31/10/2010 - 11:02

بين مشهدين../ فادي العلي*

بين مشهدين../ فادي العلي*
ليس زخماً عادياً، فباتت حياتنا أشبه بشبكةٍ مترابطة من الأخبار، بل وصرنا من رواد المنتظرين لظهور الأخبار العاجلة، ولأنها من رحم الواقع، فعاجلها لا يحمل الأخبار الجيدة حتماً..
ولأننا نكرهها، نحاول الهروب منها ولو لبضع ساعات، لذا قد تجد متنفساً آخر على الشاشة نفسها، فقد تعثر عيناك صدفةً على بدايات مشوقة لفيلم سينمائي أمريكي يملك روحاً إخراجية لافتة تدفعك للقيام بمتابعته، ليروي لك بصرياً وبلغة سينمائية عالية عن جوانب إنسانية لا مفر من التعاطف معها.. مجسداً بثنايا أحداثه قيماً إنسانية رفيعة وجذابة، تدور دوماً في الفلك الأمريكي..

لذا قد لا يسعك مثلاً إلا أن تقدم الكثير من تعاطفك الضمني مع حالة الرعب الواسعة التي تعيشها مدينة كانت آمنة قبل أن يصلها قناص يصطاد ضحاياه بشكل عشوائي، لا يحمل في وجدانه مكانة استثنائية لحياة طفل أو رجل مُسن، وهذا ما يسبب هلعاً كبيراً لأهل هذه المدينة لمدة عشرة أيام متتالية، فتحولت في أثنائها إلى مدينة يصيبها الشلل، لاسيما مدارس الأطفال والذين فضل ذويهم إبقائهم في منازلهم خوفاً من رصد هذا القناص المُختل.. وغيرها من التفاصيل المثيرة التي تسرق الاهتمام بخفة عالية.. تستحق الاهتمام.

بعد ذلك، قد تتناول صحيفة يومية للبحث عما هو مكتوب، فالحبر يحمل رائحة أخرى قد تضيف للمعلومة المقروءة حزناً فوق حزنها أو عكس ذلك، سوف تتنقل بين الصفحات، لتجد أن خبراً يفوق بأهميته عشرات المرات مشاهد الفيلم الذي ذكرت بعض من تفاصيله، يفوقه لأنه حقيقة نشاهدها على مدار اليوم، فمنا من يلمسها، وآخرون منا ساروا في درب جحيمها، ومن بقي منهم يتجرع آلام من ذهبوا في قطار الموت، فلا بد من وصول رائحة الحبر والدم إلى مشارف الجسد عند قراءة تحقيق تتحدث تفاصيله عن شهادات جنود أمريكيين خدموا في صفوف قوات الإحتلال الأمريكي في العراق، فهي تضمنت اعترافات بطلها دماً نازفاً في العراق قد يكون عربياً أو سّمهِ ما شئت، فللدم رائحة واحدة ولون واحد، وهوية بشرية واحدة..

ولأننا نكتب عن الدم، فسوف نعود تلقائياً إلى قراءة شهادات الجنود، فهي تروي لنا عن بعض ما تمارسه الحضارة الأمريكية في بلاد الرافدين، بدءاً من الحديث عن الذهنية السائدة في عقولهم والتي تُتيح لهذا الجندي التعاطي مع من يرفض وجودهم من المدنيين العراقيين على أنهم متمردون على مفاهيم الحرية وبأنهم يقابلون التضحيات الأمريكية لأجلهم بالجحود، ومن هنا يبزغ الضوء الأخضر الأخلاقي الأمريكي لقتل هؤلاء المدنيين، دون أي وخزات ضميرية حتى لو في اللحظات القليلة التي تسبق النوم.. ومروراً بتفاصيل المداهمات الليلية والتي تقوم بها هذه القوات في أحياء بغداد بشكل يومي ليتحول هذا الرعب الليلي إلى روتين عراقي، لكنه غير معتاد، ولا تنتهي هذه الممارسات وفقاً لهذه الشهادات عند الحواجز الأمريكية على معظم أنحاء أرض العراق، فالجنود القابعون على حواجز الموت هذه لا يترددون بإطلاق النار على سيارات المدنيين العابرة لمجرد الشك فيها أو لحدوث سوء تفاهم في تبادل إشارات التوقف قد يُكلف من بداخلها حياتهم.. وقد تحدثت هذه الشهادات عن حالات عديدة من هذا النوع، كما لا تخلو أيضاً من إطلاق النار على الأطفال لمجرد الشك في نواياهم.. وغيرها من حكايات القتل والإعتقال، لذا لا نجافي الحقيقة إن ذكرنا بأن من يسيطر على تصرفات هؤلاء الجنود وخصوصا من هم على احتكاك مباشر مع المواطن العراقي، هو سيدٌ خفي يختبئ داخل الأجساد، هو الحالة النفسية المتردية لهؤلاء الجنود والضباط.. وهذه مشكلة أمريكية بالطبع، لا تعنينا ولا تبرر إجرامهم، فاحتلالهم لأرضنا هو مصدر دائِهم وليس الضحية..

