31/10/2010 - 11:02

تدهورت مهنة الجاسوسية../ جميل مطر*

تدهورت مهنة الجاسوسية../ جميل مطر*
تتفاعل، وسط ضجة محسوبة، قضية استخدام الجيش الأمريكي للمرتزقة، بعد الإعلان عن تجاوزات ارتكبها “عسكريون خواص” يعملون لحساب شركة أمن أمريكية. وعلى كل حال لا الارتزاق مهنة جديدة ولا أمريكا الدولة الوحيدة التي تستخدمهم. فالارتزاق بالحرب هو الأصل في بعض العسكريات القديمة. وتستخدمه الآن في الأعمال اللوجيستية والإدارية والعلمية، مؤسسات عسكرية في دول كثيرة. واستخدمته دول غربية وقوى متمردة في العالم النامي لإسقاط حكومات في إفريقيا وما زالت تستخدمه شركات التعدين العالمية المشهورة لحماية مناجمها ومنع العمال من تهريب الألماس وغيره من الأحجار الكريمة التي تستخرج من تلك المناجم.

أما الزيادة الملحوظة في الآونة الأخيرة في استخدام الحكومات لشركات أمن خاصة، فتعود أساساً إلى الاعتناق المتزايد لأيديولوجية تحرير الاقتصاد وتخفيض مسؤولية الدولة وضرورات خصخصة كافة القطاعات التي دخلت الدولة فيها مالكاً أو مديراً أو شريكاً سعياً وراء كفاءة أعلى في العمل والإنتاج والتوزيع. ولم يكن في ذهن أنصار حرية السوق أن الأمر سيصل ذات يوم إلى حد الدعوة إلى خصخصة قوى الدفاع المسؤولة عن حماية حدود الوطن ومصالحه الحيوية. ربما خطر على بالهم خصخصة بعض الأنشطة “غير العسكرية”. كما أشرنا، ولكن لم يخطر على بالهم أن المعارك ستدار مشاركة بين قوات تابعة للحكومة وقوات تابعة للشركات، أو أن المسؤوليات الأمنية الداخلية سيجري تقاسمها، وبالتأكيد لم يخطر على البال أن يوماً سيأتي تتولى فيه الشركات الخاصة مسؤولية العمل الاستخباراتي إلى جانب العمل العسكري.

ويمكن فهم بعض دوافع هذا الاتجاه في الولايات المتحدة تحديداً. وأحد هذه الدوافع وربما أهمها، أن العمل الاستخباراتي الأمريكي قد تدهور في العقود الأخيرة باعتراف كثيرين ممن عملوا فيه وقادة سياسيين ومنهم الرئيس بوش شخصياً ومساعدوه الذين ألقوا بتبعة غزوهم للعراق على استخبارات غير دقيقة وغير كفؤة. وما الإجراءات التي تقررت عقب اتضاح فشل الحرب، مثل عزل قادة كبار في عدد من أجهزة الاستخبارات الأمريكية وإخضاع هذه الأجهزة إلى قيادة تنسيق واحدة جاءوا بالسفير نجروبونتي ذي التاريخ الطويل في العمل “الاستخباراتي الدبلوماسي” في أمريكا الوسطى ليتولى مسؤوليتها. أما أسباب التدهور فكثيرة وتختلف من بلد إلى آخر ومن حين إلى حين.

وأول هذه الأسباب المبالغة الشديدة في استخدام السرية، فالسرية المبالغ فيها تدفع الرأي العام وأجهزة الدولة الأخرى إلى الشك في صدقية ما تقوم به أو تنتجه أجهزة الاستخبارات والشك في سلامة أساليبها. وأذكر من التجربة الشخصية كيف أن أجهزة الأمن في بعض وزارات الخارجية كانت تفرض على بعثاتها إرسال قصاصات الصحف الأجنبية في مظروف مختوم بخاتم السرية. إلى جانب ذلك فإن السرية الشديدة كثيراً ما تسببت في “اختفاء” المعلومات شديدة الأهمية تحت أكوام من المعلومات العادية والمتاحة.

ثانياً: أتصور أن تدهور مستويات التعليم في الولايات المتحدة، وبشكل فادح، في دول أخرى، مسؤول عن ندرة الشباب المدرب على التحليل وقوة الحجة والرأي وإجادة لغات أجنبية، وبخاصة “لغات الصراع الدولي”، أي اللغات التي تدور بها الصراعات الجديدة أو تتحدث بها الدول الصاعدة في القوة مثل الصينية والعربية والأوردية والفارسية والعبرية.

ثالثاً: يلقي خبراء تبعة تدهور العمل الاستخباراتي على تعدد أجهزة الاستخبارات داخل الدولة الواحدة. ويقال في تبرير هذا التعدد إن الحكومات في حاجة إلى أجهزة تراقب بعضها بعضاً، لضمان أمن أوفر للنظام أو الدولة ولمنع نشوء مراكز قوة، وفي أحسن الأحوال تتنافس مع بعضها بعضاً وتتناقش توصلاً إلى الدقة. ومع ذلك فقد تأكد وفي أمريكا تحديداً أن هذا التعدد يتسبب في تعطيل اتخاذ القرار وفي وضع الاستراتيجية القومية للأمن، ويضربون مثالاً محدداً، فالتقرير الاستراتيجي القومي الذي تقدمه الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية الستة عشر إلى صانعي القرار والكونجرس كان يحتاج إعداده وإقراره إلى 480 يوماً، أمكن مؤخراً تخفيضها، مع إلغاء بعض الأجهزة، إلى 80 يوماً.

