31/10/2010 - 11:02

المقاومة بالموسيقي / رشاد ابو شاور

المقاومة بالموسيقي / رشاد ابو شاور
تربض دبّابات (المركافا) الثقيلة، زنة 65 طنّاً حول عمارة في شارع الإرسال بمدينة (رام الله)...

شارع الإرسال قديم، يحمل اسمه من هوائيات الإرسال العملاقة التي استخدمت في تقوية البث الإذاعي منذ زمن الانتداب...

في تلك البناية المحاطة بالدبابات السبع الهائلة، المثيرة للفوضي والغبار، المزعجة الهدير، يعيش فلسطيني متعلّم مثقّف، قضّي سنوات في ألمانيا حيث أتقن الألمانيّة لغة غوته ، و شيلر صاحب نشيد الإنسانيّة الذي اختتم به بيتهوفن رائعته الخالدة السيمفونيّة التاسعة. الفلسطيني هذا عاش في بريطانيا وأتقن لغة شكسبير وعمل في إذاعة لندن BBC، ثمّ استقّر في رام الله ليعلّم في معهد الإعلام بجامعة (بيرزيت)، وليعاني مع شعبه من الحصار الخانق، من احتلال يضع سبطانات مدافع دباباته وراء زجاج النوافذ، ويهجج العصافير والحمام من فضاء المدينة، فلا تتبقي للفلسطيني سوي مساحة صغيرة يتحرّك فيها منتظراً فجر الحريّة...

وهو داخل شقّته، قاوم عارف حجّاوي ضوضاء دبّابات الاحتلال بالموسيقي. وسّع مساحة شقّته بالموسيقي، تواصل مع العالم والإنسانيّة بالموسيقي...

الضوضاء في الخارج، الضوضاء التي بددت سكينة شوارع رام الله، الضوضاء عدوة النظام والانسجام، المستفزّة العدوانيّة تقتحم الشوارع لتتسيّد علي حياة الفلسطينيين.

الفلسطيني المحشور في شقّة ضيّقة يوسّع الحياة بالموسيقي، بأعظم ما أبدعه العقل والروح الإنسانية لينظّم تواصله مع الدنيا، مع الناس في العالم الفسيح، مع كل ما يجعل الحياة أ كثر رفعة من الفوضي والضجيج والجلبة، والصخب والعنف، والعدوانيّة...

الدبابات تحشر الفلسطيني في أمتار إسمنتية وحجرية تضيق عليه بسبب إغلاق النوافذ، ودوي الآباتشي، وزخّات الرشاشات، وصراخ الجرحي في الشوارع، والنواح والبكاء الفلسطيني، ومروق سيّارات الإسعاف التي لا توحي بإنقاذ حياة، بل تنبئ بموت بشر...

يقاوم حجّاوي هذه الفوضي والضوضاء المعادية لروح الإنسان وانسجامه وطمأنينته بالموسيقي، لا ليستمتع حسب، بل ليجعلها رسالة أهله الفلسطينيين إلي العالم، لذا لا يكتفي بالإصغاء تزجية للوقت، بل يعمل للتغلّب علي فوضي الدبابات وقبح أشكالها، يشمّر عن ساعديه ويبدأ في تحضير برنامج موسيقي كبير لتبثّه الإذاعات الفلسطينيّة الكثيرة في الضفّة وقطاع غزّة الفلسطينيين، وليستمتع به ـ من بعد ـ من يتابعون تلك الإذاعات التي يصل إرسال بعضها إلي الأردن...

يقلّب عارف حجّاوي المصادر والمراجع بحثاً عن معلومات أوفي عن أساطين الموسيقي العالميّة، عن أسرار ومكابدات وطرائف في حياتهم، أمزجتهم، ظروف كتابتهم لأعمالهم، ويدوّن كلّ شيء. ينتشي بالموسيقي، يري باريس، برلين، فيّينا، لندن، روما، موسكو.. وهو يسبح في عالم الموسيقي التي أبدعها بشر من جنسيات مختلفة، لغاتهم مختلفة، و..إنسانيتهم واحدة، إنسانيتهم التي تجمعهم، وتصل العربي الفلسطيني المحاصر بهم.

في الخارج تجثم (المركافا) بينما دبّابات أصغر، مكعّبة الشكل قبيحة المنظر ـ كما يصفها عارف حجّاوي علي غلاف الـ CD الذي صدر بالمختارات التي تقوّي بها علي القبح والاحتلال ـ تذرع الشارع ليل نهار.

أنجز عارف حجّاوي في أيام الحصار سلسلة موسيقيّة، فيها مختارات من أعمال مشاهير الموسيقيين الكلاسيكيين العالميين، مع مقاطع من سيمفونياتهم، ومعزوفاتهم الذائعة الصيت، أوغير المعروفة للمتذوّق العادي.

