31/10/2010 - 11:02

القومية لم تنقرض إلا في أوهامنا ..(2/4)د.محمد جابر الأنصاري*

القومية لم تنقرض إلا في أوهامنا ..(2/4)د.محمد جابر الأنصاري*
لا تتأسس أية سياسة ناجحة ومجدية إلا على حقائق موضوعية يدعمها البحث العلمي المعرفي وتستطيع التمييز بين الصحيح والسقيم وعندما تضع الدول الأوروبية اليوم شعار الوحدة الأوروبية الجامعة، وهي الدول القائمة على قوميات تصارعت حتى العظم في الساحة الأوروبية ذاتها، وأكلت الأخضر واليابس، فإنما تتبنى هذه الدول شعاراً جديدا تتجاوز به مرحلتها الصراعية تلك الى مرحلة لا مفر منها في ساحة التنافس الدولي الراهن حيث لا وجود ولا أمان إلا للكبار الأقوياء حضارة واقتصادا ودفاعا ثم ان الوحدة الأوروبية تراكم طبيعي لمسارها التاريخي، وتطور مستقبلي لا بد منه للبقاء في زمن “العولمة” ومواكبته... والنظر عقلانيا بالتحليل والنقد لأبعاده ومعطياته ومغزاه التاريخي - وكما أشرنا في دراسة سابقة، فإن الوحدة الأوروبية هي فعل العقل في التاريخ - بلا رثاء وبكاء كما يفعل كتاب وضحايا الذهنية المستقيلة (المستقيلة من التدقيق والنظر والدراسة المقارنة المسؤولة) في الحياة العربية!

وإذا كانت الماركسية بالنظر للجمود الفكري لدى سدنتها لم تستطع اللحاق بالتطورات والمتغيرات المستجدة مما أدى الى تفكيك احدى أهم منظوماتها الجيوبولتيكية، وهي المنظومة السوفييتية، فإنها عندما بدأت كأيدولوجيا تناضل لتصحيح المسار الرأسمالي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فإنها جاءت نتيجة بحث علمي معمق، أو يحاول ان يكون علمياً قدر إمكان القائمين به، ولهذا السبب كان لها ذلك التأثير الكبير في المشهد الدولي، بما في ذلك الدول الرأسمالية الغربية، كبريطانيا وفرنسا في ثلاثينات القرن المنصرم عندما غدت الماركسية التحدي الفكري لكل مثقف فيها.

واللافت للانتباه حتى يومنا ان قيادة الحزب الشيوعي في الصين الشعبية، احدى أبرز القوى في عالم اليوم، تعمل على تطوير ماركسيتها الصينية، وهي ايديولوجية قومية في التحليل النهائي بإقرار كبار قادتها من “ماو” ورفاقه، وستبقى قدرتها على التطوير الفكري رهن الاختبار اليوم وغداً، ولكن نموها الاقتصادي شبه “الرأسمالي” في ظل الماركسية المستنبتة صينياً، قد يكون من أبرز النجاحات الفكرية في مواءمة المنطلق الماركسي مع انطلاقة عولمة الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين.

وأياً كانت نتيجة ذلك، وحتى إذا قصرنا الرؤية على تفكك المنظومة السوفييتية وتخلي روسيا عن الايديولوجية الماركسية، فإنه يبقى منها (أعني الماركسية كعلم اجتماع وكرؤية علمية محدودة بزمنها وواقعها الأوروبي) كونها نبهت الى دور العامل الاقتصادي في التاريخ وذلك ما لا يمكن اسقاطه في أي فكر عقلاني بما في ذلك الفكر الرأسمالي، وكذلك تحذيرها من مغبة ترك الحبل على غاربه في صراع الطبقات واستغلال الأقليات الثرية للأغلبيات الفقيرة، وذلك ما استفادت منه الرأسمالية الأوروبية الغربية في تطويرها الاقتصادي، كما نرى في تجربة حزب العمال البريطاني والحزب الاشتراكي الفرنسي، والاحزاب الاشتراكية في الدول الاسكندنافية، وهي احزاب مسؤولة تولت أو تتولى السلطة واستطاعت ببعد نظرها الفكري ان توائم الرأسمالية القائمة على اقتصاد السوق، وهو حقيقة لا مفر منها، مع الأخلاق الاشتراكية اللازمة انسانياً في التكافل الاجتماعي، من دون التقيد باقتصاديات الاشتراكية التي آتت بمردود عكسي في تجارب عدة وتبين إنها غير قادرة على التنافسية والانتاج اللازم للنمو.