رابعاً: الخسارة الكبيرة التي أحاطت بالاستخبارات عموماً والأمريكية خصوصاً حين قلصت الصحف ووكالات الأنباء العملاقة عدد مراسليها في الدول الأجنبية. ليس سراً، ولم يكن سراً، أن الاستخبارات الأمريكية والغربية عموماً، كانت تعتمد خلال الحرب الباردة على عدد غير قليل من هؤلاء المراسلين. ونستطيع تقدير حجم هذه الخسائر إذا علمنا أنه في نهاية الحرب العالمية الثانية كان عدد المراسلين الأمريكيين في الخارج حوالي 2500 مراسل، بينما لا يزيد عددهم الآن على 250.

خامساً: لا أستبعد أن يكون التركيز خلال السنوات الأخيرة على الحرب ضد الإرهاب قد أضعف القدرة التحليلية للعاملين في أجهزة الاستخبارات، ووضع العراقيل المتعددة أمام وضع استراتيجيات أمن قومي كفؤة تأخذ في اعتبارها هذه الشبكة الواسعة من صراعات دولية وإقليمية ومحلية حديثة في طبيعتها وجديدة في أساليب تصعيدها وتهبيطها، فضلاً عن أن معظم أجهزة الاستخبارات لم تتكون لها خبرة تاريخية في ميدان متابعة “صعود القوى الدولية الجديدة”، فجيلنا في الدبلوماسية والعسكرية والعمل الاستخباراتي، لم يعايش تجربة صعود قوى عظمى حديثة، وإن كنا عايشنا انحدار قوى مثل بريطانيا وفرنسا.

من ناحية أخرى، لا يخفى أن التركيز الاستخباراتي الأمريكي على الإرهاب لا يزال يدور حول قضية لم يقدم أحد تعريفاً لها يحظى بإجماع، أو على الأقل توافق العاملين في قطاع الاستخبارات في معظم دول العالم. هذه الميوعة في فهم وتحديد جوهر قضية هي الأهم في استراتيجيات دولة عظمى كالولايات المتحدة، وأعتقد أنها ميوعة متعمدة، أضعفت بالتأكيد فعالية قطاع الاستخبارات الأمريكية واستخبارات أخرى ارتبطت باستراتيجية أمن أمريكا ومصالحها.

سادساً: أثرت مسيرة العولمة تأثيراً غير مباشر في كفاءة عمليات الاستخبارات من ناحية أن العولمة أعادت فرز توازنات الأديان والأقوام في العالم. قصدت بذلك أن أصف الموقع الذي تدنت إليه الكاثوليكية بين المذاهب المسيحية تحت وطأة الزحف البروتستانتي في الأمريكتين والنهضة العلمانية الجديدة في أوروبا الغربية والنهضة القومية الأرثوذكسية في روسيا وبعض دول شرق أوروبا. قصدت أيضاً أن أصف الانشقاق الكامن داخل الجماعة اليهودية العالمية حول ظواهر طرد من داخل الجماعة إلى خارجها وظواهر انزواء وخروج وانصهار، وظواهر أخرى ناتجة عن زيادة الضغط الصهيوني لإثبات الوجود اليهودي أو تضخيمه ورفع درجة استعداده للمواجهة، وأن أصل إلى أن هذين التطورين، وهما وضع الكاثوليكية والكاثوليكيين والانشقاق الخافت الصوت داخل اليهودية العالمية كلاهما يعني، وبوضوح شديد، خسارة مضافة للنشاط الاستخباراتي العالمي إذ كانت كل من الجماعتين تمثل خزاناً للمعلومات أو مصدراً لها توفره العلاقة بين المؤمن والكنيسة وبين المتعصب والملتزم قومياً أو دينياً بيهوديته وفروع المنظمات الصهيونية والسفارات “الإسرائيلية” المنتشرة في أنحاء العالم.

كانت هذه بعض أسباب تدهور مهنة الاستخبارات التي تقوم بها مئات الأجهزة وبميزانيات هائلة وجيوش من الموظفين والعملاء والخبراء والمحللين والجواسيس. إلا أن هذه الأسباب رغم أهميتها لا تبرر وحدها الجهود المكثفة التي تبذل في أمريكا خاصة وفي بلاد أخرى لإصلاح هذه المهنة. فقد اكتشفت خلال السنوات الأخيرة حالات فساد رهيب وحالات إهمال لا يقل خطورة، وفي الولايات المتحدة تحديداً علقت بسمعة العمل الاستخباراتي الأمريكي شوائب، مثلها مثل غيرها في دول أخرى، فسجلات الاستخبارات ليست دائماً بيضاء ناصعة، وبعضها لم يخل من بقع بعضها أسود بلون الطغيان والفساد وبعضها أحمر بلون الدم.

وقد نشرت نماذج من هذه الشوائب في كتاب صدر مؤخراً يناقش تدهور العمل الاستخباراتي وأخلاقياته وتدهور “لا أخلاقياته”، أعرض بعضاً منها في مقال قادم.
"الخليج"

التعليقات