31/10/2010 - 11:02

بغداد توقظ أحفاد "كريزي هورس" من سباتهم../ فيصل جلول

بغداد توقظ أحفاد
مر الخبر في الصحافة العالمية مرور الكرام مع أنه عميق الدلالة: “جاء وفد من قبائل لاكوتا الهندية إلى واشنطن في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2007 برئاسة الكاتب والممثل الهندي الأصل راسل مينز، وسلم كتاباً إلى أحد ممثلي الدولة وفيه إعلان صريح بالانفصال عن واشنطن على قاعدة رفض الاتفاقات الموقعة بين اليانكي والهنود عامي 1851 و1868” ويؤكد الوفد: “لم نعد مواطنين أمريكيين. سنعمد إلى اصدار جوازات سفر ورخص للآليات وتشكيل بعثات دبلوماسية”.

ورغم أن مينز لم ينجح في عام 2006 في تولي زعامة قبائل ال “سيو اوغلالا” أبرز قبائل لاكوتا فإن حركته تتسم بأبعاد رمزية كبيرة من بينها أن السفير البوليفي في واشنطن حضر المؤتمر الصحافي للانفصاليين، وعبر عن دعمه لحركتهم، علماً بأن بوليفيا تعيش في ظل رئيس هندي منتخب للمرة الأولى في التاريخ الحديث، وثانياً لأن المبادرة تسلط الضوء على قسم كبير من الهنود الحمر: “سكان لاكوتا” (داكوتا الجنوبية) هم الأكثر فقراً في الولايات المتحدة وفي العالم إذ إن 97 في المائة منهم يعيشون تحت خط الفقر و85 في المائة عاطلون عن العمل. متوسط العمر بينهم 44 عاماً، وثالثاً لأن الانفصال يطعن في تمثيل الهنود المزيف بحسب مينز الذي يقول “اعترف بأنني لا أمثل “هنود فيشي” الذين عينتهم الولايات المتحدة الأمريكية من أجل ضمان فقرنا وسرقة أرضنا ومصادر ثروتنا”. ورابعاً لأن الانفصال يأتي بعد محاولات فاشلة لتسوية الأزمة التي وقعت منذ عام 1980 حين رفض الهنود صفقة مع الدولة قضت بإبقائهم في المعازل الطبيعية مقابل 122 مليون دولار.

وخامساً وربما هذه النقطة الأهم يعتبر إعلان الانفصال الخطوة الأولى من نوعها منذ 132 عاماً تاريخ انتصار الهنود في معركة “ليتل بيغ هورن” الشهيرة وهو الانتصار الهندي الأبرز في التاريخ الأمريكي والذي ربما أنقذ هنود هذه المنطقة من الإبادة.

موجز هذا الحدث أنه في 25 يونيو/ حزيران عام 1876 وقعت معركة طاحنة حول النهر المذكور بين الهنود والأمريكيين بعد ان خرق الجيش اتفاقية العام 1868 اثر اكتشاف الذهب في المناطق الهندية عام 1874. طلب الجيش من الهنود بيعهم أراضي المناجم ب 6 ملايين دولار، رفضوا العرض بقوة وقال “كريزي هورس” أحد زعمائهم: نحن لا نبيع الأرض التي نمشي عليها “علماً بأن كريزي هورس هو الذي تسبب باتفاق 1868 الذي تم اثر معركة طاحنة أباد خلالها 90 جندياً أمريكاً.

وتقضي الاتفاقية بأن تعترف الحكومة بالمنطقة الواقعة بين “ميسوري ووايومينغ وروشيز ويلوستون ريفير كأرض هندية” من جانبهم يلتزم قبائل لاكوتا بالسماح للضباط والموظفين الحكوميين بالتجول في أرضهم على أن يكونوا مزودين بتراخيص” بيد أن الانتصار الهندي سيكون مؤقتاً فقد جرد الأمريكيون حملات عسكرية أدت إلى تحييد بعض القبائل وإخضاع البعض الآخر وإبادة المصممين على القتال حتى النهاية من دون أن تلغي الاتفاقيات المذكورة.