نعرض لهذه الظواهر والتجارب بشيء من الاسهاب، لنرى ان كانت “العروبة” في نطاقها تمتلك شيئاً من مقوماتها وقدرتها على التموضع، أم أنها مجرد مرحلة عاطفية وايديولوجية اسقطتها تحديات الواقع وذهبت الى غير رجعة. ولابد لنا - كعرب - من هذه “القسوة العلمية” مع الذات ولنسمها (المصارحة الجارحة مع النفس) لنصل ان امكن الى اعادة تأسيس حياتنا على أسس صلبة من هذا النوع. فلن تنجح لنا سياسة، عروبة أو غيرها، إذا لم نقمها على هذا النوع من التدقيق المعرفي الملتزم والمسؤول والذي لا يصاب بالانهيار لدى أول ضربة.

ومن كلمات ميشيل عفلق، منظر البعث، التي ضيعها تلامذته على أنفسهم وتجربتهم قوله: ان الحق فوق العروبة الى أن تصل العروبة الى مستوى الحق، ونقول اليوم ان الحق والحقيقة يجب ان يظلا فوق العروبة دائماً لتصحح ذاتها بهما في كل حين.

ومن أجل هذا التدقيق فلنعلن تقبلنا بداية لفرضية نهاية العروبة إذا أثبتت الحقيقة والواقع مثل هذه النهاية. وعلى “العروبيين” ألا تخيفهم مثل هذه الفرضية، فالعروبة في العصر الطوراني التركي والصفوي الفارسي لم تبق منها إلا لهجات شعبية خجولة تحت السطوة الرسمية للغتين التركية والفارسية، كما لم يبق منها غير وجدان مبهم لدى “أولاد العرب” كما سماهم الغزاة الآسيويون المتسلطون باسم الإسلام، لكن العربية مدعومة بالقرآن الكريم وما ارتبط بها من وجدان وثقافة عربية انبعثت حية في فجر النهضة، وكان عليها ان تخوض معركة مصيرية أخرى ضد دعوات الحرف اللاتيني والتفرنج اللساني وسواها، وكانت الصرخة الشهيرة لشاعر النيل حافظ إبراهيم عام 1902 في نعي اللغة العربية من العلامات الفارقة والمعبرة في تجسيد هذا الاشفاق:

فلا تكلوني للزمان، فإنني
أخاف عليكم ان تحين وفاتي
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة
وكم عز أقوام بعز لغات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب
ينادي بوأدي في ربيع حياتي؟

هكذا تكلم حافظ عن العربية قبل اكثر من مائة سنة، ولأني عشت أجواء هذه القصيدة الولود في وجداني، فإني لم أجزع للمرثية النثرية التي كتبها في نعي العربية المعاصرة الشاعر المغربي محمد بنيس في صحيفة “الحياة” أخيراً على ما فيها من تفجع... فما أشبه الليلة بالبارحة وإن اختلفت الظروف. واستغرب كيف ان مثقفاً نابها كمحمد بنيس وقع في هذه الانفعالية بشأن مستقبل العربية متأثراً بظواهر الأشياء، دون ان يتعمق الأمر في الجوانب الموضوعية للمسألة، وأخشى أنه وباء “قصيدة النثر” التي لا تزدهر في عرف أصحابها إلا بمثل هذه السوريالية السوداء بمعزل عن المعطيات الموضوعية لمضمون اللوحة وليس خطوطها الخارجية الصارخة.

وكان رد عمرو موسى امين عام الجامعة العربية على شاعرنا المتفجع باخلاص في الصحيفة ذاتها فعل ايمان ببقاء العروبة ولغتها (والعربية اللسان).

سنعود الى اللغة كأساس للقومية وثقافتها ووجدان أهلها. إلا اننا نريد في هذا الموضع ان نتوقف لنشير الى اننا في مرحلة رفعنا الحقيقة القومية الى مصاف المطلق واسقطنا الحقيقة الدينية. واليوم كردة فعل نحمل الحقيقة الدينية اكثر مما تحتمل ونخرج بها عن نطاقها الطبيعي الذي أراده الله لها مسقطين بالمقابل الحقيقة القومية وكأنها لم تكن ولن تكون، رغم اشارة القرآن الكريم إليها في نطاق السنن الكونية ورغم ما تقدمه الأوضاع العالمية الى يومنا من شواهد.

والواقع ان القومية لم تنقرض إلا في أوهامنا...! وها هي ذي خريطة العالم من اليابان والصين في الشرق، مروراً بروسيا، وصولاً إلى أقاصي الامريكتين تقول لنا بكل لسان ان الحدود السياسية لعالم اليوم مازالت هي حدوده القومية. وإذ عادت الأممية السوفييتية الى حدودها القومية السابقة في “كومنولث الدول المستقلة”... (مستقلة على أي أساس غير الأساس القومي؟!..)، فإن الكتلة الأوروبية تلتحم على اساس حدودها القومية في اطار الوحدات، التي كانت ولا تزال، دولاً مستقلة شاءت بإرادتها القومية، نكرر: بإرادتها القومية، ان تشكل تجمعاً اكبر تتجانس قومياته بروابط الحضارة والثقافة المشتركة، في امتداد جغرافي متقارب.

