31/10/2010 - 11:02

بدائل للصمود../ علي جرادات

بدائل للصمود../ علي جرادات
في الإدارة الرسمية الفلسطينية للصراع مع الاحتلال يبدو أن ثمة نقاشات تعكس انسداد طريق خيار المفاوضات، ووصوله الى مصيره المحتوم، بفعل صلف قادة تل أبيب، وعدم رغبتهم في تسوية الصراع، بل واصراراهم على إبقائه مفتوحاً، ذلك أن ما يضمرونه مِن خيار إلحاقي إلغائي عتيق، هو خيار عاجز عن إنهاء الصراع، حتى لو فُرض مجدداً بلباس جديد، ولمدى زمني قد يطول أو يقصر.

بلوغ خيار المفاوضات المُعتمدة لإدارة الصراع طريقه المسدود بات واضحاً، وتشير اليه فضلاً عن مجريات الواقع على الأرض، دلالات نقاشات رسمية داخلية، ومغازي تصريحات علنية عدة، كان أبرزها مؤخراً:

تصريح عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عبدربة، ودون مقدمات، ودون توضيحٍ كافٍ للمقصود، وخلافاً لإجتهاده المعروف منذ عقود، بالقول ما يعني: إن التفاوض مع الإسرائيليين بلغ طريقاً مسدوداً ويفرض امتشاق خيار إعلان الإستقلال من طرف واحد، أما الرئيس أبو مازن، وربما لأنه مرجعية القرار النهائي، وقراراته يجب أن تكون محسوبة بدقة، ويجب وزنها بعناية، وعلى الأقل يجب أن تكون حصيلة تداولٍ في مرجعيات عدة، تبدأ باللجنة العليا للمفاوضات ومرجعيات حركة فتح، مروراً بمرجعيات منظمة التحرير، وصولاً الى المرجعيات العربية، وفحص مواقف بعض الدوائر الدولية، فقد فضَّل صياغة بلوغ المفاوضات الى طريق مسدود بطريقة أخرى، عبر القول: إن لدينا عام، وإن وصلنا الى طريق مسدود، (وأظن أنه يقصد أننا وصلنا بالفعل)، نذهب الى الأشقاء العرب، ونرى ما العمل؟!!!

التصريحان على اختلافهما، فضلاً عما تلاهما (في اللجنة التنفيذية) وما سبقهما (في جلسة المجلس المركزي)، وما أثاراه مِن جدل، يكشفان حقيقة أن هنالك ضغطا في حركة الواقع، باتجاه خيار جديد هنالك ضرورة لاشتقاقه، بما يستجيب لمعطيات واقع إدارة الصراع مع الاحتلال، ناهيك عن ضرورات الاستجابة لشبه إجماع، حتى لا أقول إجماعاً كاملاً، على أن الأزمة الفلسطينية باتت طاحنة. وأن بقاء الحال على ما هو عليه، لا يعدو تقطيعاً للوقت، ولن يصمد كسياسة على الأرض طويلاً، وأن عدم استجابة الإدارة الرسمية الفلسطينية للصراع مع الاحتلال، عبر طرح خيارات بديلة، تمسك بزمام المبادرة، يعني عملياً بقاء المبادرة في يد الطرف المتحكم بميزان القوى، أي الإسرائيليين، الذين لا يخفون، بل يعلنون بالفعل قبل القول، إنهم ليسوا في وارد تعامل جاد مع مسألة المفاوضات، التي يرون فيها غطاء على ما يكرسونه مِن تمزيق للضفة وتهويد للقدس و"تعويم" للسلطة الفلسطينية الانقالية في الضفة وغزة، ويعدون مِن خلاله لسيناريوهات سياسية، ناظمها عدم الإقرار بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره عبر دولة مستقلة سيادية، ناهيك عن الرفض المطلق للإقرار بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، ما يعني فتح الباب من جديد على سيناريوهات التقاسم الوظيفي أو الإلحاق....، بل، وتجرأ مؤتمر هرتسليا مؤخرا على طرح تصورات حول التبادل الإقليمي للأراضي كسيناريو لتسوية الصراع، إنما ليس مع الفلسطينيين.

هذا هو الواقع الذي يدفع الجميع، وبضمنهم القائمون على الإدارة الرسمية للصراع مع الاحتلال، الى التحرك، المبادرة، التفكير، الجدل، في السؤال الكبير الحارق: ما العمل؟!!! الذي مع شديد الأسف، يتداخل ويقزم التفاعل معه، ويحبطه، الإقتران القائم بينه وبين أسئلة أزمة الإنقسام الداخلي الى أين؟ الى متى؟ وكيف السبيل الى وضع حد لها؟!!! كعامل ثانٍ (منفصل ومتصل)، مِن عوامل الأزمة الفلسطينية، بعد حساب شقها الأول والأساس، المتمثل في ادارة الصراع مع الاحتلال، تلك الأزمة التي يفاقمها، أنها تدور ربما في أسوأ ظرفٍ دولي وقومي منذ عقود، الأمر الذي يزيدها تعقيداً على تعقيد.

