31/10/2010 - 11:02

بشأن الحديث المزمن عن الأزمة والبدائل../ ماجد كيالي

بشأن الحديث المزمن عن الأزمة والبدائل../ ماجد كيالي
ثمة ظاهرة لافتة، وثابتة، لدى معظم الناشطين السياسيين العرب، على اختلاف تياراتهم وانتماءاتهم وأحزابهم، تتجلى بإنكار الواقع، بما في ذلك التهويل من شأن الإرادات، والتقليل من شأن الإمكانيات، وسحب الأيدلوجيات والرغبات والتوهمات على المستقبل.

ومثلا، فإن هؤلاء يرفضون الاعتراف بعجزهم عن إحداث تغيرات سياسية (أو حتى ثقافية أو سلوكية) في بلدانهم ومجتمعاتهم، مثلما يرفضون الإقرار بعزلتهم عن مجتمعاتهم، وغربتهم عنها.

وكما هو معلوم فإن حركة الواقع جاءت على خلاف ما كانت تتوخّى غالبية التيارات السياسية العاملة في البلدان العربية، منذ ستة عقود من الزمن، فلا الحداثة تحققت ولا النهضة حدثت، ولا الوحدة تجسدت، وتحرير فلسطين بات أبعد ما يكون، أما الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية، وكذا الديمقراطية والعلمانية والليبرالية والإصلاح الديني وإصلاح نظام الحكم، فباتت موضع شبهة، بعد أن بات تحققها ولا في الأحلام (على حد تعبير شعبوي دارج).

ويمكن تفسير حال الإنكار هذه، وضمنها غلبة النزعة الإرادوية (في ظل ضعف الإمكانيات المناسبة وعدم توفر المعطيات الملائمة)، بغياب مفهوم العمل العام، وبالتالي غياب السياسة، بما هي عمل عام، وهذا الأمر هو تحصيل حاصل لواقع غياب المجال العام، أي المجتمع المدني والدولة، في واقعنا العربي (كما في مختلف المجتمعات "مفوتة النمو"/لا النامية). ففي غياب المجتمع المدني وغياب الدولة (أي دولة القانون والمؤسسات) لايمكن الحديث عن عمل سياسي، أو عن أحزاب، إلا من قبيل ذكر الأشياء أو الموجودات، بغض النظر عن إحجامها وتمثيلها وفاعليتها.

أيضا، يمكن تفسير حال الإنكار تلك، بغياب العقل، وتغييب الواقع، حيث أن معظم الأحزاب والتيارات السياسية السائدة، أنشأت خطاباتها على الشعارات العاطفية، أو على الأيدلوجيات الجاهزة، كما على فرضية إمكان استرجاع الماضي التليد أو الاتكاء على الحتميات التاريخية.

مثلا، ففي البلدان المتقدمة، ثمة دولة ومجتمع، ولايوجد ما يضير أي حزب أو زعيم أو مفكر أو ناشط سياسي مراجعة شعاراته ومقولاته ومسيرته، إلى حد الخضوع للمحاسبة، وربما التنحي؛ وهي ظاهرة تؤكد على حيوية السياسة، وحيوية المجال العام (الدولة والمجتمع). أيضا، ففي هذه البلدان لايمكن التعاطي فقط مع الشعارات والعواطف والاتكاء على حركة التاريخ، وإنما يتم التعاطي مع الوقائع والإحصائيات والمعطيات، في سبيل استمرار الارتقاء.

وبديهي أن الأمور تجري خلاف ذلك حيث ثمة ضمور في المجال العام، وحيث تتآكل الدولة لصالح السلطة، التي تهيمن على المجتمع، فهنا تبدو الأحزاب، والنشطاء السياسيين مجرد موجودات بحد ذاتها، ما يضعف تأثرها المباشر بمحيطها، فهي في هذه الحال موجودة على الرغم من محيطها، وباستقلال عنه، وليس بفضله.

