31/10/2010 - 11:02

الهبّة.. ما بين المطلبي، والقومي../ صالح علي

الهبّة.. ما بين المطلبي، والقومي../ صالح علي
من الواضح أن الهبة الشعبية العربية لدى فلسطينيي الداخل في تشرين الأول من العام 2000 قد شكلت تطورا نوعيا على المستوى السياسي غير "المطلبي"، فهل من الممكن تشخيص العامل أو العوامل المباشرة وراء انطلاقها؟ هل كان ذلك هو مذبحة الأقصى في اليوم الذي تلا اقتحام شارون للحرم الشريف؟ هل هي صورة الطفل الشهيد ( محمد الدرة ) في أحضان والده؟ هل هي التغطية الإعلامية المفصلة لهذه الأحداث، أم بالإمكان القول أن هذه العوامل مجتمعة هي التي أدت إلى انطلاق الشرارة الأولى للهبة؟

لقد أقرت لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية إضرابا عاما يوم 2000-09-30 للتعبير عن موقف مساند لأبناء شعبنا العربي الفلسطيني في الضفة والقطاع الذي انتفض إثر زيارة شارون إلى الحرم القدسي الشريف والمذبحة البوليسية التي تلت هذه الزيارة، حيث كانت العوامل التي ذكرناها أعلاه بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير. بيد أن العامل الأساسي وراء انطلاق الانتفاضة الثانية أو كما درجت بعض الأوساط الفلسطينية الوطنية على تسميتها بانتفاضة الاستقلال هو أن هذه الانتفاضة جاءت كرد فعل طبيعي ومباشر على محاولة تصفية القضية الفلسطينية في مؤتمر "كامب ديفيد 2" عبر محاولة باراك وكلينتون فرض حل دائم غير عادل للقضية الفلسطينية.

فلسطينيا ( في حدود الضفة والقطاع ) كان الإنجاز السياسي للانتفاضة الثانية هو النسف الفعلي لمحاولة فرض الحل المذكور على القيادة الفلسطينية ممثلة بالرئيس الراحل ياسر عرفات. فبينما اعتبرت بعض الأوساط الفلسطينية الانتفاضة لا أكثر من ورقة تفاوضية بيد المفاوض الفلسطيني واعتبرتها إسرائيل أداة لإفشال المفاوضات، حاولت بعض الأوساط الوطنية الفلسطينية الالتفاف على أهدافها السياسية بإضافتها إلى كلمة "الاستقلال" لتصبح: "انتفاضة الاستقلال" في محاولة لإحباط مسبق لأي استخدام للانتفاضة لتحقيق إنجازات سياسية أقل من الاستقلال في دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران عاصمتها القدس الشريف دون التنازل عن حق العودة.

أما على صعيد المواطنين الفلسطينيين في الداخل، فلم تختلف الدوافع وراء انطلاق الهبة الشعبية ( والتي تعتبر أهم تحرك شعبي جماهيري سياسي بعد يوم الأرض عام 1976)، ولكن نتائجها السياسية اختلفت طبقا لاختلاف المواقع والظروف.

سبق وقلنا أن لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية قد أقرت يوم 2000-09-30 يوما للإضراب العام وليس على خلفية مطلبية أو في سبيل تحقيق مطلب عيني أو وطني محلي كما كان في يوم الأرض بل على خلفية وطنية عامة، وأنا هنا سوف لن أستخدم تعبير "تضامنا" مع أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، انطلاقا من أن المرء يتضامن عادة مع الآخر وليس مع نفسه وانطلاقا من كون القضية الفلسطينية التي انطلقت الانتفاضة على خلفية محاولة تصفيتها سياسيا هي قضية جميع الفلسطينيين، بمن فيهم فلسطينيو الداخل، المواطنون في إسرائيل.

لم أخطط أن أبحث هنا في الخلفيات التي وقفت وراء اشتعال الهبة في الداخل، ولكن ليس بالإمكان الخوض في موضوع الهبة دون التطرق ولو بشكل عابر إلى بعض التفسيرات والاجتهادات حول كل ما يتعلق بالخلفيات التي حاول البعض وبالأساس المؤسسة الرسمية الإسرائيلية أن ينسب أسباب الهبة إليها.

