31/10/2010 - 11:02

الهزيمة تستمر 40 عاما ولحظة النصر تمر عابرة!!../ محمد دياب

الهزيمة تستمر 40 عاما ولحظة النصر تمر عابرة!!../ محمد دياب
كان الاهتمام هذا العام بمناسبة مرور أربعين عاما على حرب 1967 زائدا.. أفسحت لها الصحف ومحطات البث المسموع والمرئي مساحات واسعة ومناقشات مستفيضة، وكان الخط الغالب على التناول تقليديا إلى حد كبير، يركز على المسميات والألفاظ والمصطلحات. وينتهي بصك إدانة لا نقض فيه لمرحلة المد القومي بما لها وما عليها.

بشكل يبعث على الملل من التكرار غير المفيد. هذا على الرغم من أن هناك وثائق نشرت، بعد مرور مدد الحظر القانونية، وأهم ما كشفته هو أن هذه الحرب كانت عدوانا مبيتا، بكل معنى الكلمة. للقضاء على حركة التحرر العربية، وتصفية الدور القومي والإقليمي والدولي المصري، وإزاحة عبد الناصر، القائد البارز الذي أحيا هذا الدور، وقاد حركة القومية العربية.

ومعنى هذا هو أن نخفف من جلد الذات، ونتوقف عن الانسياق وراء مظاهر الخنوع الشديد، والقصة أن هناك معتديا ومعتدَى عليه، والعرب هم الطرف المعتدَى عليه، عليه ألا يقترف في حق نفسه خطيئة الشماتة، والصلاة شكرا لله على الهزيمة، كما حدث من واحد من كبار رجال الدين، غفر الله له.

بغض النظر عن طبيعة الأداء العسكري والسياسي، فيما سبق الحرب أو صاحبها. ووضع عدوان 1967 ضمن هذا السياق يسمح برؤيته بعيون سليمة، غير مصابة بأي رمد من أي نوع. وبذلك يتم التعرف على السر وراء طول يوم الهزيمة، واستمراره لمدة إربعين عاما، وقصر لحظة النصر، حتى مرت عابرة، وكأنها لم تكن، وهذا أعطى انطباعا بأن الأصل في حياتنا وتاريخنا هو الهزيمة، أما النصر فهو استثناء.

لا نحب الإغراق في تحديد المعاني المعروفة للنصر والهزيمة، بأكثر مما هو مطلوب.. النصر، بإيجاز، هو أن تكسر إرادة عدوك، وتفرض عليه التسليم بحقك، وتقنعه بعدم جدوي القوة للاحتفاظ به، والهزيمة هي أن تنكسر إرادتك، وتستسلم وتتنازل عن حقك، وتقتنع بعدم جدوى القوة لاسترداده. وهذا ما أريد من عدوان 1967، والعدو، الذي هو بحجم المنظومة الغربية، ذات الطبيعة العنصرية التوسعية الاستعمارية، وهي دائمة الاشتباك مع منطقتنا، على الأقل خلال القرنين الماضيين. إلى أن دخل هذا الاشتباك طورا جديدا بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة لقيام الدولة الصهيونية، بما لها من دلال وتأثير، مباشر وغير مباشر، على المنظومة الغربية، الممتدة من شمال أمريكا وكندا، مرورا بأوروبا، وصولا إلي استراليا ونيوزيلندا، بإمكانياتها ونفوذها وقدراتها العسكرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية الغلاّبة، وكما خرجت، بعد استقرار طويل، من المنطقة عادت نتيجة اختفاء الكوابح المحلية والإقليمية والدولية، وبعد أن دانت الأمور، مؤقتا، لرواد الاستيطان القديم. فارتدوا اللباس المسيحي الصهيوني، وتزيوا بحلل المحافظين والليبراليين الجدد. وبرزت مشكلتهم في عدم فهم تاريخ العرب..

وهو لن يخرج عن كونه سلسلة متصلة من الرفض والصمود والمقاومة، والعرب، كشعب، لا يسلمون بالهزيمة. ومنذ حملة نابليون، وما أعقبها من حملات أوروبية، على مشرق الوطن العربي ومغربه، وبعد فشل حملة فريزر الانكليزية على مصر 187، نجحت الحملة الفرنسية على الجزائر في 1830، وأعيد قضم المنطقة، قطعة قطعة. وما كادت الحرب العالمية الأولي تضع أوزارها حتى وجدنا الوطن العربي يخضع للاحتلال المباشر، مع استثناءات بسيطة.. ركن هنا أو زاوية هناك.