والحال؛ فإن أيَّ تفكير وطني في تجاوز الأزمة الفلسطينية، أو التخفيف مِن وطأتها أو وقف تداعياتها..... يجب أن يكون مسؤولاً، ويتجاوز الاجابات المستهلكة والسريعة والانفعالية، التي لا ترى أن هذه الأزمة إنما تمثل محطة نوعية في مسار محطات تراكمها منذ العام 1991 (مؤتمر مدريد) حتى اليوم، وإن كانت استترت حدتها في محطتين: محطة تأسيس السلطة الفلسطينية وانتعاشها بين عامي 1994-2000، ومحطة علو وتيرة الانتفاضة الثانية بين عامي 2000-2002.

إن فهماً للأزمة الفلسطينية بهذا المعنى الشامل، يفرض أول ما يفرض التفكير في التعامل معها بصورة نوعية وجديدة تنصب على طرح وبلورة بديل معلومة استحقاقاته ومقومات تجسيده على الأرض، وغير غافلٍ عن العقبات المنصوبة أو المحتملة في طريقه، على مستويات ثلاثة وطنية وقومية ودولية، كما يفرض عدم امتشاق أي بديل دون رؤيته كخيار ضمن خيارات مضمرة ومعدة في حالة تعثره أو فشله، وذلك انطلاقاً مِن أنها نصف مصيبة، وأحادية في التفكير، عدم إضمار بدائل عند امتشاق خيارٍ ما للتعامل مع الواقع، ومصيبة كاملة، وتعاسة في السياسة، عدم البحث في بدائل عند ثبوت انسداد طريق الخيار المُعتمد.

وكل هذا سيبقى متعذراً دون وضع حدٍ لكعب أخيل راهن الحالة الفلسطينية، انقسامها الداخلي، ودون أن ينأى المجتهدون في طرح البدائل، على اختلاف مشاربهم ومواقعهم عن التعامل مع الأزمة باستعمالية لها مئة طريقة وطريقة، وأن يبتعدوا عن طرح بدائلهم بخلفيات تحريضية صغيرة لا ترى في البديل غير تغيير الشخوص والجهات المتنفذة، دون ادراك أن الأزمة (القضية) المطروحة للتشريح واشتقاق العلاج كبيرة، وأنه لن يقوى على اشفائها، غير فكرة وارادة وطنية موحَّدةٍ وكبيرة بحجم تحدياتها واستحقاقاتها الثقيلة.

وحتى تكون بدائل المجتهدين بهذا الحجم، وجديدة في تناولها لمفردات الأزمة بتشابكاتها وتداعيات تفاقمها الخطرة، فإن لذلك ضمن شروط عدة، شرطان أساسيان، إن لم يتوفرا سيكون الخيار الجديد جديداً في شكله، وليس في مضمونه، هما:

الأول: وعي أن فشل المفاوضات مع حكومات إسرائيل حول جوهر القضية الفلسطينية، أي "قضايا الوضع النهائي" في اتفاق أوسلو، لم يبدأ اليوم، بل كان بمثابة حقيقة لا تقبل الجدل، على الأقل منذ مفاوضات كامب ديفيد 2000 المفصلية الكاشفة، أي أن فشل خيار المفاوضات لا يتعلق بتبدلات اللون الحزبي للإدارة السياسية في تل أبيب، بل يتعلق بالطابع السائد للسياسة الإسرائيلية، التي يعزز صلفها دعم السياسة الأمريكية المسيطرة بتفرد (ومعادٍ للقضية الفلسطينية)، على السياسة الدولية ومؤسساتها وقراراتها، ما ينافي الطموح بايجاد تسوية تفاوضية حول جوهر الصراع في المدى المنظور على الأقل.

الثاني: وعي أن عدم إحراز الانتفاضة الأولى (1987-1993) لهدفها السياسي في الحرية والاستقلال، ووعي أن نكوص الإنجاز السياسي للإنتفاضة الثانية، كبديل اشتقه الفلسطينيون بعد اتضاح انسداد طريق المفاوضات، لم يتعلقا بقلة تضحياتهم، بل لأن الانتفاضتين، (التي غلا فيهما الفلسطينيون حتى كادوا أن يتبخروا)، لم تجدا (بالأساس) حاضنهما القومي الذي يتبناهما ويدعمهما كبديل سياسي لسياسة العرب الرسمية التفاوضية المنفردة والمباشرة تحت الرعاية الأمريكية منذ مؤتمر مدريد عام 1991، ما يعني أن الفلسطينيين، وهم يفكرون في خياراتهم البديلة لتجاوز أزمتهم، فإن عليهم أن يفكروا أولاً في سؤال: كيف السبيل لدفع مركز القرار العربي لتحمل مسؤولياته القومية تجاه القضية الفلسطينية، التي، وإن كان من العبث الأمل في انهائها من التاريخ بالعودة لحلول الإلغاء والإلحاق، غير أنها تقف على مفترق طرق حاد، يمكن أن تزيحها الى حضن سيناريوهات مفروضة، مطلوب اشتقاق البدائل الفلسطينية لإفشالها والصمود في وجهها، بحسبان أن تحقيق انجازات حاسمة غير وارد في ظل الشروط الوطنية والقومية والدولية القائمة.

التعليقات