31/10/2010 - 11:02

المفاوضات التي لا تريدها "إسرائيل"/ عبد الإله بلقزيز

المفاوضات التي لا تريدها
قبل عشر سنوات أو يزيد قليلاً، كانت “إسرائيل” دارجة على مطالبة العرب، ودول الجوار العربي لفلسطين خاصة، بالدخول معها في عملية تفاوض سلمي تقود إلى تسوية سياسية للصراع العربي- “الإسرائيلي”. فعلت ذلك مع مصر بعد حرب أكتوبر فانتهى الأمر إلى مفاوضات “بلير هاوس” و”اتفاقية كامب ديفيد” 1979. وفعلت ذلك مع لبنان بعد غزوه وحصار عاصمته في صيف العام 1982 فانتهى الأمر إلى مفاوضات خلدة والخالصة المحتلة ليجري توقيع “اتفاق 17 مايو” 1983. وفعلت ذلك مع منظمة التحرير الفلسطينية والأردن بعد انعقاد مؤتمر مدريد فانتهى الأمر- بعد مفاوضات واشنطن- إلى توقيع “اتفاق أوسلو” و”اتفاق وادي عربة”.

ولم تكن “إسرائيل” حينها لتخسر شيئاً من تلك المفاوضات، فهي تملك القوة الأرجح في ميزان القوى الإقليمية وتحتل الأرض، وهما معاً (القوة والاحتلال) يسمحان لها بإملاء شروطها على العرب وحملهم على القبول بها. بل لقد كان لديها دائماً ما تربحه من تلك المفاوضات، وأول ذلك الذي تربحه منها الاعتراف بشرعية قيامها كدولة على أرض فلسطين، وهو ما سلمت لها به اتفاقات “كامب ديفيد” و”الاتفاق اللبناني- الإسرائيلي” و”أوسلو” و”وادي عربة”.

نعم، كان عليها أن تخسر شيئاً في تلك المفاوضات والاتفاقات، ومن ذلك بعد الأرض التي احتلتها عام 1967 (سيناء، غور الأردن، بعض الضفة وبعض غزة) لكن هذه ليست خسارة في حساب الأشياء لأن هذه الأراضي عربية محتلة، ولأن الخروج منها يرتب ل”إسرائيل” مكاسب ما كانت تحلم بها: الاعتراف بكيانها، تجريد المناطق العربية التي جلت عنها من السلاح، إنهاء حالة الحرب وتطبيع العلاقات، وإدخال الدولة العبرية في النسيج الإقليمي والاقتصادي العربي.. الخ. ثم إنها كانت تستطيع دائماً أن “تسترد” ما خسرته إن شاءت على نحو ما فعلت في مارس/آذار وابريل/نيسان 2002 حين أعادت اجتياح مناطق الضفة الغربية المشمولة حينذاك بالحكم الذاتي.

لكن “إسرائيل” توقفت منذ نهاية العقد والقرن الماضيين عن أن تطالب أحداً من العرب بالمفاوضات. العرب هم الذين باتوا يطالبونها باستئناف المفاوضات معهم و”يوسطون” الولايات المتحدة الأمريكية لاقناعها بذلك، و”إسرائيل” عن مطالباتهم وتوسلاتهم معرضة، قبل سنوات، كانوا يقبلون التفاوض بشروط (استئناف المفاوضات من النقطة التي انتهت إليها، وقف الاستيطان..) ثم أصبحوا يقبلونها من دون شروط، والآن ها هي “إسرائيل” من يضع الشروط عليهم للتفكير في العودة إلى المفاوضات (تدمير البنية التحتية للمقاومة في فلسطين، طرد قيادات فصائل المقاومة وأطرها ومكاتبها من دمشق، وقف دعم حزب الله في لبنان)، وما خفي أعظم!