إن لجنة التحقيق الرسمية بالأحداث لجنة أور- ، والتي شكلتها حكومة إسرائيل تحت ضغط القيادات العربية ( وبتحفظ حزب التجمع)، لم تكن لتبحث الأحداث دون محاولة رصد خلفياتها. وبإمكاننا بنظرة سريعة إلى تقرير لجنة أور أن نطالع خلفيات ومسببات "تقليدية"، هي محاولة لتفسير "انتفاضة" العرب الفلسطينيين داخل حدود "دولة إسرائيل". فالتقرير يعترف مرة أخرى بالتمييز اللاحق بالعرب على امتداد 55 عاما ومساهمته في خلق ما أسمته اللجنة " أجواء مرشحة للانفجار"، مشيرة إلى ارتفاع الوعي السياسي في أوساط المواطنين العرب وتوسع النشاط السياسي بينهم وإقامة مؤسسات وجمعيات أهلية ووطنية.

يضاف إلى ذلك ارتفاع تأثير كل من التيار الإسلامي السياسي والتيار القومي الديمقراطي اللذين قويت شوكتهما في النصف الثاني من التسعينيات. وذلك دون أن تنسى لجنة أور الإشارة إلى أن غياب الحقوق الجماعية للعرب يلعب دورا أساسيا إضافيا في هذه الأحداث لكونه سبب خيبة أمل كبيرة لدى المواطنين العرب من الدولة العبرية.

إن لجنة أور تفترض مسبقا أن اندلاع الهبة جاء على خلفية تصعيد سياسي بين المواطنين الفلسطينيين في السنوات التي سبقت الأحداث، وذلك كنتيجة حتمية للأسباب التي ذكرت أعلاه: ارتفاع نسبة التعليم، استمرار التمييز، وتحول باتجاه تيارات سياسية قومية . ولا يمكن لعاقل هنا ألا يستنتج أن لجنة أور قد ضمّنت الخلفيات المدّعاة أحكامها المسبقة حول المسؤولية عن الأحداث التي تحاول من خلالها أن توازي بين المواطنين العرب أنفسهم والدولة، وهذا يعني المساواة بين الجلاد والضحية في المسؤولية عن نتائج قمع المظاهرات بالرصاص الحي وقتل الشهداء.

بمعزل عن قصد المؤسسة الإسرائيلية من وراء إقامة "لجنة أور"، فإنه لا يمكن عدم اعتبار مجرد إقامة هذه اللجنة ولو بتأخير كبير وبعد صراع طويل إنجازا ولو جزئيا للهبة الشعبية في الداخل الفلسطيني. فلأول مرة تقيم "دولة إسرائيل" أو تضطر لإقامة لجنة تحقيق رسمية لفحص أحداث مواجهة بين المؤسسة الرسمية في الدولة وبين مواطنيها العرب، وهو الأمر الذي لم يتم التجاوب مع مطالب القيادة العربية بشأنه عشية يوم الأرض 1976.

على أية حال، هناك من يعتقد أن قبول تشكيل جنة بهذه الصلاحيات كان خطأ، في حين يعتبر آخرون (عرب) أن اللجنة اضطرت أن تعيد تسليط الضوء على جذور التمييز العنصري ضد المواطنين العرب وتنتقد استعمال الرصاص الحي ضد المتظاهرين. وهكذا، فإن هدف التحقيق لم يكن فحص عنف الشرطة بقدر ما كان فحص تجاوزات المتظاهرين و"عنفهم".

هذا ما لم يكن بالإمكان عدم رؤيته كما قلنا سالفا من لائحة الاتهام المحضّرة سلفا ضد المواطنين العرب والتي لبست لبوس "البحث عن خلفيات الأحداث"! كذلك، إن أردنا أن نفهم كيف يفكر أقطاب السلطة في إسرائيل حول التمييز ضد المواطنين العرب وأسباب بعض محاولاتهم القليلة "لجسر الهوّة"، علينا أن ننظر إلى بعض الأوراق الرسمية والتوصيات من الجهات "الأمنية" الإسرائيلية قبيل انطلاق الهبة:

ففي ورقة قدمها الوزير في حينه متان فيلنائي لحكومته حول المواطنين العرب، جاء ما معناه: "لقد تم التمييز ضد العرب على مدى سنوات طويلة، وقد آن الأوان لتغيير هذا الاتجاه، والأهم من كل ذلك هو أنه علينا الانتباه إلى أن استمرار الإهمال إهمال المواطنين العرب سيكون له ثمن باهظ".

إذا، فإن أي محاولة من السلطة في إسرائيل باتجاه "تصليح" الغبن والتمييز اللاحقين بالمواطنين العرب، لن يكون كاملا ولن يمنحهم لا المساواة المدنية ولا الحقوق الجماعية، وذلك لأن ليس هذا هدفه بل لأنه يهدف بأحسن الأحوال إلى "تنفيس الضغط" وتقليل غضب المواطنين العرب وتأخير الانفجار.

