققين بحالة الشعوب والإحتلال، ففي البحث عن السبيل الأسلم والإستراتيجية الأفضل للتحرّر تمكنا حتى الآن من نزع العصبة عن أعيننا وحققنا اليقين ونقطة الإرتكاز، ويقيننا بأننا شعب له هوية وطنية ووطن، وله الحق في تقرير مصيره .. فهل إمتلكنا المرآة أيضاً؟
تروي إحدى الأساطير اليابانية بأن آلهة الشمس العظيمة «أماتراسو أمي كامي»، مُنحت الأدوات المقدسة الثلاث: السيف، الجوهرة والمرآة وجميعها ترمز لعناصر القوة المركزية في الكون. فالسيف يرمز لقوة العنف المجرّدة، والجوهرة للقوة الإقتصادية، أما المرآة فترمز للقوة المعرفية والمعلوماتية. لكن لماذا المرآة بالذات؟ لماذا لم يمنحوا هذه الآلهة كتاباً؟ أليس الكتاب أكثر تعبيراً من المرآة بالنسبة للمعرفة؟ ما الذي تحتويه وتشمله المرآة برمزيتها أكثر مما يحتوي ويشمل الكتاب بهذا الخصوص؟

إن الكتاب الذي ينقل لنا المعلومات والأفكار، في عملية نحن فيها متلقين، قد يمنحنا القوة المعرفية التي ترفع من مجمل ما نملكه من قوة، لكنه لا يملكنا جوهر وأساس القوة التي تسلحنا بها المرآة. وجوهر القوة المعلوماتية والمعرفية هو جوهر معرفة النفس، ومعرفة النفس عملية متواصلة من الجدل بين الذات وإنعكاسها، وآدم وحواء حين طردا من الجنة، طردا لا لأنهما أكلا من شجرة المعرفة فحسب، وإنما لأنهما أدركا ذاتهما فعرفا العيب، والعيب ليس ما إنكشف من عورات في الجسد، فهذا شكل العيب وتعبيره الخارجي، رغم أن الكثيرين في عالمنا العربي والإسلامي يعتقدون غير ذلك فيغطون أجسادهم ويكشفون الأوطان سيادة وثقافة للمحتل ويستبيحون المواطن، وإنما جوهر العيب ما إنكشف لحواء وآدم في الذات البشرية من طبيعة ضعيفة فعرفا مكامن القوة، وإدراك عيوب الذات ومكامن قوتها وضعفها هي القوة بمفهومها الأعم والأشمل. فإذا صحّ القول بأن الكتب أدوات لنقل المعرفة فإن المرايا هي أدوات إنتاج وسائل إنتاج المعرفة.

إن النقد الذاتي يصحح الإرادة ويشحذها، والإرادة جوهر الإنسان، والمعرفة لا تتحوّل من معرفة موضوعية بذاتها لمعرفة لذاتها فتغدو قوة إرادة، إلا بعملية جدل متواصل بين الذات وإنعكاسها وبين الذات وأفعالها.

إن الذات الفلسطينية تملك المعرفة. جميع فصائل العمل الوطني والإسلامي تتفق على حقيقة كوننا شعباً له الحق في الحياة وتقرير المصير وله الحق بالدولة والإستقلال. لكن المواطن الفلسطيني يتساءل ما الذي تعطل فينا لدرجة أننا، ورغم عقود من النضال والتضحية، لم نتمكن من تحويل هذه الحقائق المعرفية إلى واقع، ولماذا حتى الآن لم ننجز التحرير رغم ما نملكه من يقين أو ركائز يقينية؟

إنه لمن غير السهل الإدّعاء بأن الشعب الفلسطيني وقواه النضالية والجهادية لا تملك الإرادة، وهو أكثر الشعوب العربية، بل ولا نبالغ إن قلنا، بأنه أكثر الشعوب قاطبة، أبدى خلال الأربعة عقود الماضية نشاطاً وفعلاً كفاحياً وسياسياً على الساحة العربية والدولية. لكننا وبالرغم من صدقية هذا الإدّعاء لا نجيب على سؤال المواطن الفلسطيني، لماذا لا ننجز التحرير؟
نحن أمام مسافة كبيرة بين حجم التضحيات وضآلة الإنجازات، وهوّة بين الآمال والواقع. وهذه الهوّة تتّسع بفعل الزمن فيما لو بقينا غير قادرين على إنجاز أهم شرط للنهوض بأي مشروع وطني فلسطيني كان أم قومي عربي، وهو شرط الإرادة، وبالتالي نحن لم ننجز التحرير لأننا لا نملك الإرادة.

