31/10/2010 - 11:02

تهدئة مشروطة.. وحوار مشكوك في دوافعه!../ عبد اللطيف مهنا

تهدئة مشروطة.. وحوار مشكوك في دوافعه!../ عبد اللطيف مهنا
قبل أن يتوجه عاموس جلعاد إلى القاهرة حاملاً معه قرار القبول الإسرائيلي الموارب، أو القبول المشروط وقيد التفاوض لمقترح التهدئة المصري على جبهة غزة، كان الجنرال إيهود باراك وزير الحرب وزعيم حزب العمل، وصاحب التاريخ الدموي الحافل، قد قال كلمة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، حاسما بها أمر الجدل، الذي سبق توجه جلعاد إلى مصر حول المقترح، منهياً بازار المزايدات الدائم الانعقاد على المستوى السياسي الإسرائيلي... للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية دائماً القول الفصل في مثل هكذا قضايا، ناهيك عن كونها المتعهدة أو شبه المحتكرة لعملية تخريج القادة السياسيين الإسرائيليين كما هو معروف، أو على الأقل لأغلبهم... قال باراك:
"على أعضاء الحكومة الا يتباروا فيما بينهم على من يحب حماس أو يبغضها أكثر. فالمؤسسة الأمنية منشغلة بهذا الأمر. ولكن من المهم للوزراء بموجب مسؤوليتهم الجماعية، أن يصغوا جيداً لما يقوله رئيس الأركان، بشأن ما يمكن وما لا يمكن تحقيقه في عملية عسكرية في غزة"!

إذن المؤسسة الأمنية قالت كلمتها: حذرت من أن اجتياح غزة، أو عملية عسكرية واسعة النطاق ضدها، أمر مكلف ومشكوك في نجاعته وفق المعايير الإسرائيلية، وعليه، قالت للسياسيين إنها تعارضها، لكن، لا بأس فليستمر التهديد بها، والاكتفاء بالاستمرار في الدارج من المذابح الصغيرة الدامية، عبر الاختراقات، وغارات الطائرات، وقصف الدبابات، واصطياد المقاومين أينما لاحوا في القطاع المحاصر، حتى يتم انضاج التهدئة بالشروط الإسرائيلية ما أمكن... قبل أن يعود عاموس جلعاد من القاهرة شيعت غزة ثلاثة عشر شهيداً واستقبلت مشافيها أكثر من خمسين جريحاً، نكبت عائلات نسفت مع بيوتها، وكان للأطفال كما هي العادة نصيب الأسد من ذلك، من بين الضاحايا الشهداء طفلة في السادسة، وأخرى لم يتعد عمرها الأربعة أشهر...

كلام باراك يعكس أمراً آخراً، وهو أن إسرائيل المأزومة لديها مشكلة قرار، ومبعث أزمتها متعدد الأوجه، نكتفي هنا بالإشارة إلى واحد منها، وهو أن عاماً كاملاً من الحصار والتجويع والمذابح المدارة لتركيع هذا المعتقل الكبير المشاكس المكتظ بأكثر من مليون ونصف إنسان المسمى قطاع غزة، لم تفلح أيامه الدامية في كسر إرادة شعب صامد مقاوم متمسك بحقه في وطنه، يواجه بصدره العاري الحديد والنار والتآمر والتواطؤ، ويقف وحده وظهره إلى الحائط، وحيث يتفرج عليه الغريب والقريب ولا من نصير، في وجه سياسة إجرامية أقل ما يقال فيها إنها إبادية وغير مسبوقة في تاريخ البغي والعدوان وجرائمه التي مرت على البشرية.

أما مشكلة اتخاذ القرار فمردها هذا التآكل الذي يعانيه المستوى السياسي في كيان تقول آخر الاحصائيات فيه أن 90% من مستوطنيه يرون أن دولتهم موبوءة بالفساد، ويعتقد 51% منهم أن هذا الفساد شرط ضروري للحصول إلى السلطة فيه... لكن 70% منهم يثقون بجيشهم، الأمر الذي يردنا إلى مقولة أن المؤسسة الأمنية هي صاحبة القول الفصل في كل ما يتعلق بتسيير أمر هذا الكيان، ويعود بنا ثانياً إلى ما قاله باراك. وعليه، كان القبول اللاقبول بالمقترح المصري، أو على هذا الوجه الذي ذهب المبعوث الإسرائيلي إلى القاهرة ساعياً لإخراجه وفق الاشتراطات الإسرائيلية...

