31/10/2010 - 11:02

تجربة الكفاح المسلح بين بريق الشعارات وواقع الإحصاءات ../ ماجد كيالي

تجربة الكفاح المسلح بين بريق الشعارات وواقع الإحصاءات ../ ماجد كيالي
منذ انطلاقتها كانت هناك فجوة كبيرة بين شعارات الحركة الوطنية الفلسطينية وإمكاناتها، وبين رغباتها وقدراتها، لذلك لم يكن ثمة أي تناسب بين التضحيات والمعاناة التي تكبدها شعب فلسطين، طوال أكثر من أربعة عقود مضت من عمر حركته الوطنية، وبين الإنجازات التي تم تحقيقها، سواء داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو في مناطق اللجوء.

هكذا فإن هذه الحركة، على دورها في استنهاض شعب فلسطين وتعزيز هويته الوطنية، وتأكيد حضوره من الغياب والتشتّت في مواجهة المشروع الصهيوني، لم تنجح في الخيارات التي أخذتها على عاتقها، من المقاومة إلى التسوية، ومن الانتفاضة إلى التسوية، ومن بناء الحركة الوطنية إلى بناء الكيان.

ومشكلة الحركة الفلسطينية أنها بدلا من وعي الواقع المعقد والمعطيات المحيطة والبناء على الإمكانات، والقياس على الإنجازات، أسّست نفسها على الشعارات وشحذ العواطف وتقديس التضحيات، وعدم المساءلة ونبذ العقلية النقدية، وتغييب الطابع المؤسّسي والديموقراطي في إدارة بناها وعلاقاتها الداخلية.

وإذا وضعنا الكفاح المسلح، أو المقاومة، أو حرب التحرير الشعبية، على طاولة التشريح وكشف الحساب، فسنجد أن هذه التجربة لم تكتسب ملامح معينة، ولم تجر أية عملية تأصيل لها، وأنها خضعت غالبا لأغراض الدعاية الإعلامية، والمنافسات الفصائلية، وجرت المبالغة بقدراتها وبتأثيراتها على إسرائيل.

أيضا، فإن هذه التجربة التي بادرت «فتح» لإطلاقها عام 1965، لم تعط الثمار المرجوّة منها (الكلفة أكثر من المردود معنويا وبشريا وماديا)، ليس بسبب موازين القوى المختلة لصالح إسرائيل فقط، وإنما لأن ممارسة المقاومة، في ظروف الفلسطينيين الاستثنائية والمعقدة، كانت محدودة ومقيدة وموظّفة، ولأن هذه التجربة انعكست سلباً عليهم، بتضخّم جسمهم العسكري، على حساب جسمهم السياسي، وباستخدامهم هذا الجسم خارج أغراضه الشرعية، في مشاريع الهيمنة المجتمعية والمنازعات الفصائلية، وفي التوظيفات الإقليمية والاحتكاكات السلبية ببعض السلطات العربية، وبحكم الطريقة المزاجية والفوضوية في إدارة العمل الفلسطيني، وأيضا بحكم تخلف إدارة هذا الشكل في ظل البنى الهلامية الفصائلية.

وعلى أهمية دراسة المعطيات والتمعن في التحليلات، فإن الإحصاءات هي الأكثر مباشرة وشفافية، في تقديم كشف حساب التجربة المسلحة وتبيّن جدواها. هكذا يتبيّن بأن العام المنصرم (2007) كان الأكثر أمانا بالنسبة الى اسرائيل، مقارنة مع أعوام سبقته، حيث قتل فيه 11 إسرائيليا فقط، وفي العام (2006) قتل 24 إسرائيليا، وعام 2005 قتل 50 إسرائيليا. أما العمليات التفجيرية فغابت تماما (عدا واحدة) عام 2007، مقابل 6 عمليات عام 2006 و8 عام 2005. («يديعوت أحرونوت» 27/12/2007). في مقابل ذلك قتلت إسرائيل 467 فلسطينياً عام 2007، عدا عن أن هذا العام شهد مصرع أكثر من 500 فلسطيني في الاقتتال الداخلي، أي أكثر ممن قتلتهم إسرائيل (ذهب ضحية الاقتتال بين الفلسطينيين 345 في العام 2006، و176 عام 2005).

المفارقة أن هذه الأعوام بالذات شهدت صعودا كبيرا لحركة «حماس»، التي بنت نفسها على اساس معارضة القيادة الرسمية، إلى سدّة السلطة، على أساس مناهضتها للتسوية، وتمسكها بالمقاومة المسلحة، لا سيما وفق نمط العمليات الانتحارية، الامر الذي يطرح السؤال بشأن التناسب بين الادعاءات والحقائق، وبين الرغبات والقدرات، وبين الشعارات والسياسات، خصوصاً أن «حماس» بعد وصولها الى السلطة نحت نحو التهدئة والهدنة، اللتين كانت ترفضهما في السابق، (باستثناء القصف بالصواريخ من قطاع غزة)، سواء لرغبتها أو لعدم قدرتها، وباتت أقرب إلى مفهوم الدولة في الضفة والقطاع، نتيجة انخراطها في السلطة! كما تطرح هذه المفارقة التساؤل عن مغزى التصارع الداخلي، المجاني والعبثي، بين الفلسطينيين بشأن الكفاح المسلح، الذي يبدو انه مجرد صراع كلامي، لا يفيد إلا في المنافسات بين الفصائل، وتأجيج العواطف الشعبوية لا أكثر، من دون أن يكون لذلك أي أثر ملموس على إسرائيل كما بيّنت الإحصائيات، وكما يدل الواقع السائد.