171 قطعة موسيقيّة من أعمال 55 موسيقاراً ذائع الشهرة.. لبيتهوفن، وبرامز وكارل أورف، وموتسارت، وباغنيني، وبروكوفييف، وليست، وهايدن، وشوستاكوفتش.. ومشهورين آخرين، وأقلّ شهرة بالنسبة لنا نحن غير المتعمقين في أسرار الموسيقي، المتذوقين لها بعفوية.

يدهشنا عارف حجّاوي بالمعلومات الطريفة عن غرائب سلوكيات عمالقة الموسيقي، فبيتهوفن مثلاً يعدّ قهوته بنفسه، يشتريها، يحمّصها دون مساعدة من أحد، وهو يحمّص 60 حبّة عدداً لفنجان قهوته الصباحي..لماذا 60 حبّة؟ لا أحد يعرف، ولكن عارف حجّاوي الذي قرأ الكثير عن بيتهوفن، وعرف مزاجه في (القهوة) ظّل ينبش في المراجع حتي عرف عدد الحبّات من إحدي المقالات الموسيقيّة الموثقة عن مزاج العبقري بيتهوفن.

بعد رحيل الدبابات الثقيلة القبيحة الفوضويّة الحضور، بثّت تلك المسلسلة من عدّة إذاعات محليّة فلسطينيّة، في برنامج باسم موسيقي وضوضاء: رحلة الموسيقي الكلاسيكيّة ...

تجربة عارف حجّاوي في المقاومة الموسيقيّة جديرة أن تنقل إلي السينما في فيلم قصير يستفيد من الوثيقة ويمزجها بالحكاية الدراميّة البسيطة والعميقة، ليكون رسالة للعالم العربي، فالفلسطيني المحاصر بالدبابات يعكف علي مراجع الموسيقي العالميّة باللغتين الألمانيّة والإنكليزيّة، يستقصي، ينبش، ثمّ يختار المعزوفات الغنيّة بالدلالات الإنسانيّة.. بينما الدبّابات وراء النوافذ..رائحة وقودها الكريهة تقتحم فضاء الغرف، تلوّث الأجواء، تمتزج مع الهدير..في حين يحلّق الفلسطيني مع إبداعات البشر...

يقاوم عارف حجّاوي وحيداً في شقّته، ثمّ يقوم بدور تثقيفي تنويري في مواجهة الدبابات التي وإن انسحبت فإنها ربّما تعود...

الفلسطيني الأعزل، بقليل من الماء والطعام، وفي فضاء شديد الضيق يواجه دبابة المركافا (الإسرائيلية) بـ..الموسيقي...

بالتعاون مع جامعة بيرزيت، أصدر معهد الإعلام في الجامعة (CD) يضّم هذا الجهد الخلاّق، مع تعريف بكّل موسيقار، وشرح للمختارات، وبغلاف أنيق...

في طريقه إلي السويد مرّ عارف حجّاوي بعمّان، ومعاً أنا وهو وصديقنا المهندس توفيق ارشيد زرنا دار الفارس ـ فرع المؤسسة العربيّة ـ لنلتقي بصديقنا ماهر كيّالي مدير الدار، وكان عارف يحمل كتاباً يريد نشره...

أخذنا الحديث إلي الموسيقي، فاستذكرت ما كان يقدّمه الراحل الكبير الدكتور حسين فوزي من البرنامج الثاني ـ إذاعة القاهرة في أيام عزّها ـ وكان يثقف المستمعين العرب شارحاً أسرار الموسيقي الكلاسيكيّة في حلقات جمعها في كتاب الموسيقي السيمفونيّة صدر في القاهرة منذ زمن بعيد، ولقد حرص المجمّع الثقافي في دولة الإمارات العربيّة علي إصدار الكتاب في شريطين بصوت الدكتورة دريّة شرف الدين.

تحمسنا مع ماهر الكيالي لفكرة إصدار هذا العمل والجهد الكبير في كتاب، خّاصة وصديقنا عارف حجّاوي أخبرنا بأنه اختصر كثيراً من المعلومات عن الموسيقيين وظروف عملهم، وحياتهم، وما واجههم لتتناسب مع حجم برنامجه المذاع، وحجم الـCD...

رحلت دبابات الميركافا، وفتح الفلسطيني نوافذ بيته، فملأت موسيقي السيمفونيّة التاسعة فضاء رام الله، ومع دوّي نشيد الإنسانيّة خرج الفلسطيني إلي الشارع ليستأنف حياته من جديد، وهو ينشد مع بيتهوفن وشيلر:

أعانقكم يا ملايين البشر
هذه قبلة لكّل العالم
لابدّ أن هناك راعياً
محباً يسكن فوق قبّة السماء
المرصّعة بالنجوم

التعليقات