31/10/2010 - 11:02

بدعة الديموقراطية العربية!../ محمود المبارك

بدعة الديموقراطية العربية!../ محمود المبارك
الحديث عن تجربة الديموقراطية في العالم العربي، يذكرني بتجربةٍ خاضها جدي - رحمه الله - قبل قرابة أربعين عاماً. فقد بدأت تجربة جدي الديموقراطية - التي لم يطل عمرها - حين دخل على أولاده ذات يوم، وأخبرهم عن عزمه على الذهاب إلى مزرعته النائية ذلك اليوم. وحيث أن ذهابه يعني مرافقة بقية العائلة له، فقد أسَرَّ المتمردون من أفراد الأسرة - الذين لم يرق لهم القرار - تذمرهم وتأففهم، من دون أن يجرؤوا على إظهار ذلك. ولكن الابن الأكبر الذي كان قدم لتوه من بريطانيا اقترح على الشيخ اتباع طريقة «ديموقراطية» في اتخاذ القرار العائلي. وبعد أن فهم الشيخ مدلول المصطلح الجديد - الذي لم يسمع به من قبل - لم ير مانعاً من تطبيقه. ولكن، بعد أن اتضحت للشيخ الكبير نتيجة التصويت المعارضة، وقف غاضباً وضرب بعصاه الأرض وقال بصوت مسموع: لقد ألغينا «الديموقراطية» وسنذهب للمزرعة!

ربما كان في هذه القصة العائلية، دليل على مكان الديموقراطية في العقل العربي، وليست الأزمة الفلسطينية الحالية بمنأى عن هذا الفهم. فقرار الرئيس الفلسطيني بإيقاف العمل بمواد من الدستور، وتمديد حالة الطوارئ من تلقاء ذاته من دون الرجوع إلى المجلس التشريعي، وتجميد عمل المجلس التشريعي المنتخب، واستبدال المجلس المركزي لحركة «فتح» به، لا يعين على غير فهم واحد لـ «الديموقراطية العربية».

وغير بعيد مما يجري في فلسطين، هناك أزمة «ديموقرطية» في لبنان، اذ تسببت الديموقراطية اللبنانية في تعطيل عمل البرلمان المنتخب، وهناك تهيددات بأن يؤدي ذلك الى وجود حكومتين، تماماً كما في فلسطين اليوم. وبمفهوم «الديموقراطية العربية» نفسه أيضاً، هناك انقسام في العراق، حيث توجد حكومات عدة، مرشحة لأن تتحول الى ثلاث دول!

العامل المشترك بين الفوضى العارمة التي يشهدها العراق ولبنان وفلسطين هو أن هذه الدول جميعاً تزعم أنها «ديموقراطية» إن صدقاً وإن كذباً! ولعله يشفع لنا أننا نحن العرب أصبحنا مبدعين ولم نعد مجرد مقلدين، حيث وصلنا إلى مرحلة من الديموقراطية لم يصل إليها الغرب ذاته. ففي الوقت الذي تعني فيه الديموقراطية الغربية وصول الغالبية إلى سدة الحكم، تعطي «الديموقراطية العربية» الحق لكل فئات المجتمع أن تشارك في الحكم بطريقتها الخاصة، ولو بقوة السلاح.

ويبدو أن الخلاف بين الفكر الديموقراطي الغربي والعربي، هو اختلاف العقيدة السياسية. ففي الوقت الذي تعتقد فيه العقلية العربية أن الديموقراطية يجب أن تأتي بأفضل المرشحين إلى مركز القرار، يؤكد علماء السياسة الغربيون أن الديموقراطية لا تعني بالضرورة انتخاب أفضل الممثلين الأكفاء، بل إنها قد تأتي بالأسوأ أحياناً، كما حدث مع شارون وبوش وبلير. وهذه الطريقة على ما فيها من سوء، إلا إنها أفضل وسيلة متاحة لاختيار الممثلين السياسيين.

من هذا الباب، تأتي المعارضة العربية الرسمية لنتائج الانتخابات الديموقراطية في الجزائر وفلسطين (على رغم الفارق في الزمان والمكان)، بصفتها لم تنتج الأفضل. وطبقاً لهذه الفلسفة، فإن هؤلاء «الدراويش» من الإسلاميين لا يصلحون للسياسة وربما أدى إعطاؤهم فرصة التفرد بالسلطة السياسية، الى خطر انشاء «إمارة إسلامية»، كما أشار إلى ذلك عدد من الكتاب المنحازين.