ويمكن رؤية هذا التوجه أيضا من خلال ورقة قدمها مجلس الأمن القومي الإسرائيلي يوم 2000-07-09 وضعت نصب الأعين: "تقليص الشعور بالغربة والتمييز لدى السكان العرب كمجموعة قومية وكأفراد، خوفا من (القوة الكامنة) لديهم للعمل ضد نظام الحكم في إسرائيل"... وفي ورقة أخرى قدمها نفس المجلس يوم 2000-09-14، طلب من رئيس الحكومة: "أن يعترف رئيس الحكومة بالظلم المتراكم من الدولة تجاه المواطنين العرب (كما فعل رابين) ويقوم بالتعهد والوعد بتصليح "الاعوجاج القائم" في الوضع داعما وعوده هذه بالميزانيات والتصرفات".

إذا، فقد رأينا أن كل النظرة الرسمية للتمييز اللاحق بالمواطنين العرب هي من منظار أمني إسرائيلي وفي سبيل الحفاظ على هذه البقرة المقدسة، وليس حبا بالمواطنين العرب أو رغبة في تحسين ظروفهم.

لم تهدف لجنة أور إلى إصلاح الوضع بقدر ما هدفت إلى "تهدئة الأجواء" واحتواء المد الوطني والقومي من خلال محاولة إرضاء الرأي العام العربي بالتجاوب الجزئي مع بعض مطالبه سعيا لتمييع القضية. وهي أقرت بوجود تمييز تاريخي ضد المواطنين العرب دون أن تطرح آليات للإصلاح، ودون أن تنسى تحميل المواطنين العرب وقياداتهم مسؤولية الأحداث تحذير كل من د. عزمي بشارة والشيخ رائد صلاح وعبد المالك دهامشة، وتحقيق مع الأمين العام للتجمع عوض عبد الفتاح على مدى يومين متتاليين وظهوره أمام اللجنة بصفة متهم وليس شاهد -. كذلك توصيتها بإقامة "سلطة حكومية لتطوير الوسط العربي" للالتفاف على ما قد ينتج عن الهبة من إنجازات سياسية أو مطلبية. وأكثر من ذلك فقد تمثل الالتفاف على نتائج التحقيق بإقامة لجنة وزارية برئاسة الوزير في حينه طومي لبيد لتقديم توصيات بشأن توصيات لجنة أور!!!

هذه الهبة، استطاعت أن تعيد ترميم ما هدمته عملية الأسرلة من هوية المواطنين العرب الوطنية ومنحها صلابة وزخما وتجربة جماعية كانت الأقلية العربية الفلسطينية في الداخل ستحتاج إلى سنوات من العمل لمراكمتها في "الظروف العادية". كذلك أثبتت الهبة أنه لا يوجد بديل للتيارات السياسية المنظمة على مستوى القاعدة، وكشفت وجود قواعد منظمة وفاعلة لدى القليل من القوى السياسية المعروفة إعلاميا بينما يقتصر وجود "القوى" الأخرى على الإعلام بضمنه الإعلام الإسرائيلي- فقط...

وما لا يمكن إغفاله أيضا في الجانب السياسي، أن الهبة وجهت ضربة أخرى، قوية، لسياسية الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، وهي الإستراتيجية التي بنت بعض القوى السياسية الفاعلة في أوساط العرب في الداخل برنامجها السياسي كله عليه. فالعربي من وجهة النظر الإسرائيلية ليس طرفا سياسيا في لعبة مشتركة، بل خصم سياسي يتم النظر إليه من فوهة البندقية حتى لو كان "مواطنا" في "إسرائيل".

أدى هذا الإنهيار لمقولة "الاندماج" في المجتمع الإسرائيلي لاحقا إلى فرز واضح بين التوجهات المختلفة سياسيا داخل الشارع العربي. فقد ارتبك أصحاب فكرة الاندماج أمام "الرأي العام اليساري الإسرائيلي" بعد الهبة، واستلحموا في محاولة إبراز "تميزهم" عن الآخرين "المتطرفين" بمحاولتهم إيصال رسالة إلى اليسار الصهيوني تحمل معنى: "أنا مع الاندماج، بينما الآخرون هم المتطرفون أصحاب النزعات الانفصالية".

يضاف إلى كل ما أنتجته الهبة سياسيا، أمر آخر لا يقل أهمية، ألا وهو الجانب الاقتصادي: فقد اكتشف العرب بعد الهبة أن مستوى المعيشة ونمط حياتهم الاستهلاكي داخل دولة إسرائيل لا يستند إلى أية ركائز اقتصادية أو محلية، وهو مرتبط بالكامل بالاقتصاد الإسرائيلي ومحكوم بمزاجه السياسي. صحيح أنه ليس بإمكان المبادرين العرب بناء مرافق اقتصادية باستقلال كلي عن الاقتصاد الإسرائيلي، إلا أن هذا لا يجب أن يمنع استقلالا جزئيا من الناحية الاقتصادية يمكن بناءه من خلال التعاون مع السوق الفلسطينية في الضفة والقطاع.