وبنظرة تاريخية مقارنة فإن القوميات كشخصيات جمعية عبر التاريخ غيرت اديانها ونظمها وايدولوجياتها في ضوء تجارب النجاح والاخفاق، ومتغيرات المراحل التاريخية. لكنها لم تتغير في الجوهر ككيان إنساني قائم بذاته.

كم مرت على اليونان مثلاً من عصور وثنية وفلسفية ومسيحية وعلمانية، لكن اليونان بلغتها وثقافتها ووجدانها وشخصيتها الجمعية الموحدة مازالت هي اليونان!.. وكذلك روسيا من وثنية الى أرثوذكسية وقيصرية الى شيوعية الى رأسمالية من جديد... كل هذه المعتقدات والايديولوجيات تغيرت إلا... روسيا كشخصية قومية!

ونظرا للهزائم المتوالية والمظالم المتتابعة التي تعرضت لها الأمة الألمانية الحديثة - وهي من ارقى أمم أوروبا ورائدتها في الفلسفة والموسيقا وثقافة العمل المنظم - استطاعت فكرة عنصرية كالنازية التحكم في وجدانها وواقعها فحاربت العالم كله تقريبا الى ان تحولت قصباتها الحضارية بفعل الحرب الى ركام وخرائب وتقسمت بين المعسكرين الغربي والشرقي. لكنها تحررت من عقدة النازية بعد مرارة التجربة من دون ان تتحول قيد أنملة عن قوميتها الألمانية وحنينها الى استعادة وحدتها القومية رغم هول الكارثة. لم يخرج الألمان من جلدهم القومي ولم يتنكروا لملامحهم القومية وهم يعانون الذل تحت اعلام المنتصرين من الشرق والغرب.. الى ان جاءت لحظة الخلاص فسقط جدار برلين (1989) ومعه جدار التجزئة واستعادت المانيا وحدتها القومية بثمن اقتصادي باهظ دفعه الشطر الغربي من كده وعرقه من أجل ألمانيا الموحدة التي أصبحت اليوم أقوى الدول في الكتلة الأوروبية وأحد الأعضاء الجدد المرشحين لدخول مجلس الأمن في اطار العضوية الدائمة.

ولنا أن نتساءل ونحن نقارب موضوع (العروبة في الخريطة السياسية العربية) كيف كانت الخريطة السياسية الألمانية بين 1945 1989... هل سقطت منها، هكذا ببساطة، الاعتبارات القومية؟ أم أن العمل القومي الدؤوب استمر لدى الألمان بصبر الى ان جاءت اللحظة المناسبة؟

فالقومية، إذن، لم تنقرض إلا في أوهامنا وعلى من يساورهم هذا الوهم في عالمنا العربي ان يراجعوا انفسهم ويحتكموا الى الدراسات المقارنة في حياة الأمم، وليس الى وعاظ البؤس والفجيعة.. وما يصدق على ألمانيا يصدق على ايطاليا، حليفتها في الحرب العالمية الثانية مع تجربة موسوليني الذي ضحى به المحررون الايطاليون رغم ما قدمه لإيطاليا من انجازات قومية في بداية حكمه. حدثت هذه التضحية بالرجل من أجل ايطاليا.. ومن أجل بقائها موحدة في عالم ما بعد الفاشية التي رفضت ايطاليا الانحباس في بوتقتها. والمشكلة في الفكر القومي العربي المعاصر انه يحبس مفهومه القومي في الوحدة السياسية وحدها، وهذه نقطة الضعف الكبرى في بنائه. القومية “وجود” قبل ان تكون وحدة سياسية.. “وجود” قد يحتاج الوحدة السياسية بعد حين، وقد لا يحتاجها أيضاً، أو لا يستطيعها في بعض المراحل، دون ان يعني ذلك نهايته.

كان للعرب في الجاهلية وجود، وصار لهم في ظل الإسلام وجود متغير آخر وتعددت دوائرهم السياسية مع بقائهم عرباً. ثم انكمش وجودهم في التاريخ، لكنه لم ينعدم، عندما سيطر عليهم الرعاة الآسيويون باسم الإسلام وحينها نبه الشاعر العربي المتشيع أبوالطيب المتنبي قومه العرب (وما تفلح عرب ملوكها عجم!)، قصد بذلك سيطرة الاجانب كافة، ولم يقصد عرقاً بعينه. فالأعجمي في المصطلح العربي الأصلي من لم ينطق العربية بالسليقة. وهذا يؤكد ان العروبة من حيث هي قومية حقيقة لغوية في الأصل قبل أي اعتبار آخر. وذلك ما سنعالجه فيما يتبع.



* مفكر من البحرين:
* المقالة ضمن دراسة جديدة للكاتب تنشرها فصلية (شؤون عربية) الصادرة عن الجامعة العربية

التعليقات