31/10/2010 - 11:02

الوثائق والذاكرة/ رشاد أبو شاور

الوثائق والذاكرة/ رشاد أبو شاور
يطّل الأستاذ محمد حسنين هيكل مساء كل خميس، أسبوعيّاً، على مشاهدي ( الجزيرة) مدججاً بالوثائق، وهو ما يعتبره بعض المتابعين سلاحه الذي يميّزه، ويضع بين يديه قدرات كاسحة.

الوثيقة إن أخفيت فهي سلاح سرّي فتّاك، بها يضلل من لا يعلم، ويستقوي بها من يخطط ويدبّر في العتمة دون معرفة المستهدف.

الوثائق إن أميط عنها الغطاء بعد زمن من نفوذها، تتسبب بالحسرات للمستغفلين المستغلين ـ بتشديد اللاّم وفتحها ـ عديمي التدبير، العائشين في السبهللة، والعمي التّام، والسائرين نياماً، ولكنها قد تتحوّل إن درست جيّداً إلى دروس تفتح العيون والعقول، وتمنح الأمّة مناعة.

الوثائق التي يقرأها لنا (هيكل) تفضح عجز حكّامنا، وقياداتنا، وما جرّوه علينا من بلاء. هذه الوثائق تكشف غفلة وسفاهة المتنفّذين المقصرّين قصداً أو جهلاً، وهذا ما ندفع ثمنه حتى يومنا هذا: ضياع فلسطين، تدمير العراق،تكريس تمزيق وطننا العربي، اللعب بمصائر أجيالنا.

هيكل لا يستحوذ على الوثائق ليحتفظ بها لنفسه، لمآربه الشخصيّة، ليحرم الآخرين منها ـ أبناء وطنه،وجلدته، وقومه ـ ولكنه ينشر المعرفة، يعممها، يشعل الشموع لعلّ بعضاً مّمن يعنيهم الأمر، ويؤرّقهم يستخلصون العبر من ديوان المبتدأ والخبر ـ نذكّر بما كتبه جدّنا ابن خلدون مؤرّخاً للذاكرة ـ إذ نحن كنّا ذات زمن مبتدأ فصرنا اليوم خبراً لأحداث تنفينا من الفعل إلى خارجه، وتجعلنا تابعين، لاهثين، منهكين، لا حول لنا ولا قوّة.

يحصل الأستاذ هيكل على الوثائق من مصادرها، ويقرأها لنا، علينا، وفيها ما دبّر وأبرم ليتسبب بتخلفنا، ونكباتنا، وتشتتنا، وقصده أبعد ما يكون عن الإحن، والعنعنات، والتنابذ، والتشهير، فهو يبتدئ من مصرمؤكّداً على أن المشروع الصهويني ـ صدمة ( إسرائيل) ـ قصد به دور مصر، ولذا لا فضل لمصر على أمّتها العربيّة في كل عصر وأوان إن هي تحرّكت لحماية (بوّابتها) الفلسطينيّة، ودرء الخطر عن الشرق العربي، فهذا ما كان يحدث منذ أيّام الفراعنة...

المخطط ـ يدعم هيكل وجهة نظره بالوثائق ـ ابتدأ منذ عصر محمد علي باشا، واستعر إبان العهد الملكي، واستفحل في مواجهة المشروع القومي العربي الناصري، ولن يتوقّف ما دامت مصر تشغل مكان يرشّحها لدور قيادي للأمّة العربيّة...

الوثائق تكون منقوشة أحياناً كـ(حجر رشيد) مثلاً بكتابته الهيروغليفيّة الذي حملته إلي فرنسا البعثة التي رافقت نابليون الغازي المستعمر، صاحب النداء المشهور ليهود العالم بأن يهتبلوا الفرصة ليؤسسوا لهم دولة على أرض فلسطين!

المنقوش، والمحفور، والمرسوم بلغة بدائيّة، والمكتوب، وثائق ثمينة تعلّمنا تاريخ الماضين وحضارتهم، وحروبهم، ومدنيتهم،وقوانينهم، وتديّنهم، ولهذا عمدت القوى الاستعماريّة الغازية إلى نهب آثارنا: الكنعانيّة، الآشوريّة، الفرعونيّة، الكلدانيّة...

وما كان غريباً أن من اندفعوا لاحتلال بغداد انقضّوا وفقاً لخطط مدبرّة لنهب متاحف العراق وتهريب كنوزه لإخفائها، وبيعها، والاحتفاظ ببعضها، وربّما تدمير بعضها لطمس وإضاعة جوانب من تاريخ منطقتنا تمهيداً لتزويرها وكتابة ما يناقضها خدمة لأغراض أعدائنا...