وقد كانت أيضا للهبة الشعبية مساهمة نوعية في دفع خطاب التجمع إلى الأمام. فقد صدرت موجة من الوثائق الحقوقية والمدنية عن عدة جهات وهيئات أهلية فلسطينية داخل إسرائيل، نذكر منها: وثيقة حيفا الصادرة عن مركز مدى، ووثيقة التصور المستقبلي الصادرة عن لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، والوثيقة الحقوقية الصادرة عن جمعية عدالة... كل هذه الوثائق هي محاولات جادة لإعادة صياغة العلاقة ما بين المواطنين العرب الفلسطينيين ودولة إسرائيل في إطار جديد يعيد تعريف هذه العلاقة على أساس المواطنة الكاملة والحقوق الجماعية بدلا من المساواة المدنية الفردية والاندماج المشوه في المجتمع الإسرائيلي.

ويبقى السؤال أخيرا، هل حققت هذه الهبة للعرب الفلسطينيين في الداخل مردودا إيجابيا أم سلبيا بالمجمل؟

لقد ذكرنا أعلاه عددا من إنجازات هذه الهبة السياسية على المدى القصير والمدى البعيد، إلا أن أهم ما يمكن الإشارة إليه في الجانب السياسي هو أن قوة العرب السياسية داخل إسرائيل قد ازدادت بشكل ملحوظ بعد الهبة، وذلك لأنها كانت مؤشرا لاتجاه حركتهم السياسية الموحدة كأقلية قومية، وازدادت قوتهم التي تجلت في تحقيق شبه إجماع على مقاطعة انتخابات رئاسة الحكومة بعد الهبة بفترة وجيزة والتسبب بسقوط باراك في هذه الانتخابات-. هذا التعبير عن القوة السياسية الكامنة أدى بالدولة الإسرائيلية إلى إعادة حساباتها من جديد وإلى التنبه للخطر القديم الجديد: الخطر الديمغرافي العربي، معبرين عن ذلك من خلال مختلف الوثائق الرسمية والتي كانت أبرزها وثائق مؤتمرات هرتسليا المتعددة، والتي نتجت عنها بالضرورة بداية التحرك في محاولات احتواء هذا "الخطر" جسديا من خلال تشديد التضييق على البناء والتطوير العربي ومشاريع تهويد النقب والجليل... ومحاولات أخرى لاحتوائه سياسيا من حيث مشاريع "الدمج" المشوه وغير الكامل في هامش هامش المجتمع الإسرائيلي، والتي كان آخرها وأخطرها مشروع فرض الخدمة الأمنية الإسرائيلية على الشباب العرب تحت عنوان التطوع و"الخدمة المدنية"!!!

رغم كل ما قلنا حتى الآن، فإنه لا يسعنا عدم التطرق إلى زاوية أخرى من زوايا هذه القضية الهامة. وها قد مرت سبع سنوات على الهبة، فأين هي توصيات لجنة أور؟ لقد قلنا سالفا أن لجنة أور أقيمت بهدف خلط الأوراق حول المسؤولية عن الأحداث وبهدف امتصاص الغضب العربي، ولم تقم بهدف إصلاح الوضع. لذلك لم يكن مهما ما ستوصي به، وهذا ما نفهمه من نتائج اليوم الدراسي المعقود قبل نحو الشهر بمبادرة من جمعية "سيكوي" لهدف فحص تطبيق توصيات لجنة أور، والذي خلص إلى ما مفاده بأنه منذ التوصيات وحتى اليوم تضاعف عدد الفقراء العرب أي تعمق التمييز ولم يصلح ولم يتم تطبيق أي من توصيات اللجنة المذكورة.

كذلك ليس بوسعنا أن نتجاهل أهم جوانب هذه القضية، وهو أن قسم التحقيقات مع أفراد الشرطة قد قام بإغلاق جميع الملفات التي فتحت ضد أفراد الشرطة الذين قاموا بقتل شهدائنا الثلاثة عشر في الهبة "لعدم توفر الأدلة" ضدهم، مما يعني أمرا واحدا فقط، أن هنالك ثلاثة عشر قاتلا لا زالوا أحرارا طلقاء، ولم تجر محاسبتهم بعد.

التعليقات