31/10/2010 - 11:02

المنطق القانوني عند لويس بن رامبو بن أوكامبو!../ محمود المبارك*

المنطق القانوني عند لويس بن رامبو بن أوكامبو!../ محمود المبارك*
اللقاء الذي أجرته قناة «العربية» مساء الثلاثاء الماضي مع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أثار انتباهي من حيث وقاحة الرجل الذي كان يجب عليه أن يختفي في الدور الأسفل لبناية المحكمة الجنائية الدولية حتى آخر نفس في حياته، بعد أن بدأت رائحة فضائحه تنتشر في كل أرجاء الدنيا كما تنتشر النار في الهشيم.

ذلك أن المدعي العام الذي رفع مذكرة طلب القبض على الرئيس السوداني الأسبوع الماضي، لاتهامه بارتكاب جرائم حرب في دارفور تشمل جريمة إبادة جماعية، زعم في لقائه التلفازي، أنه - بهذا العمل - يقوم بـ «بناء المؤسسات القانونية للقرن القادم»، وأنه يريد أن يضع حداً لجرائم الإبادة للبشر حين قال «أنا براغماتي جداً. وأود أن أوقف الإبادة الجماعية».

وكمتابع لجرائم الإبادة الجماعية منذ زمن بعيد، وبصفتي من أهل الاختصاص في القانون الدولي، فقد استوقفتني مقولة الخبير الجنائي الدولي، وأثارت لدي لواعج الشوق لمعرفة تفاصيل الخطة التي يزعم سيادته، أنها ستضع حداً لجرائم الإبادة الجماعية في هذا الكون!

وعلى رغم أن تفاصيل لقائه لم تشر لا من بعيد ولا من قريب إلى الكيفية التي سوف يتم بها وضع حد لجرائم الإبادة الجماعية، إلا أنه من الواضح أنه كان يشير إلى أن محاكمة الرئيس السوداني سوف تكون رادعاً لغيره من زعماء الدول من ارتكاب جرائم إبادة مستقبلية.

ولست أدري ما إذا كان سيادة المدعي العام، الأكثر شهرة في العالم اليوم، غبي بطبيعته أم هو يتغابى حين يزعم أن محاسبة «مجرمي الحرب» في دولة لا تعتبر بأي معيار من المعايير السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية دولة ذات أهمية، كفيل بأن يفتح عهداً جديداً من فرض القانون الدولي، ويضع حداً لجرائم الحرب غير المنتهية في العالم!

ولكن بطبيعتي كقانوني محايد، فقد أحسنت الظن في المحامي الأرجنتيني الذي ترعرع في أقصى بلاد الكرة الأرضية، وحاولت التماس العذر له في عدم متابعته لجرائم الإبادة المتكررة خصوصاً في السنوات الأخيرة، إلا أنني – حين عدت إلى نفسي - وجدت من الصعوبة على أستاذ القانون الجنائي السابق في جامعتي هارفرد وستانفرد، أن يكون في معزل عن ما يعرفه الجاهل قبل المتعلم من جرائم الإبادة غير المسبوقة، التي قامت ولا تزال تقوم بها الدول العظمى كالولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا، إضافةً إلى عدد من الدول الصغرى كإسرائيل وإثيوبيا، على مسمع ومرأىً من وسائل الإعلام العالمية كلها! إذ كيف يمكن للحقوقي الدولي، المؤتمن على الدفاع عن المستضعفين من المعتدى عليهم في أرجاء المعمورة، أن يكتفي بمجرد محاكمة زعيم أفريقي، ويترك بقية المجرمين الحقيقيين يسرحون ويمرحون ويدوسون القانون الدولي ويركلونه بأقدامهم، من دون أن يحرك ساكناً؟!

ومن يدري، فربما كان لدى رجل القانون الجنائي الدولي، انقلاب في موازين الفكر، واختلال في مقاييس العدل، حين يؤكد أن محاكمة الذين قاموا بانتهاكات جرائم الإبادة الجماعية - التي يزعم أنها وقعت في تلك الرقعة النائية في أفريقيا – كافٍ لإقامة العدل بين الناس!

هذا الانقلاب في الموازين والاختلال في المقاييس، بدا واضحاً في عقلية الرجل الذي رفض أكثر من 240 طلباً للنظر في الجرائم الأميركية – البريطانية في العراق، والتي تشمل جميع أنواع جرائم الحرب التي تشقى منظمته القضائية بالبحث عنها.

ففي خطاب من السيد أوكامبو ذاته، في شهر شباط (فبراير) 2006، اعتذر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية عن قبول النظر في تلك الطلبات، كون بعضها لا يقع تحت اختصاص محكمته، وبعضها الآخر غير خطير! ليظهر سيادته في مظهر المدافع والمبرر لتلك الجرائم والانتهاكات القانونية الدولية!

