31/10/2010 - 11:02

القيادات الكردية ووحدة العراق../ د.عبدالإله بلقزيز

القيادات الكردية ووحدة العراق../ د.عبدالإله بلقزيز
سارع كثير من القيادات الكردية في “إقليم كردستان” الى الترحيب بقرار مجلس الشيوخ الأمريكي الذي يقترح تقسيم العراق، فيما كان يفترض أن بعض الحكمة كان مطلوباً منها اليوم حتى لا تؤخذ بجريرة الرغبة في الانفصال (هي التي كانت دائما عرضة للاتهام بسعيها الى الانفصال)، فتقيم الحجة على نفسها أمام العراقيين كافة وأمام الأتراك والإيرانيين وسائر دول الجوار المتحسسة جداً من دعوات التقسيم! بل إن الحكمة كانت مطلوبة أكثر بالنظر الى أن صدور القرار المشؤوم ليس كافياً - على ما فيه من شؤم - للاعتقاد بأن التقسيم قضي أمره وبات أمراً واقعاً لا ينتظر غير التنفيذ، ثم بالنظر الى حساسية موضوع الأكراد في العراق والمنطقة كلها وما يمكن أن ينجم عن أية محاولة من قياداتهم للانفصال حتى لو وقفت وراءه أمريكا، حتى لو دعمه سراً بعض العراقيين من غير الكرد.

من الخطأ وسوء التقدير أن يرتب المرء أحكاماً على كرد العراق كافة من وراء تصريحات سياسيين في “إقليم كردستان”، فهؤلاء مواطنون عراقيون لم يتنصلوا من عراقيتهم على الرغم من كل محاولات إدخالهم في منطق الغيتو الإثني وأقفاصه المحروسة من بعض القوى المتنفذة المدعومة من الاحتلال، لنتذكر فقط كيف استقبلوا في محافظات أربيل ودهوك والسليمانية حدث انتصار الفريق الوطني العراقي لكرة القدم في مشاهد احتفالية تفجرت فيها المشاعر الوطنية واستمطرت دموعنا. لا يفعل ذلك من يتنكر لعراقيته وتأخذه لحظة الاحتلال - وهي زائلة - الى الاعتقاد بأن مستقبله خارج كيان العراق وليس داخله. أما أن يكون قد نطق بعض قليل العدد بما يفيد الرغبة في التقسيم، فتلك مشكلة من نطق لا مشكلة من يدعي النطق باسمهم من أبناء كردستان العراق.

والحق أن الترحيب بالتقسيم لدى بعض السياسيين الكرد أتى يحرك مواجع كثيرة عند العراقيين والعرب ومخاوف مزمنة لدى بعض دول الجوار، ويعيد فتح صفحات العلاقة المضطربة بين الحزبين الكرديين (“الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني”)، وبين وحدة العراق. وهي علاقة ترددت بين الإيحاء بعراقية المطالب الكردية وبين عدم إخفاء الرغبة في تصور مستقبل كردي خارج الرابطة الوطنية العراقية الجامعة. وما كانت المراوحة السياسية بين الحدين والموقفين لتمر من دون أن تترك آثارها السياسية في داخل العراق وفي الجوار. فبمقدار ما كانت الشكوك في طوية القيادات الكردية ونياتها الانفصالية لدى العراقيين وحكوماتهم المتعاقبة تتزايد، وتترجم نفسها توجساً تركيّاً وإيرانياً من شبح الانفصال، بمقدار ما كانت تتهيأ المناخات السياسية لكف خطر الانشقاق الكردي باستعمال كل الوسائل التي تستعملها الدولة الوطنية في العالم المعاصر للدفاع عن وحدة كيانها (مثلما فعلت بريطانيا وإسبانيا مع حركات الانفصال الإيرلندي والباسكي)، وهو ما تحول الى سياسة إقليمية بتدخل تركيا وإيران في موضوع نيات الانفصال الكردي في العراق.