ولابد من التنويه بأنني لا أجتهد هذه الوقائع ، فيمكنكم العودة إلى هذه التحقيقات التي نُشرت على صفحات بعض الصحف العربية ويعود مصدرها إلى مجلة ] ذي نايشن [ الأمريكية، إذاً فالناشر هنا ينتمي إلى بلاد ]الحرية[، ولابد من هذا التوضيح لكي لا ُنثير غضباً قد يأتي من جهة ] الليبراليين العرب [.

من هنا تبدأ الصور والمشاهد ورائحة الحبر.. بالتداخل مع بعضها لتشكل لديك مزيجاً غريباً، لتجد نفسك متنقلاً بين ثورات الغضب وهمسات الهدوء الحزين، مزيجاً لا يخلو من حضور الأسئلة وإجاباتها، خليط من الدهشة والاعتياد.. وإلى آخر ما هنالك من المتناقضات التي نحملها بداخلنا ذات الرائحة العربية بامتياز..

ولأن تفاصيل ما قرأته في صفحات الجريدة جاءت بعد مدة زمنية قصيرة لا تتعدى عشرات الدقائق عما شاهدته عيناي من مشاهد إنسانية مثيرة تخللت الفيلم الأمريكي، لذا باتت الأسئلة هنا سيدة اللحظة، ولابد من طرحها ولو خلت من إشارات الاستفهام.. فهذه الصفحات والمشاهد السينمائية تأخذك سيراً إلى قلب المجتمع الأمريكي ورموزه الحيوية.. لذا من هنا تتسلل الأسئلة، فالمادة السينمائية الأمريكية قد نجحت في نقل صورة تحمل جواً من الإثارة والتشويق ولكنها لم تتوان كعادتها عن إبراز الجوانب الإنسانية وخصوصية إيقاعها داخل المجتمع الأمريكي، منها كل ما يتعلق بحياة الطفل و شتى جوانب حقوقه، وقيمة إحترام حياة الفرد بكل ما تعنيه هذه المفردات من تفاصيل..

ونحن هنا لا نجادل في شرعية نقل هذه الصورة، وبحقها بأن تعكس الجوانب المتقدمة لهذا المجتمع، فالسينما الأمريكية كغيرها مرآة لواقع مجتمعها، لكن الجدال حول تناقض هذه الصورة مع ما تمارسه الإدارة السياسية والآلة العسكرية الأمريكية خارج حدود الولايات المتحدة، فالصورة السينمائية والتي جاءت أساساً من رحم خيالات كاتب سيناريو محترف، تنقل لنا معاناة مدينة من جراء جنون قناص.. لكن ثمة مشاهد من العراق تقول غير ذلك.. فهناك في العراق احتلال للأرض والإنسان، وهناك أيضاً أطفال حقيقيون يشبهون أطفال الفيلم الأمريكي تقتلهم أسلحة القناصة الأمريكيون وطائراتهم ومدرعاتهم، وفي بغداد أيضا، بيوت لا يكفي إقفال أبوابها لكي تصبح آمنة، فالمشهد هنا بات مختلفاً عن مشاهد الفيلم الذي يشعر أبطاله بحدٍ أدنى من حالة الأمان عند إقفالهم لأبواب بيوتهم خوفاً من خروج أطفالهم إلى مدارسهم، لأن ثمة قناص يبحث عن ضحية، لكن في العراق لا يؤدي عدم الخروج من المنازل بالضرورة إلى حالة الأمان، فهناك مجموعة من الجنود الأمريكيون قد تأتي في لحظة ما، وتقوم بخلع الأبواب,وترويع القاطنين بالمنزل، وتمارس كل أشكال الرعب من تفتيش واعتقال أو قتل وما هو أسوأ.. الإغتصاب.