وواقع الأمر أن رد السيد أوكامبو - الذي يتكون من عشر صفحات ومتوافر في موقع المحكمة الجنائية - يعد من الناحية القانونية الدولية - وثيقة إدانة من الدرجة الأولى للرجل الذي تقع على عاتقه محاسبة المجرمين الدوليين وليس الدفاع عنهم، حيث رفض قبول جميع الأدلة التي تشير إلى إدانة الولايات المتحدة وبريطانيا في تورطهما في جرائم حرب في العراق!

ومن هذا يتبين أن السيد أوكامبو، كما أشار إلى ذلك المحقق القانوني البريطاني الشهير، جوشوا روزنبرع، في مقال نشر في جريدة «الديلي تلغراف» الخميس الماضي، غير مؤهل لشغل المنصب الذي أنيط به في أقل تقدير.

وبحسب مقال رزنزبرغ - وهو صحافي يهودي بارع، لا يمكن أن يتهم بانحيازه للدول العربية أو الإسلامية – فإن أوكامبو الذي كانت المحكمة الجنائية الدولية مشغولة بالنظر في تهمة «تحرش جنسي» موجهة ضده، ربما أراد صرف الأنظار عنه في هذا الوقت بالذات، خصوصاً أن أوكامبو قد قام بإقالة المتحدث الإعلامي في مكتبه الذي أثار تلك الفضيحة ضده وتبعاً لذلك حكمت محكمة أخرى على أوكامبو بأنه قد قام بـ «خرق الإجراءات القانونية المتبعة» في مثل هذه الحال، ومن ثم حكمت محكمة إدارية تابعة لمنظمة العمل الدولية على أوكامبو بتغريمه ما يقارب مبلغ مئة ألف جنيه استرليني، قامت المحكمة الجنائية الدولية بدفعها نيابة عنه!

وإذا ثبتت تلك التهمة، فلعل في هذا ما يكفي للدلالة على غباء الرجل، الذي بدا ساذجاً في مواقف كثيرة ليس آخرها لقاؤه في «العربية». من تلك المواقف تكرار دعوته للدول العربية في الانضمام إلى منظمته القضائية، في الوقت الذي يعلن فيه عزمه القبض على زعيم عربي، لا يختلف حاله كثيراً عن حال الغالبية العظمى من إخوته الزعماء العرب!

إشارة أخرى إلى غباء أو ربما تغابي المسؤول الجنائي الدولي جاءت في ثنايا لقائه مع «العربية» حين زعم أن في إيقاف البشير ومحاكمته «فرصة للوطن العربي كي يوقف المعايير المزدوجة في التعامل القانوني الدولي»! ولست أدري بأي عين – غير عين العدالة الغربية – يرى أوكامبو أن في محاسبة الزعماء العرب وحدهم من دون غيرهم، «فرصة لإيقاف المعايير المزدوجة»؟!

كما أنني لست أدري كيف يفوت أي متابع اليوم لأحوال الأمة العربية، أنه وبغض النظر عن الجرائم التي ربما يكون قد ارتكبها أي زعيم عربي، خصوصاً بعد تجربة إزاحة صدام حسين، أن مجرد استعداء واستهداف أي زعيم عربي من الولايات المتحدة، والدول الغربية، كفيل بأن يرفع شعبيته عالياً في أعين الشعوب العربية والمسلمة.

المضحك في الأمر، هو أن صاحبنا في مقابلة أخرى أجرتها معه صحيفة أرجنتينية محلية قبل ستة أشهر، أعرب عن استغرابه عن وصول قادة بعض الدول إلى مناصبهم، حين قال: «لست أدري كيف يسمح العالم بوصول مسؤولين دوليين إلى هذا المستوى»! وأنا وإن كنت أعلم أنه استغرابه هذا لا يشمل وصول أمثال بوش وبلير وشارون في مناصبهم، إلا أنني أستغرب لوصوله هو في مثل هذا المنصب!

ولعله من المثير للسخرية أن صاحبنا هذا مرشح لنيل جائزة نوبل للسلام لهذا العام، والتي لا أظن أن أحداً آخر سيتفوق عليه بحسب المعايير الغربية! وفي ظني أنه خير من ينتسب إليها، ولو كان الأمر بيدي لأعطيته جائزة نوبل اليوم قبل موعدها. ذلك أن السويدي ألفريد نوبل في الأصل، هو أول من اخترع الديناميت المتفجر عام 1867، وقد أوصى بثروته التي حصل عليها من هذا الاختراع بأن تصب في أمور أهمها وضع هذه الجائزة.

وتبعاً لذلك، فلا غرو أن ينال أوكامبو جائزة نوبل، مخترع المتفجرات، ليضمن لنفسه مكاناً في التاريخ مع شارون وبيغن والسادات وغيرهم، فقد فجر أكبر قنبلة قانونية دولية في وقته!
"الحياة"

التعليقات