31/10/2010 - 11:02

تأخرتم جداً.. حتى لو صدقتم../ جميل مطر

تأخرتم جداً.. حتى لو صدقتم../ جميل مطر

انفرط عقدنا أم فقدناه. لا أحد أقابل إلا وألقى في وجهي بأسئلة أكثرها استنكاري. ولا أحد حصل مني على إجابة مقنعة أو مرضية أو حتى مهدئة وواعدة. وبدوري رحت أسأل، سألت من بيدهم الحل والربط، وسألت أساطين التبرير وصناع الشعارات. وتشاورت مع من كان يعرف وتوقف، ومع من كان يعرف ومازال يتابع، ولم أجد عند هؤلاء إجابات تشبع فضولي أو تشجعني على نقلها إلى مئات السائلين من الذين يقرأون والذين لا يقرأون، من قادة الفكر والعلم والثقافة ومن العامة الذين يستهلكون ما ينتجه هؤلاء القادة والعامة الذين تدنت إنسانيتهم تحت ضغط إهمال الدولة لهم وقمعها إياهم، وكاد اليأس يطيح بما تبقى من معنى لوجودهم.

بحثت عن وثيقة أو عهد أو عقد أو ميثاق يلزم هذه الجماعة الحاكمة سلوكيات معينة ويخضعها لعقوبات واضحة إن انحرفت أو تجاوزت، ويحدد حجم ما تستحقه من ثناء ومكافأة إن التزمت وأحسنت، ويعدد ثوابت غير مسموح التلاعب بها أو التمسح بها عندما تدعو حاجة شخص أو جماعة في الحكم والتخلي عنها إن دعتهم حاجة أخرى.

لم أجد في أوراق هذا الحكم وثيقة أو عهداً أو عقداً أو ميثاقاً أو حتى بياناً دورياً يوضح لشعب مصر مسالك الطريق بكل عقباتها وانحناءاتها، يذكّر الأحفاد بسعي الأجداد نحو التقدم والتحضر ويذكّر الأبناء بجهود الآباء وآمالهم في مستقبل أفضل.

نحن الآن على مشارف مفترق طرق ولا سبيل لوقف حال الضياع إلا بالتزام في شكل وثيقة أو عقد جديد يعيد إلى الثوابت احترامها، ويضع القواعد الضرورية لتصحيح قرارات وسياسات أفضت إلى وضع لم أقابل في جولاتي الآسيوية والعربية من يحسدنا عليه، ويرسم على الطريق علامات تحذير للفاسدين والمفسدين والمنحرفين وأهل الاستبداد ودعاة التطرف.

* * * *

لست واحداً من الذين يغالون في طلب تثبيت الثوابت أو يدعون إلى تجميدها، أعرف أن لكل أمة ثوابتها التي تسعى إلى حمايتها ضد غارات عقائد ومذاهب وأطماع أمم أخرى. وكل أمة تختار حكاماً يتحملون مسؤولية الحماية. وما نراه في مصر الآن دليل متجدد على أن ثوابت في هذا البلد وقع اختراقها.

نعرف أيضاً أن في كل أمة عريقة تتطور الثوابت، تتطور لتسمح لقوى التاريخ أن تتبادل معها التأثير فتكسب بهذا الاختلاط والتجديد ديمومة واستقراراً وعزيمة أقوى وعوداً أصلب. قرأنا عن حضارات بالغت في تجميد ثوابتها أو عقائدها فانكسرت الثوابت وانحسرت الحضارة. ونعرف بالمقابل أن أمماً تغافل حكامها عن ثوابتها متعالين عليها أو متاجرين بها، أو في أحسن الأحوال غالوا بسذاجة بالغة في اطمئنانهم إلى أبديتها وقدسياتها، هذه الأمم انكسرت وتناثرت ثوابتها شعارات جوفاء على صفحات الجرائد والمجلات، وأصواتاً بين الصراخ والحشرجات تنبعث من الفضائيات وموضوعات لرسومات كاريكاتيرية ودردشة إلكترونية.

حالنا لا تختلف كثيراً عن حال هذه الأمم. أذكر، وأعرف عن تجربة، أنه في فترات كثيرة لم يكن مسموحاً إدارة نقاش مفتوح حول مستقبل مياه النيل، أو وضع دراسات تبحث في احتمالات التدخل في مجراه لدى دول المنبع، وبالتالي لم يكن محبذاً التطوع بتقديم توصيات وانشغال البحث العلمي بوضع بدائل عمل سياسية وغير سياسية. قيل، وقيل كثيراً قبل أن تصدمنا الحقيقة، اطمئنوا فالعيون السياسية لا تنام. هي أدرى لأنها تكتنز المعلومات التي لن يتمكن باحث أو كاتب من الوصول إليها منفرداً. عاش الأجداد منذ أيام الفراعنة إلى أيام الليبرالية تشغلهم قضية الاطمئنان إلى مياه متدفقة باستمرار وثبات، وواثقين بأن أي عدو لمصر سوف يحلم إن آجلاً أو عاجلاً بالمساس بجسور النهر أو انضباطه أو حجم تدفقاته. ثم جاءت إلى حكم مصر جماعة تؤمن قدرياً أو ببساطة أن أحداً لا يجرؤ على المساس بالنيل من أعلى منابعه إلى أدنى مصباته، حتى إن “إسرائيل” هذا “العدو” الذي يتحدث عنه الناس لم يعد عدواً.