إذا فهناك تناقض غريب، أو بمعنى آخر، هناك انفصام حاد بالشخصية الأمريكية، فأنا هنا لا أحاكم شعباً بجريرة ما تقدمه أفلامه من مواد، ولكني أحاول أن أسلط ضوءاً على ما تعكسه هذه الأفلام من قيم يتغنى بها المجتمع الأمريكي كثيراً وعلى منابر عدة منها فن السينما، فنُخب كبيرة من هذا المجتمع تسمي الواقع الحالي في الولايات المتحدة بعدة مسميات، منها مجتمع الحرية والعدالة والمساواة والتعددية وحقوق الإنسان، والحيوان أيضاً، ولشرائح واسعة في الولايات المتحدة قناعات مماثلة، وقد نجافي الحقيقة إذا لم نذكر بأن هذه المفاهيم أخذت طريقها في التطبيق منذ مدة طويلة في الولايات المتحدة وقطعت أشواطاً متقدمة أيضا في ممارستها.. لكن أين؟ فبعودة صغيرة للفيلم المذكور و غيره من الأفلام التي نشاهدها، يغوص صانعي السينما في أمريكا في توصيف الحالات الإجرامية التي تتناولها مواضيعهم، يُوصفون هذه الحالات ويشخصون جذورها النفسية والتربوية والبيئة والمحيط الخاص بالمجرم، ويتناول هؤلاء أيضاً مدى رفض المجتمع الأمريكي لظواهر مثل الخطف أو القتل أو اضطهاد الأطفال، وهذا الرفض مشروع وطبيعي..

لذا.. فالمواطن الأمريكي مدعو للإجابة عن تساؤلات حول هويته الأخلاقية، والإنسانية أيضاً، فهل يرى هو بأن من حقه بأن يمارس الحرية وبأن يتمتع بالعدالة وبحقوقه كإنسان، داخل حدوده فقط؟ هل يؤمن بأن القيم والمفاهيم الإنسانية هي من حق الجميع؟ هل يعلم بأن القضايا الأخلاقية والإنسانية لا تتجزأ؟ هل هو على دراية كافية بما يحصل في هذا العالم؟ هل يعلم بأن قوات بلاده تحتل أجزءاً كبيرة من العالم وتمارس أبشع أشكال الإحتلال؟ وبأن إدارته تتحرش بسيادات كل الدول، وتنصب حكاماً على دول، وتخلع رؤساء في أماكن أخرى؟ بينما يُدرك هو معنى الاختيار.. هل يعلم بأن دولته تندرج ضمن قائمة الدول الأكثر صناعة وتصديرا لأسلحة الموت والقتل في هذا العالم؟ هل يُدرك ما معنى بأن يتحول العالم إلى جغرافيتين اثنتين فقط، الأولى يسودها الآمان ومن يحيا وراء حدودها يتمتع بحقوقه, ومن جعله قدره أن يحيا على الثانية يفقد حقه بالحياة؟ هل يعلم بأن صندوق اقتراعه بات يشكل لنا مصدراً من مصادر الجحيم؟ هل نفاجئه إن وصفناه بأنه ضحية أيضا لمراكز القوى في بلاده، وبأنه مجرد أداة في عملية انتخابية يرسمها عمالقة الإقتصاد وإمبراطوريات الإعلام وكبرى شركات الصناعات العسكرية ودهاليز الكونغرس والبنتاغون؟

وعليه قد بات من حقنا بأن نطلب منكم .. لكوننا شركاء في الإنسانية، بأن لا تكتفوا فقط بالتعاطي مع الجغرافية التي تقع خارج حدودكم على أنها مقراً لإجازاتكم الصيفية، أو في حالات أخرى هي الفضول الذي ينتابكم بعد سن التقاعد ويدفعكم لزيارة عالمنا، فعليكم أن تدركوا أن مسؤوليتكم تجاه ما يحدث في هذا العالم مسؤولية أخلاقية، وبأننا لا نُكن العِداء لكم، لكننا نقاوم وجود جيوشكم في مُدننا.. وتدخل إدارتكم في إدارة شؤوننا، والعبث باقتصادنا، وبتقسيم دولنا، وتفتيت وحدة مجتمعاتنا.. مع إدراكنا بأن عوامل خللنا الذاتي شريكاً رئيسياً لسياسات إداراتكم، فمقاومتنا لسياسات إداراتكم المتعاقبة حقيقة، وخطر آلتكم العسكرية علينا واقع ملموس، لا يشبه ما تتناوله أفلامكم في هوليوود عن أخطار خارجية وفضائية تتهدد أمنكم وسلامتكم، فأخطار هوليوود مجرد خيال وتسلية، بينما خطر سياستكم علينا يتهدد وجود أمة بأكملها..

لهذا إن أردتم الإستمرار في تجاهل ما يحدث لنا، قد يصبح من حقنا مطالبتكم بأن تقوموا بتغيير وِجهة تمثال حريتكم وبأن تجعلوا وجهه باتجاه مدنكم، لكون رمزية الحرية التي يحملها، لكم فقط..

التعليقات