وما يفاقم من هذه الظاهرة غياب مفهوم التمثيل والتداول، وسيادة علاقات الزبائنية السياسية، والامتيازات، والاعتمادية على المساعدات أو التمويلات الخارجية. أيضا، هنا لايجري الاحتكام للعقل، ولا للوقائع والإحصائيات، وإنما للشعارات والعواطف والعصبيات القومية، أو الدينية، كما يجري تنزيه الرموز والزعامات، وجعلها خارج نطاق المساءلة، بل وتخليدها.

وينتج عن ذلك، أيضا، أن القوى السياسية المعارضة (والمنضوين في إطارها)، تبدو أكثر طواعية، وأكثر رضا، من مجتمعاتها، إذ تتماهى مع سلطاتها، ومع الخطابات والرموز السلطوية السائدة، بدل أن تتماهى مع واقع مجتمعاتها؛ في نوع من التواطؤ الضمني على تجميل الواقع، وتحميله مالا يحتمل من ايجابيات وانجازات وحتى انتصارات!

خذ، على ذلك، مثلا، وضع الساحة الفلسطينية التي بقيت مقيمة على قواها، التي نشأت فيها منذ أربعة عقود (على الأقل)، من دون أن تقبل على أية مراجعة لمسيرتها، بانجازاتها وإخفاقاتها، بالشعارات التي رفعتها، كما بالتجارب المضنية والمريرة التي خاضتها. وما يدهش أن هذه الساحة مقيمة على جمودها، في بناها وأشكال عملها والطبقة القائدة فيها، رغم كل التآكل الحاصل في بناها، والتدهور في مكانتها في مجتمعها، وتراجع دورها في مواجهة عدوها.

وما يدهش أكثر أن معظم القوى الفلسطينية ما زالت متمسكة بأسلوب المقاومة المسلحة، رغم أنها لم تعد تملك الإمكانيات اللازمة لذلك (من الناحيتين الذاتية والموضوعية). وبالمقابل فإن التيار الذي يدعو للمفاوضة مازال مصرا على الاستمرار في هذا الطريق رغم انه لايستطيع أن يعد بأية انجازات في ظل التعنت الإسرائيلي.

وإزاء انغلاق هذين الخيارين التاريخيين، اللذين تمحور حولهما تاريخ الحركة الفلسطينية المعاصرة، انفتح النقاش مؤخرا على عديد من الخيارات (عدا عن طرح العودة للمقاومة المسلحة ومقابلها التمسك بطريق المفاوضة)، ضمنها، مثلا، حل السلطة، أو إطلاق انتفاضة شعبية ثالثة، أو التحول من حل الدولتين إلى حل الدولة الواحدة (بشكليها كدولة مواطنين أو دولة ثنائية القومية)، وضمن ذلك إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير.

كذلك ثمة من يدعو إلى وضع القضية في عهدة مجلس الأمن الدولي، أو إعادة الاعتبار للبعد القومي للقضية الفلسطينية، كما ثمة من يطرح إقامة كيان كونفدرالي مع إسرائيل والأردن، أو إعادة السيادة المصرية على غزة وإعادة الضفة إلى المملكة الأردنية. وفوق كل ذلك بديهي أن ثمة من يطرح القطع مع القوى السياسية السائدة والعمل على إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية.

لكن الذي يجب إدراكه هنا (بدل إنكاره) هو أن المشكلة ليست في سرد البدائل ولا في اجتراح الخيارات، ولا في المفاضلة بينها، فعلى أهمية كل ما تقدم فإن المشكلة تكمن أساسا في توفر الإمكانيات المناسبة والمعطيات اللازمة لخيار معين، وفي القدرة على السير به وتحمل تبعاته، وبالخصوص في إدارته بأفضل وأقوم ما يمكن.

والحقيقة المرة التي يجب أن يدركها الفلسطينيون أن مشكلتهم لم تكن تكمن، منذ زمن، في انتهاجهم خيار ما، بقدر ما كانت تكمن أساسا في ضعف بناهم، وتخلف إدارتهم، إن في صراعهم ضد عدوهم أو في بنائهم لأوضاعهم، كما في تضعضع علاقاتهم واجماعاتهم الوطنية الداخلية؛ فهنا مكمن العجز المزمن في العمل الفلسطيني، وطالما أن الأمر كذلك فلا بدائل تجدي، ولاجدوى من حديث عن خيارات.

التعليقات