هذه الثقة “التاريخية” لم تكن ثابتاً من ثوابت السياسة الدفاعية والخارجية المصرية. فقد شهدت سجلات الأمن القومي المصري في عصور بعينها فتوحات عسكرية لصنع هذه الثقة وتجديدها، وشهدت في عصر آخر “فتوحات” سياسية ودبلوماسية في شتى أنحاء إفريقيا. ثم جاء عصر شهدنا فيه انسحاباً من إفريقيا برمتها وانحساراً في نفوذ مصر وامتناع متعمد عن استخدام كافة مصادر قوتها الناعمة في تلك القارة.

ولم يكن هذا الانحسار أو الانسحاب، كما جاء في ظن البعض، من أجل تأمين ثابت آخر من ثوابت مصر أو تحسينه أو تطويره بل كان، وتأكد الآن بالدليل القاطع، أنه كان انسحاباً لدعم انسحاب آخر في موقع آخر. كان انسحابنا من إفريقيا لدعم انسحابنا من العالم العربي خاصة، والعالم الثالث عامة.

* * * *

يذكر أبناء جيلي مرحلة لم يكن مسموحاً لنا فيها المساس بمضمون أو جوهر علاقة العداء الناشبة بين مصر و”إسرائيل”. لم يكن مسموحاً لنا دخول مصر وفي حقيبتنا كتاب عن “إسرائيل” أو نناقش علانية قضية اجتماعية “إسرائيلية”. تغير الأمر بعد الهزيمة وحصلنا على حق الاطلاع على ما يجري في “إسرائيل” بشرط الحصول على إذن خاص. “إسرائيل” لم تكن في حد ذاتها جزءاً من تراث مصر السياسي أو ثوابتها الاستراتيجية، إنما الثابت كان العلاقة مع كيانات المشرق المتاخمة لحدود مصر الشرقية والممتدة عبر بلاد الشام حتى حدود تركيا وبلاد الرافدين، باعتباره أحد أهم أركان عقيدة الأمن القومي المصري. وأذكر أنني تلقيت دروساً في هذه العقيدة في معهد من أكبر المعاهد العسكرية التي صنعت فكر الأمن القومي بمعناه الحديث.

لم يكن مسموحاً مجرد الظن بأن “إسرائيل” ستكون ذات يوم غير معادية، ولا أقول صديقة كما حاول بعض قادة العقلانية الحديثة إقناعنا، وبالتأكيد ليست حليفة كما بشّر بعض قادة الواقعية المفرطة منذ أسابيع قليلة لجر مصر ومدرستها الأمنية في اتجاه صراع مسلح ضد إيران. ما لم يكن مسموحاً أصبح في العقود الأخيرة ممكناً ثم محبذاً وفي أحيان مفروضاً بشدة. وأصبح غير المسموح أن تصطف في طابور المقاومة ضد الاعتداءات “الإسرائيلية” على العرب في لبنان وسوريا ودبي والعراق والخليل ونابلس والقدس والأردن وسيناء وحدود مصر مع السودان، أو أي مكان عربي آخر، وأن تعترض على نشرهم الفساد والتخريب في سيناء، وأن تحذر من توغلهم خلف خطوطك في إفريقيا واحتلالهم مواقع أجبروك، أو أقنعوك بوسائل عديدة، على التخلي عنها والخروج منها.

كاد يحل في مؤسسة السياسة الخارجية المصرية، إن وجد شيء اسمه مؤسسة السياسة الخارجية في مصر كما في دول أخرى، اقتناع بأنه ليس من مصلحة الاستقرار السياسي في مصر، بمعنى استقرار نظام الحكم القائم، إغضاب “إسرائيل” وجماعات الضغط الصهيونية في أمريكا، فهي قادرة من الخارج على إثارة مشكلات داخلية في مصر تؤذي الأفراد والنخب والمصالح. أظن، ولست مبالغاً في الظن، أن هذا العامل لعب وحده، أو مع غيره من العوامل، دوراً كبيراً في قلب معادلة ثوابت مصر التاريخية جميعاً أو معظمها رأساً على عقب.

