31/10/2010 - 11:02

تنظيم الفوضى في لبنان والمنطقة../ د.عصام نعمان*

تنظيم الفوضى في لبنان والمنطقة../ د.عصام نعمان*
وحدهم العاملون في حقل العلاقات العامة كانوا سيحتفلون بانتخاب رئيس جديد لجمهورية لبنان المريضة. هم كانوا سيحتفلون، على كل حال بطريقة أخرى إذا أخفق المقاولون، المحليون والخارجيون، في انتخاب الرئيس. فالحدث الرئاسي ليس سياسياً بل هو مناسبة اجتماعية وحسب. إنه مجرد تمرين غير عادي في العلاقات العامة لأن منظميه نجوم وأقمار في مجتمع سياسي كوزموبوليتي. لماذا؟

لأن السياسة غائبة عن انتخابات رئاسة الجمهورية. فهي حاضرة، متقدة، لاهبة في “انتخاب” رئيس الحكومة. ذلك أن رئيس الجمهورية في لبنان لا يملك من الصلاحيات ما يجعله مهماً. غير أنه يغدو مهماً في حالتين: إذا كان التوازن مختلاً بين القوى المتصارعة داخل النظام الطوائفي على المصالح والمغانم، وإذا كان الاختلال في موازين القوى متجسداً في رئيس حكومةٍ وحكومةٍ يميلان إلى جهة دون أخرى. إذ ذاك يستطيع رئيس الجمهورية أن يضطلع بواحدةٍ من مهمتين: ممارسة دور الحَكَم بين القوى (الطوائف) المتصارعة أو دور المرجّح لكفةِ قوةٍ أو تحالف قوى في مواجهة قوةٍ أو تحالفِ قوى آخر.

الصراع في لبنان أخذ، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، صيغة صراعٍ مكشوف بين قوى الموالاة (14 آذار) حليفة أمريكا (وأوروبا) وقوى المعارضة المدعومة من سوريا وإيران. غاية الصراع تثبيت قبضة قوى 14 آذار على السلطة التنفيذية، أي على رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، بإقصاء الرئيس اميل لحود عن الرئاسة أو، على الأقل، تعطيل دوره تمهيداً لانتخاب رئيس من صفوف قوى 14 آذار بعد انتهاء ولايته أو رئيس موالٍ لها.

قوى المعارضة ساندت لحود وحالت دون إقصائه، بل تمترست وراءه من أجل إضعاف حكومة فؤاد السنيورة. ردّ السنيورة وحلفاؤه على المعارضة باعتماد مجلس الوزراء حيلة “قانونية” استغنى بموجبها عن صلاحية رئيس الجمهورية في التوقيع على المراسيم الصادرة عنه. وسط هذه المعمعة ضاع دورا الرئيس لحود كحَكَم أو كمرجّح دستوري لكفةِ فريقٍ سياسي على حساب آخر.

مع حلول المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد قبل 24/11/،2007 حاولت قوى 14 آذار، مدعومةً من إدارة بوش، التهويل على قوى المعارضة لحملها على انتخاب مرشح “توافقي” للرئاسة يكون في واقع الأمر مائلاً لجهتها. لكن قوى المعارضة التي أدركت عدم امتلاك قوى الموالاة الغالبية اللازمة في مجلس النواب لانتخاب مرشحها المفضل صمدت في موقفها ورفضت التراجع عن صيغتها المتماسكة للحل المرحلي المتوازن: التوصل إلى اتفاق يكون بمثابة رزمة متكاملة يتناول رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وتركيبة مجلس الوزراء والقضايا والمهام الواجب تضمينها البيان الوزاري. والغاية المتوخاة من هذه الرزمة المتكاملة وضع برنامج محدد يكون محل توافق الجميع ويتضمن النقاط الآتية:

أولاً، التوافق على شخصية مستقلة ليصار إلى انتخابها لرئاسة الجمهورية مدةَ سنتين كاملتين شريطة تعهدها، بموافقة أطراف الصراع الأساسيين، على الاستقالة في نهاية هذه المدة.