ليس في الأمر مفارقة ولا مدعاة للاستغراب، فالدولة العبرية التي كانت تسعى إلى التفاوض حتى لا تجد نفسها فجأة أمام حالة حرب كاملة كما في العام 1973 أو جزئية كما في الأعوام 1978 و1982 و،1991 لم تعد تخشى مفاجآت عسكرية تأخذ أمنها على حين غرة، بعد أن انقلبت الموازين الدولية والإقليمية لمصلحتها (انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي، تدمير العراق) والدولة العبرية التي كانت مشغولة بتحصيل الاعتراف العربي بها كياناً مقبولاً في قلب بلاد العرب، وكانت مستعدة لتقديم بعض “التنازلات” الجزئية لقاء الحصول عليه، باتت في غنى عن الاهتمام بالأمر بعد أن تقاطر الاعتراف العربي بها مجاناً ومن دون مقابل، وتدافع المتدافعون بالمناكب ليسبق بعضهم بعضاً إلى إقامة علاقات التطبيع الدبلوماسي والاقتصادي والتجاري معها قبل أي انسحاب من الأراضي المحتلة! والدولة العبرية التي كانت مضطرة أحياناً- كما في “مؤتمر مدريد” أو في مفاوضات “كامب ديفيد الثانية” 2000- إلى الامتثال لبعض الضغوط الأمريكية عليها، لم تعد تجد في إدارة المحافظين الجدد في أمريكا من يملك أن يأمرها، بل أمست تجد فيها خير شريك لها في تصفية حقوق الفلسطينيين والعرب.

حين تجتمع هذه الأسباب كافة فتوفر ل”إسرائيل” أوضاعاً امتيازية تجاه العرب المطالبين إياها بالنزر القليل من حقوقهم، فلماذا تستمر في التعويل على مفاوضات لن يكون من شأنها سوى دفعها إلى ما لا تريده (تقديم تنازلات جغرافية أو ترابية للعرب) ما دام يسعها أن تستمر في احتلال القدس والضفة والجولان ومزارع شبعا من دون أن تعرض نفسها لكبير ضغط؟ ربما حملتها نتائج حرب أكتوبر على أن تتفاوض مع مصر، وحملتها “الضغوط” الأمريكية- عشية “مؤتمر مدريد” - على أن تتفاوض مع سوريا والأردن ومنظمة التحرير. أما وان عقيدة القتال، التي أنتجت أكتوبر، ذهبت إلى رحمة الله منذ ثلث قرن، و”الضغوط” الأمريكية تراجعت، بل اختفت، فقد بات في حكم الانتحار السياسي بالنسبة إليها أن تفتح على نفسها باب المفاوضات من جديد. ولسوريا والسلطة الفلسطينية أن تتحدثا، ما شاء لهما الحديث، عن التفاوض والتسوية و”السلام”، ولها- هي وشريكها الأمريكي- وضع شروط للتفاوض تعادل في حساب الأشياء، إسقاط مبدأ التفاوض.

هل هي مشكلة “إسرائيل”؟ لا، هي قطعاً مشكلة من يعتقدون أن التفاوض معها خيار ممكن ووارد من دون مقدمات تصنعه كإمكان. ومن النافل القول إن في مقدم تلك المقدمات عامل القوة. إذ تشهد الخبرة التاريخية بأن شعباً من شعوب الأرض ما أفلح في حمل عدوه على مفاوضته إلا بقوة مادية أقنعت ذلك العدو بأن التفاوض أحسن عاقبة من المواجهة. وتشهد بأن ذلك الشعب ما أفلح في كسب معركة التفاوض وحمل عدوه على التسليم بحقوقه إلا بقوة “مادية” أقنعت العدو إياه بأن التسليم بتلك الحقوق أقل كلفة من المعاندة. والعرب في الحالين لا يملكان ما به يفرضون التفاوض ويفرضون شروطهم- وحقوقهم- في التفاوض. وكان خطأهم في أنهم أدخلوا سيوفهم في أغمادها وأدخلوا رؤوسهم في نفق التفاوض، ثم صار خطأهم في أنهم تفاوضوا دون ميزان قوى يرفدهم ويحمي مطالبهم، وها هو خطأهم يتحول إلى خطيئة: يتسولون مفاوضات بأي ثمن.. ومن دون ثمن!

التعليقات