أمة لا تطّلع على ما رسم ودبّر لها، لا تستفيد من دروس الماضي، لا تعيد قراءة علاقاتها بالآخرين، ما ألحقوه بها من أذى، لا مستقبل لها، ناهيك عن إنه لا حاضر لها، لأنها بلا ذاكرة، والذاكرة عند الأستاذ هيكل غير الذكريات.

فرّق الأستاذ هيكل بين الذاكرة والذكريات، فهو يرى أن ( شارون) خاطب الجمعية العّامة للأمم المتحدة مستنداً على ذاكرة ـ موهومة، ومفتعلة ـ بينما توجّه الحكّام العرب إلى لقاء الأمم المتحدة في العيد الستين، وهم يتسولون الرضا لأنهم بلا ذاكرة!

لماذا تنشأ مراكز الأبحاث، والتخطيط، العسكري، والإستراتيجي، والديبلوماسي، والاقتصادي، والثقافي، والتقني؟

ما عاد خافيّاً أن للدول المتطورة، والنامية عيوناً ترسل لجمع المعلومات، ونقل أسرار الصناعات المتطوّرة، بهدف اللحاق بمن سبقهم من الأمم، ومتابعة أسباب النهوض العلمي والتقني، والتسابق على الجودة والإتقان.

الوثائق التي يعيد قراءتها الأستاذ هيكل لا تمتلكها دول عربيّة، لأنها غير معنيّة بما جرى للأمّة ـ فذاكرة الأمّة لا تعني نظم حكم إقليميّة تنتج خطاباً خّاصاً بها هو نقيض لتلك الذاكرة، مبدد لها ـ فلا مراكز أبحاث، وإنما دوائر، ومراكز أمن، وأجهزة متابعة وتفتيش على ما في العقول، والحياة الشخصيّة لكّل من يفكر، ويتساءل.

تلك الوثائق مبذولة بعد أن أفرج عنها لمن يدفع لتصويرها، والحصول على نسخ منها، ولكن الدول العربية غير معنية بما مضى لأنها غير معنيّة سوى بأمنها، وبديمومة (الكراسي)، أمّا مستقبل الأمّة والوطن فلا يعنيهم.

بالوثائق يصحح لنا هيكل ما لقّناه لسنين، بأن جيوشاً عربيةً سبعة، هزمت عام 48 على أرض فلسطين، وغادرت منكسة الرايات، وحقيقة الأمر أنها كانت بمجموعها بضعة ألوف، في حين حشدت (العصابات) الصهيونيّة أكثر من مائة ألف محارب جيّد التدريب والتسليح، عصابات كانت موّحدة الهدف وإن اختلفت على الوسائل والأساليب لبلوغه، بينما كانت جيوش العرب تخضع لقيادات مستعمرة إنكليزيّة، وبأهداف متناقضة...
أمة بقضّها وقضيضها تحشد ستين ألفاً غير موحدّين، قياداتهم متنابذة! فكيف لا نهزم؟! هذا ما تقوله بعض الوثائق التي عرضها الأستاذ هيكل.

كانت المجتمعات مهزومة آنذاك، وبأسلحة فاسدة، أو حديثة، كانت ستنهزم، لأنها خرجت منهكة،متخلّفة من تحت نير الحكم العثماني، الذي أشقاها، وجهّلها، وأخرجها من سياق التطوّر البشري، لتتلقفها الإمبراطوريتان الاستعماريتان: بريطانيا، وفرنسا...

الأستاذ هيكل (سارد) كبير، برسمه للشخصيات التي يتحدّث عنها داخليّاً وخارجيّاً، ودراميّاً، برميه للخيوط إمعاناً في التشويق، وبذاكرته الحديدية التي تعيد رسم المشاهد وتحرّك عليها الأحداث و(أبطالها). في حلقة (الحوار) معه، الخميس 24 تشرين الاول (اكتوبر)، حول الحلقات الإحدى والعشرين السابقة، سأله محاوره الصديق محمّد كريشان عن عرفات، فأجابه بأن عرفات: كان صديقاً، وأنه هو من قدّمه، وفتح معه، إلى الرئيس جمال عبد الناصر، ولكن عرفات أخطأ لأنه لم يهتّم بـ(الذاكرة)، وأنه دخل في (أوسلو)، مؤجّلاً الحديث والاتفاق حول: القدس، اللاجئين وحّق العودة، حدود الدولة، الاستيطان...

تختلف أو تتفق مع الأستاذ هيكل، هو في كّل الأحوال يدفعك للتفكير، ينشّط ذاكرتك، فهل هذا قليل؟!

التعليقات