ثانياً، التوافق على تأليف حكومة وطنية جامعة ترأسها شخصية وطنية كفؤة ومعتدلة على أن تكون عضويتها مثالثةً بين قوى الموالاة وقوى المعارضة والقوى الديمقراطية المستقلة.

ثالثاً، تتعهد الحكومة في بيانها الوزاري بالتمسك بقرارات الأمم المتحدة، لاسيما ما يخدم منها مصالح لبنان الوطنية والقومية، وفي مقدمها قرار مجلس الأمن 1701 مع التأكيد على حماية المقاومة الوطنية والتعهد بعدم نزع سلاحها أو تقرير مصيرها إلاّ في إطار استراتيجية للدفاع الوطني يجري إقرارها لاحقاً في مجلس النواب المنتخب وفق أحكام قانون الانتخاب الجديد، الديمقراطي والعادل.

رابعاً، تتمسك الحكومة الوطنية الجامعة بميثاق الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) وتتعهد بالعمل على تنفيذ أحكامه، لا سيما ما يتصل منها بوضع قانون جديد للانتخابات.

خامساً، تكون المهمة الرئيسية للحكومة وضع قانون ديمقراطي عادل للانتخابات النيابية وإجراء انتخابات مبكرة قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية المؤقت. ويتعيّن على مجلس النواب الجديد انتخاب رئيس جديد للجمهورية لمدة ست سنوات. بعد ذلك يقوم رئيس الجمهورية بإجراء استشارات نيابية ملزمة لتكليف من يسميه النواب رئيساً للحكومة وبالتالي يتفق معه، حسب أحكام الدستور، على تأليف حكومة وطنية جديدة.

إن عجز قوى الموالاة والمعارضة عن التوصل إلى صيغة الرزمة التوافقية المتكاملة المشار اليها آنفا يعني، في جملة ما يعني، أن إدارة بوش لا تمانع في انزلاق لبنان إلى حمأة فراغ دستوري حالك قد يتطور إلى اضطرابات سياسية وأمنية وفوضى خطيرة. وفي هذه الحال، لا يمكن فهم خطوة واشنطن المريبة إلاّ في إطارها الإقليمي، أي في إطار تهديدات جورج بوش ونائبه ديك تشيني باحتمال توجيه ضربة عسكرية جوية وصاروخية إلى إيران وربما ضربة “إسرائيلية” أيضاً إلى سوريا.

ماذا لو رضخت قوى المعارضة، لسبب أو لآخر، للضغوط المحلية والإقليمية والدولية ووافقت على انتخاب مرشح توافقي للرئاسة من دون إقرار الرزمة المتكاملة المذكورة آنفا؟

أعود وأكرر أن هذا “الحدث” لن يكون إلا مناسبة اجتماعية في إطار برنامج للعلاقات العامة، وأن النار ستظل مضطرمة تحت رماد المجاملات السياسية والديبلوماسية المتبادلة، وأن أقصى ما يمكن أن يفعله الرئيس الجديد ومن ورائه اللاعبون الكبار في واشنطن وباريس هو محاولة تنظيم الفوضى السياسية المترعة باحتمالات صراعات محلية وإقليمية بازغة.

أكثر من ذلك، أن محاولة تنظيم الفراغ والفوضى في لبنان ستكون جزءاً من برنامج متكامل تتعهده إدارة بوش من خلال مؤتمر أنابولس للتطبيع وغيره من أجل تنظيم الفوضى والفراغات السياسية الفاغرة أفواهها في فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان. إنه برنامج تعويم الطواقم الحاكمة بل الشبكات السياسية التي تمسك لحساب واشنطن بمقاليد الأمور في تلك الدول الفاشلة والمتهافتة لحين انتهاء ولاية بوش الثانية أواخرَ العام القادم.

الفراغ والفوضى هما سيّدا الموقف. ما موقف قوى الممانعة والمقاومة، وما برنامجها العتيد لملء الفراغ ودرء الفوضى بما يؤمّن الحقوق والمصالح الوطنية ويُسهم في صون مستقبل الأمة؟
"الخليج"

التعليقات