غير أنه بمقدار ما كان يتراجع منسوب الدعوة الى الانفصال، معطوفا على اهتجاس متزايد بتقرير مصير الكرد داخل وطنهم العراق، بمقدار ما كان باب الحوار بين السلطة المركزية في بغداد وبين القيادات الحزبية والعشائرية الكردية ينفتح ويفرج عن ممكنات سياسية ما حصل لغير كرد العراق ان حلموا بها يوماً: مثل الحكم الذاتي. ومع أن مثل ذلك الحوار، ومثل تلك الممكنات، ما كان يلقى الترحيب من بعض دول الجوار ممن توجد كتلة سكانية كردية داخل كيانها الإقليمي، بل غالبا من كان يلقى الرفض الصامت او الجهير منها حذر أن تنتقل عدوى الامتياز الكردي العراقي (الحكم الذاتي) الى جدول أعمال الحركة الكردية خارج العراق، إلا أن مجرد رؤية المطالب الانفصالية تنكفئ أو تتراجع، كان عَسِيّاً بطمأنة هواجس دول الجوار الى حد أو التخفيف من غلواء تحريض العراق على كرده.

ومن يلقي اليوم نظرة تقويمية على أداء القيادات الحزبية الكردية في العراق خلال الخمسين عاما الأخيرة (منذ الثورة العراقية عام 1958) سيلحظ أنها أهدرت الكثير من الفرص التاريخية لتحقيق مطالب الشعب الكردي داخل وطنه العراق بكثير من المكاسب وبقليل من الخسائر. وما أهدرتها إلا من وراء غليل الفكرة الانفصالية في نفس تلك القيادات التي منعتها من الاستقرار على مطالب وطنية وديمقراطية واقعية وممكنة التحصيل، بل ومقبولة - في الكثير من الأحيان -من النخب الحاكمة في بغداد ومن الأعم الأغلب من الأحزاب العراقية. لقد كان يمكن لشعار “الديمقراطية لكل العراق والحكم الذاتي للأكراد” أن يقدم الكثير للمطالب الكردية، ويسحب التحفظ والتوجس من أية سياسة رسمية عراقية، بل وأن يوفر لتلك المطالب حاضنة شعبية عراقية ودعما سياسيا من الحركة الوطنية. وقد حدث فعلا شيء من ذلك في بعض الفترات وأتى إعلان قانون الحكم الذاتي، ثم إقرار الاتفاق الخاص به يتوج تلك الدينامية التي أطلقتها المقاربة الوطنية والواقعية لتلك المطالب على قاعدة الشعار إياه، لكن ذلك حدث في زمن يتيم من تاريخ الملف المطلبي الكردي ممتد بين نهايات الستينات ونهايات النصف الأول من السبعينات، ثم لم تلبث الشكوك أن عادت وعادت معها الأوهام، والصدام.

من السهل تماماً أن تنحي القيادات الحزبية الكردية باللائمة على حكومات العراق منذ عبدالكريم قاسم حتى صدام حسين، فتحملها مسؤولية المأزق والمواجهات. ولكن هل تساءلت هذه القيادات يوماً عن السبب وراء صدامها المستمر مع كافة قوى الحركة الوطنية العراقية (من شيوعيين وقوميين وبعثيين) أو صدام تلك القوى معها؟ هل كان العراقيون جميعاً على خطأ ما عداها وحدها؟ هل كان موقفهم منها موقفاً من مطلب الحكم الذاتي أو من الحقوق القومية داخل إطار الكيان العراقي الواحد أم موقفاً من فكرة الانفصال التي لا تكاد تبارح مخيالها؟ هل جربت مرة أن تعيد النظر في سياسة محالفة الخارج (إيران الشاه، الولايات المتحدة)، قصد تحقيق مطالب لم تكن تعني للعراق غير تمزيق كيانه، ولم تكن تستجر غير المآسي للمواطنين الكرد الذين يدفعون ثمن طموحات غير واقعية تنوء بحملها أوضاع العراق والأوضاع الإقليمية برمتها.

لا يبدو أن هذه القيادات تتعظ بدروس التاريخ، ها هي تكرر اليوم الخطأ نفسه على الرغم من أن أحداً لم يستفد من “كعكة الوطن” بعد احتلاله ودماره أكثر من استفادتها هي منه، لكن الوطن باق والاحتلال الى زوال.
"الخليج"

التعليقات