المؤلم في هذا الأمر أن شحنة العنف لدى الفلسطينيين انعكست سلبا عليهم في حل منازعاتهم الداخلية، وبحكم أن ميلهم الى استخدام السلاح، وعدم قدرتهم على استخدامه ضد عدوهم، أدى إلى توجيهه نحو الداخل، في ظروف الفوضى والتوظيفات المتباينة والضيقة، والعقليات المتخلفة.

وبالعودة إلى حساب المقاومة المسلحة في السنوات الأخرى السابقة، فقد قتل في العمليات من الإسرائيليين 109 عام 2004 و199 عام 2003 و426 عام 2002 و201 عام 2001 و43 منذ أواخر أيلول (سبتمبر) 2000. وبالمحصلة قتل حوالي 1100 من الإسرائيليين من أيلول 2000 إلى نهاية عام 2007.

وللعلم ففي قطاع غزة، الذي انسحبت منه إسرائيل عام 2005 قتل حوالي 230 إسرائيليا فقط منذ احتلاله عام 1967 حتى أواخر العام 2005، بينهم 38 إسرائيليا قتلوا خلال 20 عاما في الفترة من 1967 الى 1987، وفي الانتفاضة الأولى (أواخر 1987ـ إلى أواخر عام 1993) قتل 29 إسرائيليا، ومنذ تلك الفترة حتى انتفاضة عام 2000، قتل 39 إسرائيليا في القطاع. وفي السنوات الخمس من المواجهات المسلحة قتل 124 إسرائيليا في مناطق القطاع، مقابل 2600 من ابناء غزة لقوا مصرعهم في تلك الفترة. («هآرتس» 23/8/2005)

وبالمحصلة فإن حساب خسائر الفلسطينيين في المواجهات المسلحة، يفيد بمصرع حوالي 5500 منهم، وجرح 70 ألفا (كثيرون منهم مع إعاقة دائمة)، كما دخل المعتقلات حوالي عشرين ألفا، هذا إضافة إلى الخسائر الاقتصادية التي تقدر بحوالي 12 بليوناً من الدولارات، والخسائر الاجتماعية التي من ضمنها شيوع الفقر والبطالة، وتدني المستوي الصحي، وانقطاع العملية التعليمية، من دون أن نتحدث عن الخسائر السياسية، على كل الأصعدة، داخليا وخارجيا.

أما إذا عدنا الى تجربة الكفاح المسلح قبل الانتفاضة، فإن الواقع أشد صدمة، وبحسب آفي ديختر، رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (سابقا)، فقد «أصيب جراء الإرهاب من الإسرائيليين (قتلى وجرحى) في السنوات الأربع الأخيرة 11.356 شخصا، مقابل 4.319 شخصا أصيبوا بين 1947 و2000».(«هآرتس» 9/8/2004) ويستنتج من ذلك أن المواجهات التي تمت في الأعوام الأربعة الأولى من الانتفاضة كلفت إسرائيل أكثر بثلاثة أضعاف، مما كلفتها تجربة الكفاح المسلح الفلسطيني، طوال الأعوام 1965 ـ2000، مع كل التوظيف العسكري والضجيج الإعلامي، والتحشيد العاطفي، الذي ساد في تلك الفترة! مع علمنا أن ثمة أطناناً من البيانات التي صدرت عن مختلف المنظمات، حول العمليات التي تكبد فيها العدو الإسرائيلي خسائر فادحة في الأرواح والمعدات!

والاسوأ من ذلك أن عشرات الألوف من الفلسطينيين قضوا في سبيل هذا الكفاح ضد إسرائيل، وفي أحداث الأردن (1970)، وإبان الحرب الأهلية اللبنانية، وثمة أكثر من مئة ألف جريح ومصاب، وحوالي 500 ألف فلسطيني دخلوا السجون الإسرائيلية، لفترات متفاوتة، منذ احتلال الضفة والقطاع في العام 1967، ناهيك عن انعكاس هذه التجربة سلبا على الفلسطينيين في الأردن ولبنان.

طبعا الحديث هنا لا يتعلق بشرعية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، بقدر ما يتعلق بجدوى الأشكال النضالية المتبعة بحسب الزمان والمكان والهدف، وامكانية استثمار العوائد المتأتية منها إيجابا، والقدرة على التحكم بها وإدارتها بأنجع ما يمكن. كما أن المسألة هنا تتعلق بعدم حصر المقاومة بالكفاح المسلح، وتأكيدها بكل الأشكال الشعبية الممكنة، ومن ضمنها بناء الذات.

وفي الواقع فإن كفاح الفلسطينيين كان يمكن له، ربما، أن يكون أكثر جدوى، لو أداروا كفاحهم بنوع من العقلانية والواقعية، ولكن خسائرهم بالتأكيد كان يمكن أن تكون أقل بكثير، في هذه الحال.

على ذلك فإن القيادات الفلسطينية معنية بوعي واقعها ومصارحة شعبها بالحقائق وتوضيح استراتيجيتها. فهل هي مع التسوية والدولة، أم مع التحرير الكامل والمقاومة المسلحة؟ وهي معنية بترشيد شعاراتها ووسائل عملها، وإدارة كفاحها بأنجع وأقوم ما يمكن، لوضعه على سكة تقلل خسائره وتحفظ إنجازاته وتراكم نجاحاته في صراع يفترض أنه طويل وممتد، في الزمان والأشكال.

وهذا هو جوهر العمل القيادي والسياسي الذي لا يرتبط بالعواطف والمزايدات والمنافسات، بقدر ما يرتبط بموازين القوى والتفاعلات والمعطيات السياسية لمراكمة الإنجازات الوطنية.
"الحياة"

التعليقات