استقر في ذهن المنظومة الغربية، المنتصرة في القرن التاسع عشر، وحتي منتصف القرن العشرين، أن اللحظة قد واتتها، للاستجابة للمخطط الصهيوني، فتتمكن من شطر المنطقة إلى نصفين، يباعد بينهما الجسم الصهيوني الغريب.. والتفاصيل التاريخية معروفة على هذا الصعيد، لتبقى بها أطول فترة ممكنة. ومع كل مظاهر الرضوخ والإذعان الرسمية لم يشعر أي غاز أو مستوطن بالاستقرار أبدا. إلى أن رسخ في الوعي الرسمي الغربي أن الإبادة هي الحل مع هذا النوع من البشر. فعلوا ذلك في الجزائر.. واستأنفوه في فلسطين، ويؤكدونه في الصومال والعراق، ويحيونه في لبنان.

ضمن هذا السياق يجب أن توضع الحروب الاستعمارية والصهيونية.. لا يختلف الأمر بعد الحرب العالمية الثانية، وبزوغ النجم الأمريكي، ورعايته للدولة الصهيونية، بدءا بحرب 1948، وما تلاها من حروب، في 1956 و1967، 1973، وغزو لبنان 1982، وحرب الخليج الثانية 1991، وغزو العراق 2003، وغزو لبنان من الداخل والخارج 2006، واعتزام احتلال سورية، وتقسيمها دويلات طائفية ومذهبية وعرقية، وانتظار فرصة مواتية لتفكيك الجزيرة العربية ومصر والسودان، من أجل تيسير الإبادة وجعلها أكثر سهولة.

واسترجع الغرب تراثه في إبادة أهل البلاد الأصليين.. بعد ما جرى للعالم، وفقدانه للتوازن، كأثر مباشر، من آثار اختفاء الكوابح، التي أعاقت حركة المنظومة الغربية، لعدة عقود، وفرضت عليها لبس ثوب ليس لها، وتغطية وجهها البشع بقناع من الشعارات المزيفة، عن حقوق الإنسان والديمقراطية والاستثمار والتقدم. وفلتت منهاالفرصة، لفترة، في عدوان 1967، برغم القدرة التدميرية الهائلة، التي مكنت الدولة الصهيونية من تحقيق انتصار غير مسبوق، زاد من تأثيره حجم الأخطاء الاستراتيجية، غير المبررة، التي وقعنا فيها، والسبب أنه رغم تلك الفداحة في الخسارة، تغلبت روح المقاومة ورفض الهزيمة، ويرجع الفضل في ذلك للشعب، الذي خرج يومي 9 و10 حزيران (يونيو)، ولم تنكسر إرادة عرب ذلك الزمان، والإرادة التي لا تنكسر تضع العدوان في مكانه، كحلقة في سلسلة معارك الحرب المستمرة، التي لا تتوقف إلا بالتحرير وإعادة الحقوق المغتصبة إلى أصحابها.

ومثل هذا المناخ يعطي أكله، وأقام تضامنا عربيا، عبرت عنه قمة الخرطوم، في آب (اغسطس) من نفس عام العام. بلاءاتها المعروفه: لا صلح.. لا تفاوض.. لا اعتراف.. لا تفريط في حق الشعب الفلسطيني. وقراراتها بدعم الدول العربية المتضررة، مصر وسورية والأردن وفلسطين، واضفت بذلك بعدا قوميا على رفض الهزيمة، وعبرت عن التقاء متطلبات الصمود مع توجهات النظام الرسمي العربي حينها.

استمر النظام الرسمي العربي، حتي 1973، يحمل بعض جينات تلك المرحلة، وقدرا من سماتها وصفاتها. إلى أن أحدث السادات تحولا دراميا، بالرهان على الولايات المتحدة وسياستها، ومنحها تفويضا بالتصرف فيما أسماه 99% من أوراق اللعب في المنطقة، وهو تحول أحدث خضة شديدة، وانتهى، منذ مطلع التسعينات، إلى نقل أمر زمام المنطقة بالكامل من اليد العربية إلى اليد الأمريكية. وكان تكريس الهزيمة عملا مهما لتزكية هذا الانتقال، وهلل النظام العربي لـ السلام كخيار استراتيجي، وأقام خصومة مع أي نصر، حتى لو كان محدودا. وتمادى في إبعاد شبحه عن الحياة العربية، وانقلبت القاعدة المعروفة، التي تقول بأن الهزيمة يتيمة أو لقيطة.. لا أب لها ولا أم.. بما تجلب من عار ومهانة. أما النصر فله ألف أب وألف أم.. بما يبعث على العزة والإباء والكرامة.