اختل ثابت العلاقات مع إفريقيا وبخاصة حوض النيل. اختل ثابت ارتباط مصر العربي والإسلامي بمنطقة المشرق وثابت التواصل الجيواستراتيجي بالعراق. واختل ثابت التوافق التقليدي بين الطبقة الحاكمة المصرية والشعب المصري حول أساسيات العلاقة مع الغرب من ناحية والعلاقات مع الدول الناهضة في العالم النامي من الصين والهند شرقاً إلى البرازيل وشيلي غرباً.

وفي الداخل طرأت على الثوابت الوطنية اختلالات شتى. كانت العلاقة “البناءة والإيجابية” التي قامت عبر الزمن بين الدولة والدين ثابتاً يحظى باحترام الحكام والمحكومين وإلى حد كبير، غير مسموح المساس به لصالح طرف على حساب الطرف الآخر . ومع ذلك، ولأسباب سياسية انتهازية اعترف بها من شارك في صنعها أو استمر في ممارستها، وقع الاختلال في هذه العلاقة، ومن الاختلال وقع الصدام، ومن الصدام وقع الفتك بمنظومة قيم وسطية ومعتدلة وبخاصة حين سمح لمذاهب شتى لتغزو مصر بقوة المال وشراء الذمم في قطاع الإعلام وبعض قطاعات المؤسسة الدينية والتعليمية وقطاع السينما والمسلسلات، وتفرض قيماً غير مألوفة أو مستساغة، بعض هذه القيم لغرابتها أو على الأقل لاستثنائيتها بين قيم عصر غير عصرها تسبب في انهيار مؤسسات ومنظومات وضربت الإنسان المصري وإنجازات التحضر والتقدم التي حققها ضربات قاصمة. ولم يكن شيء من هذا ليحدث لو تم الالتزام بمسؤولية حماية الأمن القومي المصري حسب المفهوم الحديث لهذا المفهوم والمتضمن حماية منظومة القيم.

* * * *
كانت العلاقة الخاصة القائمة عبر الزمن بين الدولة المركزية والمجتمع في مصر ثابتاً اعترفت بأهميته علوم السياسة والاجتماع وقامت بالتنظير له تحت عناوين كثيرة أشهرها عنوان المجتمعات النهرية. جاء وقت كان دور الدولة كلاعب رئيسي في عملية تصنيع المجتمع تحت عنوان سياسات القطاع العام ثابتاً لا يمس. وفجأة وقع فرض إبعاد الدولة وتقليص تدخلها ودورها التنموي وصار عقيدة جديدة في مستوى “ثابت لا يمس”، حتى وقع المحظور بسبب هذه العقيدة حين انفرطت الولاءات وعم الفساد وانحسرت الإنتاجية وشحت الموارد وتضاعف العجز، فلجأت الدولة إلى تعويض انسحابها من مسؤولياتها الاجتماعية والتنموية بمضاعفة أدوارها وطاقاتها الأمنية. حدث هذا بعد أن وقع الانفراط واختلت العلاقة بين الدولة والمجتمع وتعددت مظاهر التمرد ونقص الاحترام ولجوء قطاعات واسعة من الشعب إلى هوياتها الأولية باحثة فيها عن أمن واطمئنان.

وكانت من الثوابت وحدة هذه الأمة بقطاعاتها الواقعة على أطراف الوادي جنوباً وشرقاً، وقطاعاتها الممارسة لعقائد دينية متنوعة، وقطاعاتها الباحثة عن حقوقها الاجتماعية في المساواة والعدالة والرفاهية والهوية والمشاركة السياسية. نرى اليوم أهل النوبة وأهل سيناء وأهل الصحراء الغربية، كل يتملص من إسار الوحدة إلى عالم التوافق والمصالح المشتركة. البعض يسعى لتحقيق “ذاتية” قد تتفق والمصلحة القومية أو لا تتفق، والبعض مستنفر تحت ضغط ظلم حقيقي.

* * * *
مرة أخرى تتأكد مسؤولية الحكام عن سقوط العلاقة الحميدة بين الدين والدولة في مصر وصعود دور “الدينيين” على حساب دور الإصلاحيين والتقدميين السياسيين، مرة أخرى تتأكد العواقب المدمرة لسياسات الاستخدام الانتهازي للتدين وتديين المجتمع والمؤسسات والشخصيات الدينية. اليوم تدفع مصر ثمن اهمال ثوابتها وتقف ساخرة حيناً وغير مصدقة حيناً آخر العودة إلى استخدام كلمة العدو صفة ل”إسرائيل” وكلمة حرب لوصف رد فعل مصر المحتمل ضد دول حوض النيل ونغمة حقوق الفقراء والعدالة الاجتماعية.

تصحيحات، إن صدقت، سطحية جداً في وقت متأخر جداً.
"الخليج"

التعليقات