إذن، التهدئة هي مطلب إسرائيلي، وإن كانت مرة المذاق بالنسبة للإسرائيليين. فقد أثبتت غزة، بعد لبنان المقاوم، ضعف حكاية الردع الإسرائيلي، حيث يواجه مستعمرو المستعمرات المحيطة بغزة، أو ما اصطلح على تسميته "غلاف غزة"، هذه الحقيقة مع سقوط كل صاروخ بدائي مقاوم، لا تقوى التكنولوجيا الغربية على صده، على رؤوسهم في واحدة من هذه المستعمرات... يضاف إلى هذا الواقع السياسي الإسرائيلي الذي يستعد لتوديع أولمرت، واحتمالات الانتخابات المبكرة، وما يرافقها من مزايدات وتبديل اصطفافات بدأ تصاعد حمى وطيسها.

كما للإسرائيليين سلامهم، لهم تهدئتهم، وفي كلتي الحالتين لا سلام هو أصلاً نقيض لوجودهم، كذلك لا تهدئة لا تخدم فعلاً إلا عدوانيتهم، أو هي مؤقتة حتى يقررون وقت إجهاضها، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل وتكفي العودة إلى مصائر التهدئات السابقة التي أبرمت معهم.

وما الذي حمله جلعاد إلى القاهرة؟!
كان مسلحاً بإعلان إسرائيلي سلفاً، طرح للابتزاز وللاستهلاك الداخلي في آن: الاستعداد لعملية عدوانية عسكرية كبرى ضد القطاع الطريق إليها سوف يمر عبر "التهدئة أولاً"، ويظل رهناً باحتمالاتها... بمعنى أن عمرها، إن كانت، من المرجح أن يكون قصيراً، وأن الفلسطينيين سيكونون المتهمون بأنهم من سيخرقها سلفاً! ولهذا أعطيت مرحلة اختبار لا تتعدى الستة أشهر، ربما كانت الكافية لانضاج القرار الإسرائيلي المناسب في ظل الأزمة المشار إليها سابقاً... هذا ما عبرت عنه المصادر الإسرائيلية بقولها: "منح الفرصة للخيار السياسي والتهدئة، ولن ترفض المبادرة المصرية". لكن مع محاولة تكييفها وفق الرؤية الإسرائيلية، أي هذا ما حمله جلعاد معه إلى مقترحي التهدئة...

في الآليات، نجد كل ما يشي بما تقدم: التنفيذ على مرحلتين، وقف متبادل لإطلاق النار، وتخفيف للحصار أو فتح للمعابر الواقعة على الحدود مع المحتل من فلسطين عام 1948، وليس إنهائه. ثم فتح معبر رفح لاحقاً وهذا مقابل التقدم في مسألتين هما استعادة الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليت، وتعهدات مصرية بشأن منع "التهريب" عبر الحدود مع قطاع غزة، والحرب على الأنفاق... الأمر الذي يأخذنا إلى ما سربه الإسرائيليون من أخبار حول دورات تدريبية تجري راهناً في الولايات المتحدة لجنود مصريين لكشف هذه الأنفاق وتدميرها... باختصار، تهدئة دونما توقيع على اتفاقات، وتنفيذها رهن بالتدرج والتجريب، والعمل على تحسين شروطها إسرائيلياً.

حديث التهدئة لا يخفى وجهاً آخر لا يبذل الإسرائيليون جهداً لإخفائه، وهي السير حثيثاً بمساعدة مكفولة من الولايات المتحدة والغرب والعجز العربي على تصفية القضية الفلسطينية، أو إنجاز مثل هذا الهدف الذي يتم المسعى الحثيث راهناً لإنجازه. التهدئة في القطاع المقاوم، والتفاوض في الحجرات المقفلة في الضفة، والذي وصلت جلساته إلى ما قيل أنها الجلسة ما بعد المائة، أو هذا الذي يجري بين فريقي ليفني وقريع أو بإشرافهما، والذي لا يعلم إلى أين وصل إلا رام الله وتل أبيب والراسخون في العلم في واشنطن... تفاوض في الضفة، أو حول ما تبقى ولم يهوّد بعد أو سيهود منها، سبقه قول إسرائيلي فصل، أبلغه أولمرت لعباس قبل ارتحال الأخير إلى واشنطن والعودة منها بتفاهم استراتيجي شامل كما أبلغ حكومته:

إن "الضواحي اليهودية في القدس الشرقية ستبقى بيد إسرائيل في أي اتفاق يتم التوصل إليه"! وهذا الذي تم إبلاغه لأبي مازن، جاء بعد الإعلانات المتلاحقة، وآخرها تلى عودة جلعاد من القاهرة، عن قرارات البدء في بناء وحدات استعمارية جديدة في المستعمرات المحيطة بالقدس المحتلة وفي داخلها.
الأمر الذي كان أولمرت قد أكده سابقاً في خطابه بمناسبة الذكرى الواحدة واللأربعين لاحتلال المدينة، عندما قال: إن "سيادة إسرائيل على مدينة القدس التاريخية المقدسة ستبقى إلى الأبد"!
...مالذي أبلغه عباس لأولمرت؟!

صائب عريقات، أو كبير مفاوضي سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود، جناح رام الله، أخبرنا بأن رئيس السلطة "تقدم باحتجاج شديد اللهجة لدى رئيس الوزراء" الإسرائيلي، وطالبه من غير جدوى بوقف البناء الاستعماري، الذي هو حسب اعتقاده أمر "يقوض الجهود التي تبذل لتحريك مسيرة السلام"!
ولم ينس كبير المفاوضين التنويه بأنه "لا يعقل أن تستبدل إسرائيل المفاوضات بسياسة الإملاءات"!!!

إذن، التهدئة مشروطة في غزة، ومفاوضات إملاءات تصفوية للقضية في الضفة، وعليه، لا بد من التوقف أمام دعوة رام الله للحوار الفلسطيني الفلسطيني المتأخرة التي، كما يقال، أفضل من أن تصدق، وترحيب غزة بهذه الدعوة... توقف أم الدوافع والتوقيت لهذه الدعوة... هل هي بسبب من يأس من مردود مفاوضات الإملاءات، ويأس من أريحية راعيها الأمريكي أو نزاهته المفترضة؟!
أم هي، إذا ما ذهب بنا التفاؤل بعيداً، استقواء على غير عادة، أو محاولة شد العزم، بحالةٍ ترهص برياح ممانعة عربية رسمية متخيلة قد تعم في ظل تعثر المشروع الأمريكي في المنطقة، وبوادر تراجع يتضح للسطوة الأمريكية في العالم؟!

وإذا كنا، وفق ما عودنا عليه السائد، أكثر حذراً، وأقل تفاؤلاً، فلا يمكن تجنب سؤال آخر، وهو:
هل مفاوضات الإملاءات، وفق تعريف عريقات، وجلساتها التي تعدت المائة، قد أفضت إلى "اتفاق رف"، وفق المصطلح الجديد الذي اتحفونا به، أي يوقع سراً ويترك جانباً على أن يعلن في الظرف المناسب، تأتي الدعوة للحوار اليوم توطئة لتمريره!

التهدئة المقبولة إسرائيلياً بشرط التفاوض عليها لاسرلتها، والحوار الذي يتم بالتوازي مع مفاوضات الإملاءات، ودونما الاتفاق على برنامج حد أدنى وطني متفق عليه، ولا بمشاركة من كافة قوى الساحة الفلسطينية وطناً وشتاتاً، أي ليست حكراً يدور ثنائياً فحسب بين شقي السلطة في رام الله وغزة، ولا يؤدي إلى التوافق على استراتيجية نضالية تهدف للتحرير وليس التمرير، لحمتها وسداتها الثوابت والحفاظ على حقين: المقاومة والعودة، إنما هو لعب في الوقت الضائع الذي يستنزف لغير صالح قضية تجري عملية محاولة تصفيتها على مدار الساعة، في ظل تواطؤ دولي وعجز عربي... تصفية لا يحول دون إتمامها إلا الدم الفلسطيني، والإيمان الشعبي العربي الأبدي بمركزيتها!

التعليقات