وأصبحت الهزيمة في ذاتها أيديولوجية، وجدت من يتبناها ويعمقها في نفوس الناس. فصار لها آلاف الآباء والأمهات، وتمكنت من الاستمرار أربعين عاما. أما النصر الذي تحقق 1973، تُرك يتيما وأُلْقِيَ به جانبا.. يواجه بالتجاهل والإهمال، وهو أسوأ ما استغلت فيه حرب تشرين الاول (اكتوبر). شخصنوها.. وسحبوا نصرها من رصيد الأمة، وأضافوه لحساب العدو، فحقق به ما لم يكن يحلم بتحقيقه في حرب 1967، وبات النصر كأنه خارج سياق التاريخ العربي، وأضحى مجرد جملة اعتراضية، في سفر الهزائم، وعمل مروجو هذه الأيديولوجية على بذل كل ما في وسعهم لإلغاء الذاكرة الوطنية والقومية.. شطبوا معارك النصر من كتب تاريخنا الزائف، ومن مفردات إعلامنا المضلل، ومن على معلقاتنا الهابطة، لا يُسمح لأبنائنا الاطلاع على سيرة الثورة الجزائرية، ولا على قصة انتصارها على الاستيطان الفرنسي.

ولم يتح لهم التعرف على مقاومة الجنوب اليمني المحتل إلى أن تحقق لها النصر، وطـــُمست معالم المقاومة البطولية لليبيين ضد المستوطنين الإيطاليين. ويحدث نفس الشيء مع الثورة الفلسطينية المتجددة، ومنذ اندلاعها في ثلاثينات القرن الماضي. وكذا انتصارات الشعب اللبناني، وطرد الاحتلال الصهيوني 1983، وإلغائه اتفاق 17 أيار (مايو)، وانتصاراته سنة 2000 وتحريره للجنوب، وانتصاره في تموز (يوليو) الماضي.

وقبل هذا وبعده، أهدرت أيديولوجية الهزيمة دم شهداء، رأس العش، بعد أسابيع قليلة من العدوان، والجزيرة الخضراء وشدوان. وشهداء مدرسة بحر البقر ومصنع أبو زعبل، وأضاعت جهد من أغرقوا المدمرة إيلات، وفدائية عمليات منظمة سيناء العربية، وحرب الاستنزاف. واقتحام خطوط العدو الأمامية بالعمليات الجسورة. وكانت هناك جبهة داخلية متماسكة، فوضت عبد الناصر، بمهمة إزالة آثار العدوان، ولم تتوان في الخروج احتجاجا على الأحكام المخففة التي صدرت بحق المتسببين في النكسة. فأمر بإعادة المحاكمات مرة أخرى..

واستمرار الهزيمة وفكرها وثقافتها وروادها، لمدة أربعين عاما، والعمل على إحيائها دوما، ليس إلا ثمرة جهد عربي رسمي، نذر نفسه لتأكيدها ونشر ثقافتها، مبررا لتبعيته، ومزكيا بها الرهان على العدو في حل مشاكل ومعضلات هي من صنعه، ومن أجل أن يقدم النظام العربي التنازل تلو التنازل، مع التزام بمساعدة هذا العدو، وتمكينه من العودة لاحتلال الأرض، وإبادة ما عليها من بشر، ونهب ما فيها من خيرات، وهذا النظام العربي يصر على فرض الهزيمة، في وقت يهيئ فيه نفسه لنقلة أخرى، تتوحد فيها المواصفات القياسية للحاكم العربي، المناسب لحقبة الاحتلال والتقسيم والتفتيت، فيكون على شاكلة المالكي، في العراق، وعباس في فلسطين، والسنيورة في لبنان. ممن يقبلون بالاحتلال، ويلتزمون بالعمل خدما مطيعين له. وطول يوم الهزيمة، لهذا المدى الممتد لأربعين عاما، يراد له أن يطول إلى الأبد. فإن ذلك تم اعتمادا على كسر الإرادة، وتدني السياسة العربية الرسمية، التابعة المصهينة.. المتماهية مع عدوها، حتى صارت صهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم. وبقيت ركيزة يعتمد عليها في اشعال الحروب، والقيام بعمليات التخريب والاغتصاب والتطهيرالعرقي.

وسوف يدفع النظام العربي ثمن التزامه بأيديولوجية الهزيمة من وجوده ذاته. ويوم أن يحل محله نظام أكثر تعبيرا عن الأمة، وقتها لن يكون النصر شيئا عابرا، وسوف تثبت الأيام أن الهزيمة هي الشيء العابر في حياة العرب، وإلا ما استمرت أمتهم عصية على الإفناء.

"القدس العربي"

التعليقات