تبقى الاشارة إلى أن مبادرة الهنود الانفصالية تأتي في وقت تتراجع قوة الردع الأمريكية في جنوب القارة وفي العالم بسبب تداعيات الحرب في العراق وافغانستان وإخفاق الضغوط الأمريكية على إيران والتراجع في الملف النووي الكوري الشمالي والاضطراب الذي يعاني منه النظام الباكستاني الحليف الاستراتيجي الأبرز لواشنطن في شبه القارة الهندية والشرق الأوسط.. الخ.

الواضح أن مبادرة هنود لاكوتا الانفصالية لا تثير قلقاً كبيراً لدى السلطات الأمريكية التي لم تعلق على المبادرة والسبب في ذلك أن واشنطن تمكنت خلال عقود طويلة من تطويع زبانية هندية يصفها راسل مينز ب “هنود فيشي” نسبة إلى حكومة “فيشي” الفرنسية التي خدمت الاحتلال النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. فهؤلاء يمثلون الهنود الأصليين زوراً وفق نظام تمثيلي تموله واشنطن وتسهر على دوامه بوسائل مختلفة من بينها السماح لبعض القبائل الهندية المطواعة بالإفادة من عائدات الكازينوهات المنتشرة في هذه المنطقة وحجبها عن بعض قبائل لاكوتا المتمردين منذ قادتهم الكبار سيتنغ بيل وكريزي هورس.

ورغم أن نظام السيطرة على تمثيل الهنود ما زال قويا فمن المرجح أن يضعف اذا ما واصلت قوة الردع الأمريكية تراجعها على الصعيد العالمي، واذا ما واصلت الأقليات الهندية في أمريكا اللاتينية التعبير عن حضورها السياسي من خلال اللعبة الديموقراطية. في هذه الحال يمكن لصوت الكاتب الهندي راسل مينز أن يلاقي أصداء واسعة في الخارج، ويمكن لهذه الأصداء أن تصل إلى الداخل وأن تضعف نظام التمثيل الهندي الذليل، وتتيح لأحفاد كريزي هورس الوصول إلى زعامة قبائل لاكوتا وبالتالي استعادة أراضيهم التي تنص عليها اتفاقات رسمية موقعة بين الهنود والحكومة الفدرالية في واشنطن.

إن أحداً قبل كارثة العراق الأمريكية لم يكن يتخيل انتخاب الهندي ايفو موراليس رئيساً لبوليفيا، وإن احداً لم يكن يحلم بوصول قادة ممانعين لواشنطن في نصف دزينة من البلدان اللاتينية، وإن احداً لم يكن يتوقع أن يحتفظ هوغو تشافيز بكرسيه. ولعل أحداً لم يكن يراهن على الاختراق الذي سجله باراك أوباما في الرئاسيات التمهيدية الأخيرة، ما يعني أن آفاق التمرد الهندي على نزعة التذويب والاقتلاع المستمرة منذ قرون، هذه الآفاق ستظل مفتوحة وبالتالي قد تتحول مبادرة هنود لاكوتا الانفصالية من خطوة رمزية إلى فعل استقلالي مؤسس، وربما إلى بناء دولة تعيد لسكان أمريكا الأصليين كرامتهم وحقهم التاريخي في التصرف بأرضهم. بالانتظار لن يكون بوسع واشنطن بعد هذه المبادرة أن تتجاهل حال هنود لاكوتا الذين يعيشون تحت خط البشر وليس الفقر، وإن فعلت ستجد من يذكرها بالامتيازات التي منحتها كندا وأستراليا لسكان البلاد الاصليين.

في واحدة من رسائله التي وجهها للمستعمرين البيض يقول ستنغ بيل المرشد الروحي والتنظيمي لمعركة “ليتل بيغ هورن: بعد ان تقتطعوا آخر شجرة وبعد أن تسمموا آخر نهر وبعد أن تصطادوا آخر سمكة بعد هذا فقط ستكتشفون أن الأموال التي تجمعونها غير صالحة للأكل” ولو عاش بيننا اليوم لربما أصيب بدوار جراء حملة العراق الشبيهة بأسبابها ودوافعها بالحملة الهندية. فهناك كان الذهب الأصفر وهنا الذهب الأسود مع فارق أن الهزيمة الأمريكية في بلاد الرافدين قد تؤسس لخلع الملك الأمريكي عن عرش العالم.
"الخليج"

التعليقات