31/10/2010 - 11:02

بلير.. وظيفة هامشية في الوقت الضائع../ الياس سحّاب

بلير.. وظيفة هامشية في الوقت الضائع../ الياس سحّاب
لعل مؤرخي التحولات الهائلة التي طرأت على ساحة السياسة الدولية في العقد الأخير من القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك العسكر الاشتراكي، لن يجدوا خيراً من شخصية رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير، نموذجاً حياً يجسد الانقلاب المتعدد الوجوه الذي طرأ على العلاقات التاريخية بين بريطانيا والولايات المتحدة.

قبل قرنين، سجل تاريخ القرن الثامن عشر في نهاياته استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا (الإمبراطورية في تلك الايام)، وانتقل جورج واشنطن من موقع الخدمة في الجيش الانجليزي في حرب السبع سنوات ضد فرنسا (1756-1763)، الى قيادة جيوش المستعمرات الانجليزية في الأرض الأمريكية ضد انجلترا إبان الحرب التحررية (1776-1783)، ليصبح أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية المستقلة عن انجلترا بحرب تحرير تاريخية مشهودة.

وبعد ذلك بقرنين كاملين، دار التاريخ دورات كاملة، لتصبح الولايات المتحدة الأمريكية هي الإمبراطورية العظمى من دون شريك (عكس ما كان عليه الأمر في زمن الإمبراطورية البريطانية الغابرة)، ليتحول رئيس وزراء بريطانيا وزعيمها وحاكمها (بعد أن أصبح الملك فيها يملك ولا يحكم)، مجرد تابع لرئيس البيت الأبيض الأمريكي في غزواته الدولية، إلى درجة وصل فيها النقاش العلني في الصحافة الأمريكية والبريطانية، وعلى لسان الرئيس الأمريكي نفسه، إلى عبارات تدور حول تحديد هل يصح تشبيه بلير بأنه كان بالنسبة لبوش مجرد “ذيل” (كما ورد في مقالات الصحافة البريطانية ورسومها الكاريكاتيرية)، أم أنه ارفع من ذلك وأهم، كما أصر الرئيس بوش الابن؟

والحقيقة أن الرئيس السابق للحكومة البريطانية، لم يصل فجأة إلى هذا الموقف المحرج، بل المخزي، بل إنه سلك الطريق إلى هذا الموقع، خطوة خطوة، وبوعي تام، وعناد تام في الوقت نفسه.

وسيتوقف المؤرخون طويلاً أمام جوهر وتفاصيل سلوك بلير بريطانياً وأوروبياً ودولياً، ازاء موضوع قرار المحافظين الجدد، وعلى رأسهم الرئيس بوش، بالإصرار على غزو العراق. وهو قرار اثبتت الوثائق فيما بعد أنه كان متخذاً قبل الحادي عشر من سبتمبر/ايلول، وأن حادث برجي نيويورك جاء حجة لتسهيل تمرير قرار بهذه الخطورة.

لقد سابقت بشاعات الدور الذي قام به بلير بعضها بعضا في التمهيد للغزو، والإصرار عليه والدفع باتجاهه، في مواجهة المجتمع الدولي كله، ومن ضمنه مؤسسات المجتمعات المدنية في كل الدول الأوروبية الأساسية، ومنها بريطانيا نفسها، ووصلت هذه البشاعات ذروتها عندما تحرك المجتمع الأمريكي عبر الانتخابات الشعبية، وعبر لجنة بيكر- هاملتون التي تضم حكماء وعقلاء من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ليمارس معارضة حادة لاستمرار غزو العراق بلا أفق منظور للحل والانسحاب. لكن ولاء بلير لجنون المحافظين الجدد، وولاءه الشخصي لسيد البيت الأبيض الأمريكي، لم يتزحزح قيد أنملة واحدة رغم كل ذلك.كما لم تزحزحه وقائع الفشل المدوي والدموي المتكرر يومياً، للاحتلال الأمريكي للعراق، لا بفظائعه السياسية، ولا بفظائعه الإنسانية.

أغرب من ذلك ما يكشف عنه في هذه الايام المستشار الاعلامي السابق لتوني بلير، من أنه كان يفكر في الاستقالة جدياً، قبل غزو العراق بعام، عندما بلغت ولايته منتصفها (خمس سنوات)، لأنه اطلع على تقارير تؤكد تدني نسبة التأييد الشعبي له إلى درجة كبيرة. لكن حاجة بوش إلى ولاء رئيس وزراء بريطانيا، مهما تدنت شعبيته، تغلبت في النهاية، حتى إن المستشار الاعلامي السابق لبلير يؤكد ان الرئيس بوش كان لا يأبه لتدني شعبيته (أي شعبية بلير) بين ناخبيه، بل ينظر إلى ما يمكن أن يؤمنه له من خدمات، استمراره في منصبه.

لقد لعب بلير دوراً كبيراً في تكسير أي نزوع أوروبي لمجابهة الغزو الأمريكي للعراق، واستمرار الاحتلال، والإصرار عليه رغم نتائجه الكارثية على العراق، وعلى السلام العالمي، وظل يمارس ذلك بحالة من الاعتزاز بالإثم لا نظير لها، والتفاخر المتواصل بما جرى وما يجري في العراق كل يوم، والتأكيد على أنه كان سيتخذ القرارات السياسية نفسها، لو عاد به الزمن إلى بداية الأزمة.

من المؤكد، أن مؤرخي الجيل القادم، سيلاحظون أن بلير، كان يؤدي دور الوكيل المعتمد للإمبراطورية الأمريكية في القارة الأوروبية كلها، بما فيها بريطانيا نفسها، اكثر مما كان يؤدي دور رئيس وزراء بريطانيا، خاصة في النصف الثاني من ولايته.

لذلك، كان متوقعاً مع انتهاء انتداب الشعب البريطاني له في زعامة حزب العمال، ورئاسة الوزراء، ألا يترك الرئيس بوش تابعاً وفياً له إلى هذه الدرجة من التفاني، يعاني البطالة السياسية والمادية، فعينه ناطقاً بلسان اللجنة الرباعية المفترض انها تشرف على تسوية سياسية للصراع العربي- “الاسرائيلي” (وهي في الحقيقة لا تشرف الا على تدعيم بقاء الاحتلال “الاسرائيلي” حتى الآن، وتعظيم رضوخ العرب والفلسطينيين للنتائج العملية لهذا الاحتلال). مع إصدار أمر أمريكي جديد لبلير في مهمته الجديدة، بعدم الاتصال بمنظمة حماس تحت أي ظرف من الظروف.

لكن ولاية بوش نفسه في البيت الابيض دنا أجلها هي الأخرى، بما يؤكد إلى جانب هامشية الوظيفة التي اختارها لصديقه الوفي بلير، أنها وظيفة محدودة المهلة الزمنية، لأنها لا يمكن أن تتعدى نهاية العام القادم، هذا إذا بقيت أيدي الرئيس بوش طليقة بشكل كامل في إدارة شؤون بلاده الخارجية، كما هي الآن، حتى آخر أيام ولايته.

إنها نهاية قصة سياسية مخزية، تليق ببدايتها المخزية.


"الخليج"

التعليقات