31/10/2010 - 11:02

النكبة قبل 1948 وبعدها../ إلياس سحاب

النكبة قبل 1948 وبعدها../ إلياس سحاب
اعتاد العقل السياسي العربي، على اسلوب اختصار الاحداث التاريخية الكبرى في الحياة العربية المعاصرة، بالمحطات التاريخية الكبرى، مع ميل واضح لإهمال دينامية المسيرة السياسية التفصيلية بين محطة وأخرى، مسقطا بذلك الدرس الكبير للتاريخ الذي يقول إن الدينامية السياسية (والحضارية والاقتصادية والثقافية) هي التي تصنع في النهاية المحطات التاريخية الكبرى وتحدد ملامحها، وليس العكس.

بمعنى آخر، ليس نص وعد بلفور، الذي لا يتعدى كونه رسالة ذات سطور قليلة من وزير خارجية بريطانيا لثري صهيوني، الصادر عام 1917، ليس هذا النص هو المسؤول عن ولادة المحطة التاريخية التالية محطة النكبة عام 1948 (التي نستعيد في هذه الايام ذكراها الستين)، لكن الذي حدد موعد وحجم المحطة التاريخية الجديدة (التي اسميناها النكبة)، هي التفاصيل اليومية التي انتجتها المسيرة السياسية (والحضارية والاقتصادية والثقافية) لأطراف الصراع الثلاثة: الدولة المنتدبة، العرب والفلسطينيون، والحركة الصهيونية، فيما بين 1917 و 1948.

وليس هذا الكلام تعبيراً عن اجتهاد ذهني نظري، بقدر ما هو حصيلة عملية لقراءات متعددة في وثائق تلك المرحلة الخطيرة والحساسة فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأوراق صحفها والمذكرات السياسية التي روت احداثها اليومية.

أهم ما يلفت نظر قارئ احداث تلك الحقبة، خطان متوازيان لمجرى الاحداث:

* الخط النظري، الذي كان يتمثل في الحركة السياسية لأطراف الصراع الثلاثة، كما كان يعبر عنها في المؤتمرات المحلية والدولية، والمحافل الدولية المختلفة، وعلى رأسها في ذلك الحين منظمة "عصبة الأمم". وهي حركة مدونة في وثائق سياسية متنوعة لعل اشهرها الكتاب الابيض الذي اصدرته الحكومة البريطانية على اثر ثورة 1936ـ 1939 الكبرى، والذي اعطت فيه انطباعاً كاذباً بالسيطرة على كثافة تدفق الهجرة اليهودية، ووضع حد شبه نهائي لها.

* الخط العملي، الذي لم يكن سوى تطبيق دقيق من سلطات الانتداب البريطاني، لكل ما من شأنه وضع وعد بلفور (بأقصى طموحاته وأحلامه) موضع التنفيذ الفعلي على ارض فلسطين.

إن مما يشد انتباه قارئ يوميات تلك الحقبة، على سبيل المثال لا الحصر، ان قرار التقسيم، الذي تعودنا على تحديد ولادته بتاريخ 29/11/1947، عن هيئة الامم المتحدة، كان مشروعا قائما منذ الثلاثينيات، يتم تداوله ليس فقط بين وزارات خارجية الدول الكبرى، بل ايضا في أروقة المنظمة الدولية المعروفة يومها باسم «عصبة الأمم».

والذي يتابع أخبار مشروع التقسيم في مساره السياسي القديم، يلاحظ ان هذا المشروع طالما ترنح بين احتمالات تبنيه تبنياً كاملاً من قبل المجتمع الدولي، واحتمالات إلغائه نهائياً، باعتباره مشروعاً لا يؤدي الى حل المشكلة، بل الى تعقيدها.

وبين أوراق تلك الحقبة مشاريع جدية مناقضة للتقسيم، اهمها فكرة اقامة دولة واحدة في فلسطين، ذات غالبية عربية وأقلية يهودية (وفقاً لنسبة عدد السكان في ذلك الوقت). وهي فكرة تم التداول فيها بجدية سنوات طويلة في بعض الدوائر الغربية الكبرى. حتى أن المسار السياسي النظري للصراع، شهد فترات كانت فيها الغلبة لمشروع الدولة الواحدة ذات الغالبية العربية، على مشروع التقسيم.

أكثر من ذلك، مرت فترة بدأ يسود فيها نوع من التفاؤل بالتخلي نهائياً عن فكرة التقسيم، الى درجة إلغاء وعد بلفور كوثيقة اساسية من وثائق الانتداب البريطاني على فلسطين. بل إن الامر كثيراً ما وصل بالمنظمة الصهيونية العالمية، حد اعلان اليأس من القدرة على إنجاز حلم دولة يهودية في فلسطين.

لكن ما الذي حول كل هذه الاحتمالات الايجابية عربيا، الى دخان ما لبث ان تبخر في الهواء، وتمخض في النهاية عن نكبة 1948؟

إنه بكل بساطة، كما يبدو لقارئ يوميات تلك الايام، ذلك التناقض الكامل بين المسيرة السياسية النظرية، والمسيرة العملية على أرض الواقع، التي كانت ثمرة الحركة الحقيقية للأطراف المتصارعة الثلاثة على أرض القضية، وليس في أروقة مؤتمراتها.

ففي الوقت الذي كانت فيه سلطات الانتداب البريطاني، والحركة الصهيونية الدولية، تنجزان في مسيرتهما العملية على أرض الواقع، خطا ثابتا باتجاه الهدف، يجعله في كل يوم، أقرب من اليوم السابق، كان الجانب العربي (ومن ضمنه الجانب الفلسطيني)، يغرق في حالة تخبط عاطفي لم يرتفع في يوم من الايام الى استراتيجية عمل موحدة، بعيدة المدى، تضع الحركة السياسية اليومية، في خدمة الأهداف البعيدة.

ومما كان يضاعف من مفاعيل هذا الخلل العربي والفلسطيني العام، خلل فظيع آخر في أداء القيادات الفلسطينية نفسها، كان يتميز بحالة تناحر وتنابذ فيما بين القيادات الوطنية نفسها أصلا، ثم فيما بين القيادات الوطنية وتلك المتعاونة مع الانتداب (وبعضها كان يتقرب من الحركة الصهيونية)، وهو صراع كان جوهر التناحر المسبق على سلطة لم تأت بعد، أو على وجهات اجتماعية فارغة أدنى بكثير من مستوى القضية وجديتها، وهي أوهام لم تحقق على كل حال، حتى بعد ستين عاما على ضياع فلسطين.

إن أفدح ما في الخللين المذكورين، على الصعيدين العربي والفلسطيني (غياب الاستراتيجية العامة، والتناحر المدمر بين القيادات)، أنهما ما زالا يعيدان إنتاج نفسيهما بصورة أقبح وأشد سلبية وضررا، في مواجهة نجاح متواصل في الحركة السياسية العملية للحركة الصهيونية، بعد ان غيرت ظهيرها الدولي الرئيسي من لندن الى واشنطن.

خلاصة الامر أن وعد بلفور (1917) وتسليم الانتداب البريطاني فلسطين للحركة الصهيونية (1948) كانا مجرد إعلان عن الفشل العربي بحد ذاته( سابقاً ولاحقاً) الذي كان وما زال في أساسه مسؤولية عربية ـ فلسطينية، يترجم الحصيلة الطبيعية لأساليب الربط الفاشل بين الحركة السياسية اليومية والأهداف البعيدة المدى، وهي أساليب واضح اننا لا نجيدها بعد، ولا نأخذ أي عبرة من تجاربنا السابقة الفاشلة فيها.
"السفير"

التعليقات