ولكن المثير في الجانب التطبيقي لمفهوم «الديموقراطية العربية»، هو أنه رغم مخالفتها الظاهرة والباطنة للديموقراطية الغربية، إلا إنها تحظى بتأييد غربي رسمي، حتى في الحالات التي شملت انقلاباً سياسياً وعسكرياً على نتائج الديموقراطية، كما حدث في الجزائر ويحدث اليوم في فلسطين.

وإذا كان الموقف الغربي يعطي نفسه بعض العذر من الانقلاب على الديموقراطية الجزائرية، فإنه لم يعد واضحاً كيف يخفى على العالم أجمع اليوم أن منع الجماعات الإسلامية المعتدلة من الوصول إلى سدة الحكم بالطريقة الديموقراطية المتاحة لغيرهم، يحيلهم على استخدام العنف لتحقيق مآربهم السياسية.

ولعل الغطاء قد انكشف اليوم عن الزيف الأميركي خصوصاً والغربي عموماً المتمثل في الادعاء بحرص الغرب على نشر مبادئ الديموقراطية والحرية لشعوب العالم. إذ لم يعد التعاون الغربي مع الأنظمة العسكرية المستبدة في دول إسلامية وأخرى عربية كلها جاءت عن طريق انقلابات عسكرية يحتاج إلى مزيد إثبات. كما أن رفض الحكومة الأميركية قبول إشراف دولي على الانتخابات العراقية - التي لم تعد حقيقة تزويرها تخفى - دليل آخر على نوعية الديموقراطية التي أرادت الولايات المتحدة نشرها في الشرق الأوسط، لتستبدل بها الأنظمة الاستبدادية الديكتاتورية!

ولعل ما يدور في فلسطين اليوم، هو حلقة أخرى في المضمار ذاته حيث يراد اليوم وأد الديموقراطية الفلسطينية من الداخل، بعد أن حوصرت من الخارج. ولكي تتم المؤامرة فإن السيناريو المقبل لا يحتاج إلى كثير عبقرية، اذ من المتوقع أن يعلن الرئيس عباس رسمياً اعتبار حركة «حماس» جماعة «إرهابية»، يضعها في صف «القاعدة» وأخواتها. وبذلك يغلق عباس الباب على كل الصيحات المنادية بالحوار مع «حماس» باعتبارها «جماعة إرهابية» لا يجوز حتى مجرد الجلوس معها أو الحديث إليها. بيد أن الرئيس عباس أعطى إرهاصات هذا السيناريو حين اتهم «حماس» بمحاولة اغتياله، ووصف قادتها بـ «القتلة»، و «الظلاميين».

وتبعاً لذلك، أعلن الرئيس الفلسطيني الحاجة إلى اجراء انتخابات جديدة للمجلس التشريعي، ويمكن أن تمنع «حماس» من المشاركة فيها كونها أصبحت «إرهابية»، ومن ثم يدب الاقتتال الداخلي، الذي قد يطاول أعلى المستويات من الجانبين، وهو الأمر الذي تخطط له إسرائيل منذ زمن بعيد. وبالتالي سنجد أنفسنا أمام تجربة جزائرية أخرى لـ «الديموقراطية العربية».

الخلاصة أن الديموقراطية بمفهومها الغربي، قد تكون لاءمت ظروف المجتمعات الغربية وصلحت لها، إلا إنها لا تصلح لمجتمعاتنا العربية. ذلك أن الواقع العربي يعلمنا أن الحكومات العربية ستقبل بالديموقراطية ما دامت نتائجها توافق سياساتها وبقاءها في الحكم، ومتى تعارضت سياسات الحكومات العربية القائمة مع الديموقراطية، فإن هذه الأخيرة هي التي ستكسر وتداس، ولو على حساب حياة مواطنيها. وإذا كانت الديموقراطية العربية لا تنتج إلا مزيداً من الاقتتال، فتباً وتعساً وسحقاً لهذه «الديموقراطية»!

"الحياة"

التعليقات