إن الإرادة الوطنية مشروع متواصل البناء يسبق مشروع الدولة، والوطن وعاء الإرادة والإرادة لا تتحقق بقرار لحظي أو بفعل عامل خارجي، فإرادة القرار تبقى إرادة اللحظة التي سرعان ما تتلاشى وتتبخر إن لم تكن نتاج عملية جدل متواصلة بين الذات وإنعكاسها وبين الذات وأفعالها.

قد يتساءل البعض ألا نجافي الحقيقة حين ندّعي بأننا لا نُجري جدلاً مع واقعنا ومع أفعالنا؟ ألا تجري عمليات نقد لأدائنا ومواقعنا تصل أحياناً حدّ جلد الذات وعلناً وفي الفضائيات العربية في كثير من الأحيان؟ ألم تُجر الفصائل الفلسطينية في مؤتمراتها عملية نقد وإعادة نظر بمواقفها ومسيرتها النضالية؟
إن هذا كله قد جرى فعلاً لكنه جرى في مرآة مهشمة تعكس أجزاء من حقائقنا النظرية والكفاحية والسياسية. إن عملية المراجعة والنقد الذاتي، حتى تلك التي جرت في مؤتمرات الفصائل، تمت فيها الغربلة و»الدرس» على بيادر مختلفة متخاصمة. إنطبعت إستخلاصاتها بطابع الخصومة وتأثرت بها وأتت القراءات سجالاً سياسياً وليس قراءة نظرية وفكرية معمّقة كي تلخص، ليس مواقف الفصائل منفصلة، وإنما موقف حركة التحرّر الوطني الفلسطيني في وثيقة تسمى برنامجاً وإستراتيجية تحرير وأهدافاً واحدة.

إننا نملك اليوم مواقف ثورية وليس ثورة، فصائل وليس حركة تحرّر، إستراتيجيات وبرامج وليس برنامجاً وإستراتيجية واحدة ونحن بالتالي أمام إرادات مُقاومة وليس إرادة المقاومة.
لقد أتاحت سنوات الإعتقال الطويلة للعديد من الأسرى الفلسطينيين الإطلاع عن كثب، ليس على تقارير مؤتمرات فصائلهم فحسب، وإنما التدقيق في مؤتمرات الفصائل الأخرى ودراسة أدبيّاتها حول الكفاح المسلح بشكل جماعي، كما تمت مراجعة قضايا الخلايا المسلحة التي تم إعتقالها. ولم يكتفوا بالقراءة التعميمية للمؤتمرات، للوقوف على إشكاليات العمل المسلح وتعثره في تحقيق إنجازات توازي التضحيات. كما أن السجن أتاح قراءة متأنية، من حيث توفر الزمن، وشاملة تناولت مُجمل المشهد الفلسطيني في علاقة السياسي بالكفاحي، والأدوات بالأهداف، والوسائل بالثوابت، الأمر الذي نعتقد بأنه جعلنا نقف على القانون الناظم لهذه العلاقة في الأداء الفلسطيني من خلال رؤيتها في مشهد متكامل حي يمتد على أكثر من عقدين، سبقها ما يزيد عن عقد ونصف تناولناها من خلال ما لخصته المؤتمرات.

إن ما يميّز إطلاعنا داخل السجون هو أنه لم يكن إطلاعاً مجرّداًَ كما لو كنا أعضاء مؤتمر تُقدم له وثيقة العمل المسلح للنقاش، وإنما كنّا قادرين على السير من المجرّد إلى الحسي الذي يستند لتجاربنا الشخصية ولتجارب أفراد حملوا على أكتافهم أعباء العمل المسلح المنظم، ولشخوص حية بيننا. كنا قادرين على العودة دوماً إليهم لمراجعة تجاربهم ومقارنتها مرات ومرات.

لقد وفرت لنا ظروف السجن وأتاحت هضم التجربة بتأنّ قلما توفر مثلها لمراكز أبحاث وباحثين يقومون بهذا الرصد. لقد وفر الأسر لنا البيدر الواحد وكنا أشبه بفلاح يدرس قمح محصوله الذي راكمه على مدار سنوات، لكنه يدرس بحذر لأن موضوع الدرس ماثل أمامه بشخوص من لحم ودم، فنحن لا نقيّم تاريخ ونضال م.ت.ف فحسب، بل نقيّم تاريخنا وتاريخ أخوة ورفاق ومناضلين يعيشون بيننا كانوا صناع هذا التاريخ، لهذا نحن حذرون من ألا نصل للإدانة أو للتجريح الشخصي. وفيما كنا نناقش ويصل بعضنا لإستخلاص مفاده أن العمل المسلح نجح في كل شيء لكنه فشل في تحرير الأرض، كانت الفصائل الوطنية منفردة تناقش إشكالياته وتعثره وضرورات تطويره، رغم أنها تتفق ضمناً والإستخلاص الأساسي بأنه فشل كخيار وحيد في تحرير الأرض.


"فصل المقال"

التعليقات